رأي

عبد الرحمان شحشي: سياقات استقلال المغرب: من التوافق إلى الصراع

ثانيا. سياق الصراع

انفجار التناقضات حول طبيعة الاستقلال

.3 مفهوم حركة المقاومة وجيش التحرير للاستقلال:

كان لحركة المقاومة وجيش التحرير مفهوم آخر للاستقلال يخالف مفهوم "الاستقلال التفاوضي" الذي شاركت فيه المؤسسة الملكية وأجنحة الحركة الوطنية، وخصوصا حزبا الاستقلال والشورى والاستقلال في مؤتمر إيكس ليبان، ما اعتبره الخط التحريري لحركة المقاومة وجيش التحرير نكسة للأمة. وبسبب هذا الموقف المتطرف تم إقصاؤهم من قبل بدء المفاوضات. ومن تداعيات هذا الموقف كذلك استبعاد، مستقبلا، حركة المقاومة وجيش التحرير من أي معادلة سياسية؛ وبالرغم من ذلك فهي حسب "الخطيب" سرقت الأضواء من كل "الذين كانوا يريدون وقتها احتكار مسيرة التحرير لأهداف مجهولة الأبعاد...". ويضيف الخطيب عبد الكريم أن "من مميزات تلك العناصر أنها لم تكن تخضع وقتها لأي تيار أو لون سياسي، بل كانت تقاتل تحت لواء المغرب..."، إذ كان يصنع التاريخ بالدماء؛ "وهذه العقيدة ظلت قائمة تعتمد إستراتيجية حمل السلاح حتى بعد إعلان الاستقلال... أيا كانت العوائق التي عجلت بإنهاء مهمة جيش التحرير في الجنوب، فإنه كان له السبق في إثبات حق المغرب حربيا وقتاليا في الصحراء... قبل أن تدخل في متاهات حرب الاستنزاف المفتعلة ومسلسل التدويل...، لذلك لم يدخل جيش التحرير أي مفاوضات لا سياسية ولا عسكرية، ولم يعلن وقف إطلاق النار ولم يوقع على أية وثيقة أو اتفاقية، لمهادنة الجيش الفرنسي".

أما "المهرولون" إلى مؤتمر إيكس ليبان لبناء "استقلال تفاوضي"، ومنهم وفد حزب الاستقلال الذي "لم يترك له سوى خيار الاستعطاف والمناشدة الأخلاقية أمام اللجنة الوزارية الفرنسية. فمن جملة ما قاله عبد الرحيم بوعبيد في خطاب له أمام هذه اللجنة: "إن الحماية الفرنسية جعلتنا نتصل بالعالم بعد أربعة عشر قرنا من العزلة الشديدة، حتى بالنسبة للأقطار الإسلامية...لقد ترسخت شخصيتنا بفضل فرنسا، ونصبو إلى ازدهارها..كما نريد أن نصبح دولة حرة ذات سيادة بمساعدة فرنسا، ونحن مستعدون أن نحترم المراحل التي تقتضيها الظروف، فالاستقلال قد لا يأتي اليوم أو غدا... إن غاية نضالنا هي الاستقلال، فإذا لم يكن بوسع فرنسا أن تمنحه لنا فلا أقل من أن تعترف بتوجه مغربي نحو هذا الاستقلال"؛ وهو الطرح الذي ترفضه حركة المقاومة وجيش التحرير جملة وتفصيلا، لأن ما انتزع بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، ولأن الاستقلال ليس منحة ولكن حق.

إن جيش التحرير كان يطمح إلى مفهوم "الاستقلال الواقعي" وليس الشكلي، أي أن يتحرر المغرب في كل شبر من ترابه. وهكذا كان زعماء جيش التحرير في الشمال والجنوب متشبعين بروح الكفاح المسلح من أجل تحرير البلاد كلها، ولهذا لما رجع محمد الخامس من المنفى كان لا بد أن يجد وضعية سياسية وعسكرية خارجة عن كل سيطرة، رغم ادعاءات حزب الاستقلال بأن حركة المقاومة وجيش التحرير تحت سيطرته. ويقول عبد الكريم الخطيب في هذا الباب إن قادة المقاومة فوجئوا لما بدأ السياسيون يتسابقون للالتحاق بالبعثات الفرنسية التي كان يرأسها "إدكارفور" آنذاك. هؤلاء السياسيون كانوا من حزب الاستقلال ومن حزب الشورى والاستقلال... ولا يمكن أن ننسى المواقف المخزنية لبعض السياسيين الذين كانوا ينعتون المقاومين بالأبطال الإرهابيين ويستنكرون علانية الأعمال التي يقوم بها أبطالنا..."؛ فكيف لحزب الاستقلال أن يستنكر أعمال المقاومة وهي تحت سيطرته؟! وبنوع من الحسرة يجيب الخطيب: "يستنكرون... الأعمال... التي كانت السبب الرئيسي في إطلاق سراحهم ورجوعهم من المنافي..."؛ وهكذا يضيف أنه في عز وعنفوان حركة المقاومة وجيش التحرير زار المهدي بن بركة رجال المقاومة بتطوان ليلا "ليطلب منا وقف عمليات المقاومة وجيش التحرير وقضى معنا ليلة كاملة يحاول إقناعنا برأيه، مرددا أنه لا يمكننا أن نتفاوض مع الحكومة الفرنسية إلا إذا أوقفتم أعمالكم الفدائية، وكان هذا شرطا أساسيا قدمه الفرنسيون لبعثات الأحزاب السياسية المغربية، وبعد ساعات طويلة من النقاش قال له أحد الإخوان وهو اسعيد بونعيلات: "المهدي.. من أرجعك من المنفى؟" أجابه المهدي: "القرطاس" فقال له بونعيلات: "سر فحالك القرطاس إيجيب الاستقلال".

ومما يدعم طرح الخطيب أنه لما تحمل مسؤولية "جيش التحرير" اتصل بقادة حزب الاستقلال للبحث عن قائد عسكري للجيش فلم يجد منهم أذانا صاغية/ حتى إن محمد اليزيدي "الذي سبق له أن كان ضابطا في الجيش الفرنسي عرض عليه الأمر، فأجابه "بأن حزب الاستقلال حركة إصلاحية غير ثورية".

وأمام هذا الموقف والطرح "الواقعي" للاستقلال المتعارض سيبدأ مشروع تصفية حركة المقاومة وجيش التحرير، والذي سيدشن أولى خطواته باغتيال "عباس المسعدي"، وهي القضية التي مازالت تحوم، إلى حد اليوم، حولها مجموعة من الملابسات وترخي بمجموعة من الظلال. وهكذا تعتبر الرواية الرسمية أن "المهدي بن بركة" هو من سخر "كريم حجاج" لتصفية "عباس المسعدي"، أحد زعماء المقاومة وجيش التحرير بالشمال، إذ يقول الحسن الثاني: "هذه هي القصة، فبمجرد القبض عليه اعترف لنا بأنه قتل المسعدي، وهدانا إلى المكان الذي دفنه فيه وقال: "قتلته بأمر من بن بركة"... وابتداء من ذلك الوقت لم أعد أكن...الاحترام... لأستاذي". ونفس الطرح يتبناه السيد "المحجوبي أحرضان"، إذ انتهى عهد الحسن الثاني دون أن يتم طي ملف هذه القضية؛ فكلما أثيرت قضية اغتيال بن بركة كلما أثار أحرضان قضية "اغتيال عباس المسعدي الذي يلصقه بالمهدي بن ببركة، فهو لا يثير هذا الفعل الإجرامي الذي تعرض له أحد أبرز أعضاء جيش التحرير بالشمال إلا ليواجه به من طالب بالحقيقة في الفعل الإجرامي الذي تعرض له أحد أبرز القادة السياسيين المعارضين..." .

لكن "أحمد البخاري"، عضو المخابرات المغربية، في كتابه "السر" يفند الرواية الرسمية بطرحيها –(الحسن الثاني / المحجوبي أحرضان)- حيث يعتبر أن هذه التصفية كانت بأمر من الغزاوي – (المدير العام للأمن الوطني ورئيس المخابرات السرية وقتها). وقد نفذها ثلاثة رجال من الأمن السياسي، بمقابل مادي؛ أراد الغزاوي التخلص من "المسعدي ففكر في ضرب عصفورين بحجر واحد، تركيع الشمال وتلويث سمعة المهدي بن بركة...".

وفي الاتجاه نفسه يكتب "محمد لخواجة" مقالا ردا على تصريحات المحجوبي أحرضان تحت عنوان "قتل عباس...علقو بن بركة!"، مستغربا "أمر بعض الذين يحسبون على "نخب" هذا الوطن، لأنهم يتلذذون بالتمويه...إنهم بهذه السلوكات يساهمون في نشر الإشاعات التي لا طائل ورائها... وقد راحوا في الآونة الأخيرة يستدرون عطف بعض النخب الأمازيغية الشرفاء علهم يقحمون أحداثا ماضية وصراعات مقيتة..".

أما رواية عبد الكريم الخطيب، من مؤسسي جيش التحرير، ورفيق درب عباس المسعدي، فتقول إنه "في أثناء غياب المسعدي عن "خزناية" لتقديم بعض قادة جيش التحرير للقصر الملكي بالرباط، زار المهدي بن بركة رفقة مسؤولين في الحزب منطقة خزناية بكيفية سرية، وحاولوا....إقناع أعضاء جيش التحرير بالانفصال عن قيادتهم والالتحاق بصفوف حزب الاستقلال، فاعتقلتهم المجموعة التي اتصلوا بها، إذ كانوا لا يعترفون بأي حزب من الأحزاب... ووقع بعد ذلك اجتماع بالرباط بين مسؤولين كبار في المقاومة السرية ومسيرين من حزب الاستقلال، كان من بينهم المهدي بن بركة، وقرروا إلقاء القبض على عباس المسعدي بتهمة أنه كان يستعد للثورة على الأوضاع... فقرروا محاكمة عباس المسعدي بتهمة الخيانة العظمى.

وبعد اغتيال عباس رحمه الله وإلقاء القبض على كريم حجاج، الذي كان مسؤولا عن ذلك، قال لي بنفسه بمدينة فاس... إنه لما طلب منه اغتيال عباس أجاب بأنه سيلقي عليه القبض فقط، لكن أثناء محاولة إلقاء القبض عليه وقع ما وقع، فمات عباس داخل السيارة...".

والواقع أن فتنة كانت ستقوم بالمغرب إثر هذه الواقعة، إذ بمجرد وصول خبر مقتل عباس المسعدي إلى الريف قرر رجال المقاومة وأعضاء جيش التحرير الذهاب إلى فاس للانتقام، ولكن تدخل ولي العهد المولى الحسن لحقن الدماء، "فاضطر رئيس أركان الجيش الملكي... إلى الذهاب إلى تازة صحبة وزير الداخلية إدريس المحمدي وعدد من الضباط من أجل إيقاف هجوم المجاهدين على فاس، فقد كانوا يعتقدون أن جميع سكان فاس مشتركون في الجريمة...".

وإثر تصفية "عباس المسعدي" قام الدكتور الخطيب والمحجوبي أحرضان بتنظيم مظاهرة خلال الجنازة للاحتجاج ضد المجرمين وضد حزب الاستقلال، وقرر تأسيس حزب، مبتعدين بموقفهما كثيرا عن أصدقاء الأمس.

وقد التحق بجيش التحرير كثير من أفراد الشعب المغربي، ووجد نفسه محمد الخامس في سنة 1955 في مواجهة قوى سياسية مجهولة لا يعرف من المسؤول عنها.

لكن لما تيقن الملك من أن حزب الاستقلال لا سيطرة له على جيش التحرير أوكل مهمة التفاوض مع قادته إلى "ولي عهده المولى الحسن "لإقناعهم بالانضمام إلى "الجيش الملكي الذي كان محمد الخامس بصدد تكوينه، وكان جيش التحرير الذي تأسس في غياب الملك مازال قائما بعد الاستقلال، نظرا لعدم ثقته في الاتفاقيات المبرمة مع فرنسا.

كما نشب الخلاف بين علال الفاسي ومحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي رفض دمج جيش التحرير بالقوات المسلحة الملكية قبل الانتهاء بصفة عامة من المفاوضات بين المغرب العربي وفرنسا".. وقبل أن تتحرر سبتة ومليلية بالشمال والصحراء المغربية بالجنوب، وهو نفس الطرح الذي يتبناه د. عبد الكريم الخطابي الذي يعرب عن اندهاشه من الطريقة التي تم بها دمج جيش التحرير في الجيش الملكي، وذلك بعد عودته من القاهرة، حيث لما طلب منه الأمير وولي العهد المولى الحسن أن يأمر أعضاء جيش التحرير بأداء القسم امتنع، إذ يقول: "...وطلب مني أن آمرهم بأداء القسم، فامتنعت، وقلت: "أنا لا أوافق على الاندماج في هذه الظروف"؛ فطلب إدريس المحمدي وزير الداخلية من الحاضرين أداء القسم، وانضموا بذلك إلى الجيش الملكي، وكان قد انضم قبل ذلك آخرون... سألتهم: ماذا فعلتم؟ فأجابوا: انضممنا إلى الجيش الملكي... فكنت في ذلك من المتفرجين ولم أسألهم من قريب ولا من بعيد في ذلك. كنت أتمنى أن يستمر جيش التحرير في مهمته، إذ كنت أرى أن مناطق كثيرة لم تحرر بعد، كالصحراء الغربية والصحراء الشرقية، وكنت أتمنى أن يستمر الكفاح من أجل تحرير جميع الأجزاء المغتصبة". ولكن دهشة الخطيب ستتعمق إذ يجد أحد الأعضاء المؤسسين لجيش التحرير وهو السيد عبد القادر بوزار مجتمعا في سلا ببيت اليوسي بحي بطانة مع البكاي وقادة منظمة الهلال الأسود لتسوية ترتيبات إدماج جيش التحرير بالأطلس بالجيش الملكي، إذ يقول:

"أخذت عبد القادر بوزار على حدة وقل له: "كيف أقدمت على هذا دون استشارتي؟"، فقال لي: "هذه رغبة الملك".

وأمام الطموحات المشروعة لمفهوم "الاستقلال الواقعي" لجيش التحرير، وأمام توجهات المؤسسة الملكية وحزب الاستقلال المتوافقة حول مفهوم "الاستقلال التفاوضي"، بدأت الأفكار تختمر حول تصفية الجناح المتطرف داخل جيش التحرير والمقاومة.

وهي المقاومة التي قال في حقها الأستاذ محمد عابد الجابري إنها "رفضت الواقع رفضا..بعد أن تبين لها بالتجربة فشل المساومات وعدم جدواها..، حيث طرحت عرض الحائط الاعتبارات الفارغة وكفرت بالحلول السياسية المبنية على المساومة التي لا ينتج عنها إلا أنصاف الحلول.

ولكن ما إن تحقق الاستقلال وعودة الملك، وما أن مرت فترة استراحة ممزوجة بنشوة النصر الخلاب حتى ظهر للناس جميعا، الحاملين منهم للسلاح والمناصرين المؤيدين لهؤلاء، أن الكفاح لم يتم، وأن النضال لم ينته...والذي أصبحنا اليوم نأسف له هو أن الفكرة الثورية التي كانت توجه المقاومة... لم تأخذ الدرس الذي كان عليها أن تأخذه منها، فقد وقع شبه انتكاس....وبدأ يظهر للجميع مدى تفريط المقاومة في التشبث بالفكرة الثورية، ما جعل الأوضاع تعود من جديد إلى الانحلال والفساد..."، فلما سلمت المقاومة وجيش التحرير، في جناح منها، السلاح للنظام كانت قد ساهمت في التخلي عن المبادئ التي من أجلها خلقت. كما ساهم "النظام" في فض يديه من هذه المقاومة، إذ أصبح الذين "طردوا الاستعمار بالأمس...اليوم مطاردين".. "كانت تضطهدهم بالأمس قوات الاستعمار، فأصبحت اليوم شرطة وقوة المغرب المستقبل بفضل تضحياتهم ...تطاردهم وتضطهدهم...". وهكذا سيمنع المقاومون من رؤية الملك لإنصافهم وسيكتب الجابري دفاعا عن هؤلاء مقالا بالتحرير تحت عنوان كبير: "نحن أرجعناه فكيف تمنعونا من مقابلته؟". ولكن الاستجداء لم ينفع أمام مؤامرة كانت تحاك فصولها في صمت، ما أخرج "مأساة المقاومين"... وساهم في حملة القمع التي شنت عليهم باسم "المؤامرة على ولي العهد" فكانت "مؤامرة مزعومة للتغطية على المؤامرة الحقيقية"، وكان واضحا أن اعتقال البصري واليوسفي إنما كان تدشينا لحملة قمع واسعة ضد المقاومة، وهكذا سيتم اختطاف المقاوم "ميشيل الحريزي" وهو الحاج الجيلالي الحريزي... غير أن تنفيذ المخطط على نطاق واسع لم يبدأ إلا في منتصف شهر فبراير 1960 الذي شهد حملة اعتقالات واسعة النطاق طالت كبار المقاومين، كما طالت جيش التحرير الذي كان يعمل في الصحراء ...".

ويضيف الجابري أن "المقاومين ... قاموا بردود فعل عنيفة أثناء الحملة التي شنت عليهم في فبراير 1960 بتهمة التآمر على ولي العهد؛ إذ لم يشملهم قرار إطلاق السراح"، بل تركوا يواجهون المحاكمة التي انتهت بصدور حكم الإعدام في حقهم بتاريخ 24 يناير 1962، ونشرت التحرير الخبر في الصفحة الأولى تحت عنوان "إعدام أربعة مقاومين في السجن المركزي بالقنيطرة". وحين تنفيذ الحكم في حق "محمد بنحمو" ثار صارخا "اتركوني أرى ولآخر مرة سماء المغرب الذي أموت في سبيله"، أما "عبد الله الزناكي" فهتف عاليا: "يحيا التاريخ". أما ثالثهم فقد صاح يقول: "هذا ما يجازينا به الإقطاع".

أما المقاوم "أحمد أكوليز"، المعوف باسم "شيخ العرب"، وهي مقاومة سرية وتصوفية لرؤوس الفساد القديم والجديد من قياد وعملاء فرنسا وبقاياها بالمغرب، ولم يتم القضاء عليه إلا بعد مطاردات شاقة، وملاحقات طويلة، أصبح اسمه يؤرق دوائر الأمن ويرهبها.

وسيعبر "الفقيه البصري" بعد عودته من منفاه الاختياري إلى المغرب، حول ملابسات الفترة الانتقالية نحو بناء الاستقلال، قائلا: "...من البداية...كنت أتوقع ما كان سيحدث، وكنت أقول ذلك لإخواني داخل السجن – قبل هروبنا منه – ومازال عدد منهم يذكر ذلك إلى اليوم، ويذكرون أنني كنت أقول "سيرجعنا الاستقلال على السجن".

تأكد ذلك في ما بعد عندما طرحت شرعية المقاومة، هل هي شرعية الشعب؟ بدأ الشعور ببوادر الانتكاسة، وأن مقبض المنجل هو الذي تغير، وأن السلطة هي التي استبدلت وانتقلت من يد إلى يد..."، وبأن صور الاستقلال ولدت "وهي تحمل ملامحها...".

ولكن فصول المؤامرة، الأكثر درامية، هي عملية تصفية حركة المقاومة وجيش التحرير في "عملية إكوافيون" العسكرية المشتركة بين القوات المغربية والفرنسية والإسبانية ضد جيش التحرير الذي وصلت طلائعه إلى الجبهة الموريتانية، وهي العملية التي ألحقت خسائر فادحة بهذا الجيش الوطني، والذي لازال قادته وزعماؤه وأعضاؤه واقعون تحت الصدمة يتساءلون بمرارة كيف تم ذلك؟.

وهكذا تم تحييد جيش التحرير سياسيا، عبر تذويب، جزء كبير منه، في القوات المسلحة الملكية. أما الجناح الذي رفض وضع السلاح تم تدميره في عملية "إكوافيون" واعتقال جزء منه، أما الباقي ففر خارج المغرب.

لكن بحل جيش التحرير طرح مشكل هذه الأسرة الكبيرة من المقاومين، وطرحت الأسئلة حول مآل هؤلاء الذين دافعوا عن استقلال المغرب؟.

لقد تعالت مجموعة من الأصوات ومازالت تنادي بإنصاف هذه الفئة من المجتمع المغربي، "دفاعا عن أسرة المقاومة وجيش التحرير "؛ وهو الطرح الذي يتبناه الحاج الحسين برادة، عضو المجلس الوطني المؤقت لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، إذ يتساءل: "لماذا الدفاع أصلا عن النهوض بأوضاع أسرة المقاومة وجيش التحرير؟..

ومجيبا: "عندما نضع الإشكال بهذه الكيفية فإننا في الواقع نطرح مفارقة قاسية.

من جهة أولى انطلقت في السنوات الأخيرة وبسرعة مثيرة عملية تصفية ملفات الماضي المؤلم...ومن جهة ثانية، تتعثر عمليات تصفية ملفات الماضي المشرف المتعلقة بأمجاد الجهاد ضد طغيان الاستعمار. والنتيجة استمرار أوضاع هؤلاء الوطنيين المخلصين في الانحدار رغم مرور حوالي نصف قرن على الاستقلال...". ولهذا يعتبر الحاج الحسين برادة أسرة المقاومة "أمانة في أعناق الخلف للسلف"، إذ سيتطرق لدواع و"ظروف تأسيس المجلس الوطني المؤقت.."، معتبرا أن "قطاع المقاومة وجيش التحرير الذي كان في وضعية من الفوضى والعبث..في يد وزير الداخلية الجنرال محمد أوفقير، الذي أعطى وجها غير مشرف لهذه الأسرة المخلصة حين أقدم على وضع مسطرة لتخويل صفة مقاوم لكل من هب ودب من خونة وعملاء ومرتزقة، وهو ما أفقد "بطاقة مقاوم" قيمتها التاريخية وشرفها وعزتها وحريتها وكرامة حامليها، وذلك بغرض تعويم الساحة وإغراق مدلول المقاومة واغتيالها...".

المراجع:

1- محمد الشرقاوي : مجلة المقاومة وج .ت / العدد 8و9/ يونيه وشتنبر 1984/ مطبعة المعارف الجديدة / الرباط.

2- المندوبية السامية لقدماء المقاومين / ندوة المقاومة المغربية " جامعة بن زهر / 13-15 يونيو 1991.

3- الحاج الحسين بادة : دفاعا عن أسرة المقاومة / 2003/ المطبعة فيديبرانت / الرباط – المغرب.

4- الفقيه البصري : سيرة حوارية مع حسن نجمي / منشورات محمد الزرقطوني / 2002 / البيضاء / المغرب

5- عبد الرحيم الورديغي : الخفايا السرية .../ مجلة المقاومة / العدد 12 / يونيه 1985 / مطبعة الصومعة /

6- محمد عابد الجابري : المقاومة فكرة ثورية / مواقف / العدد 2 / الطبعة الأولى / 2002/. دار النشر / البيضاء /

7- (*) - Nadir Bouzar (dit Abdelkader) : L’armé de libération national : 1955-1956, retour sans visa (journal d’un résistant maghrébin ), éditions publusud / France / Paris / 2002.

8- محمد أمزيان : محمد عبد الكريم الخطابي / منشورات اختلاف / العدد 12 / الطبعة الأولى / 2002/ / المغرب.

9- عبد الحي حسن العمراني : أبطال الحركة الوطنية الوطنية / 1996/ مطبعة النجاح الجديدة / الدار البيضاء

10- مصطفى أعراب : الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال / منشورات اختلاف / 2002

11-مذكرات إدغارفور : الخفايا السرية لإيكس ليبان / دفاتر وجهة نظر / العدد 2 / ط الأولى / 2002

12- مجلة المقاومة / محاكمة اليد السوداء (جلسات يونيو / (يوليوز 1954) / العدد 35 / 1993 / دجنبر

13- عبد الله إبراهيم : ثورة تقدمية ذات طابع تاريخي تصطدم بقوة رجعية مضادة / 30/08/1995 / المغرب

14- عبد الكريم غلاب: تاريخ الحركة الوطنية / الجزء الثاني / الطبعة الثالثة / 2000 / مطبعة النجاح الجديدة -

15 - الدكتور عبد الكريم الخطيب: مسار حياة / (تنظيم الجيش) / الطبعة الثالثة / 2003 / مطابع أمبريال

*أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بكلية الحقوق – جامعة الحسن الأول بسطات