رأي

الوعي بالقيم ومآلاته

مصــطفى غَــلْمَـان

تجتاز تداولات القيم في حياتنا اليومية مرحلة صعبة لم تطأها أرض الأكسيولوجيا من قبل، ولا فلسفات الفكر الإنساني بوعيها الأخلاقي ومآثرها في فضائل الحق والجمال. وأضحى القلق على حضور هذه القيم في النسيج المجتمعي الراهن مثار أسئلة تتوزع بين تشتت القيم وانقسامها على نحو يفرض تفكيك أسباب الضمور والانكماش، وانعدامها بالقطع والغياب. وشواهد عديدة تستدعي وقفات للتأمل والحوار، منها ما هو مرتبط بالخلفية السوسيولوجية للظاهرة. وأخرى تتعلق بالواقع السيكولوجي والتغيرات الجديدة التي طرأت على المجتمع.

ويأتي الإحساس بالخوف من فقدان القيم ككثلة مركزية لمنظومة الأخلاق وإنسية الكائن البشري، ليزيد من واقع الانحراف في فهوم مبدئية القيم واقتدارها في الحفاظ على وقود العيش للوجود ذاته، وارتفاع أو سمو العقل الإنساني من بلوغ ما يميزه عن باقي الكائنات الأخرى.

وبين الغرابة البالغة دروة الشك وانعدامها يصل العبور الخافت نحو القيم كالشبح المتربص بالضحية عند امتلاء خطوط الليل بآخره. فبينما تتخبط القيم في وابل من الهجر والنفوق صوب قطائع وارتدادات عن أخلاق الحق والجمال والتسامح والسلم الاجتماعي والأمن الروحي، يسري في عصر السرعة وتكنولوجيا المعلوميات العالية الدقة سيل من جنون يرقى لمستوى وصفه بالغاصب للذوق والشارد عن رؤية الحقيقة والمائل إلى البياض والصمت السلبي والكاشف الفاضح لعورات الأعراض والخصوصيات.

وفي الجهة الموالية ينطبق المثال على الفعل الإنساني المنحرف، الذي يقلب صورة الباطل حقا والشر خيرا والقبح جمالا، ويلتئم العمل بوقود أضداد القيم في العلامات الظاهرة البينية، فتنتعش وترتوي حتى تصير واقعا ومنجزا في الاكتساب والصنو. وتسري مضانها بين الناس لتصير عادة، وهكذا دواليك. تتمكن القيم الدخيلة الجانحة من فظ الاشتباكات وتحقيق قوة الدفع وتنظيم بواعث التعاقدات الاجتماعية والقيمية بين الأفراد والجماعات، حتى يسهل التوطين وتتعمق، ويصير لها جيش وأسلحة وبنيان وقلاع.

القيم المحصنة تفقد عصابيتها وعزوتها، والمندسة تستأثر بالمكانة المندسة، تحصر مواقعها ولا تتردد في الهجوم على ما تبقى من أوثار وحصون. يسهل على الذين يهددون الهوية والثقافة والحضارة في وجودها الانتصاب فوق أكمات منصات الخرق والقطع والدس والتجريف، فتكبو راية الأجيال ويتخلف مناط السيرورة وينفلت زمام الوصل.

في فضاءات تملأ حيواتنا بأحداث شهدت يوميا تنفيذ أحكام الإعدام على قيمنا وأخلاقنا، يتكرس الجحود والإفراط في تعذيب جزء من تراث وتاريخ، شهد قيم إنصاف الأستاذ المربي والأب الرؤوم.

وفي متلد الأسرة الصغيرة وتحت سقف البيت الذي شهد على نمو عضلاتنا وارتفاع أكتافنا يتشكل الذئب المفترس ويتكسر الحب تحت وقع جنونه والتباسه، كما في الشارع العام والمكتبة والحديقة والمدرسة .. وهلم جرا.

لا يستثني التحول القيمي في القابليات الضعيفة للقراءة والوعي بالمعرفة، الانتقال من قيمة الحياة كوجود ومسؤولية. بل يتجاوزها إلى الحدود الدنيا من الشعور بالآخرين.

تسنمت العقيدة بكبريائها المحموم وانتقائيتها الفوضوية وتدافعها اللقيط من أجل المسخ والتشويه، وتكالبت هذه المقامع المزيفة الهدامة لتحول كل أنساق السلوك الإنساني إلى ما يخالف الطباع وسعة الفكر. وصار للوضيع مذهبا ينش عليه ويرعاه، ودارت على الدوائر عيون من لا ينظر إلا بهواه، فلا يرى إلا ما يرى، ولا يجتبي إلا من يضعه في صفه وتحت يديه.

وإذا كان هذا مآل القيم، فكيف بنسبياتها المحمومة على القوة والمادة والسلطة؟ هل تروم احتمالها تنصيب ما يلائم نظريتها واستمراريتها وقطعيتها؟

إن القيم التي تسلك قطف البذار من أرض نظيرة شاهقة هي من تملك وحدة وجودها وسر تباتها وانفعالها مع المحيط والمجتمع، أما الفتن السالبة منها فمصير للتجادل والرزية، وهي على مقامها المتلون تسقط في فخاخ الموت، بعد طول انتظار إلى نهاية متوقعة.