قضايا

نظرات في أسئلة الثقافة وراهنيتها

مصطفى غلمان

1 ـ إذا كانت الثقافة هي احتكار المعرفة والاستئثار بمصادر سلطتها، يمكن هنا تعيين سؤال الأزمة رأسا، وتفكيك براديغم الفعل والممارسة الثقافية على أساس الامتداد والصيرورة، بالتأثير المباشر على الواقع المجتمعي.

أما إذا كنا نعني بالثقافة جينوميات الإنتاج الوظيفي والبيداغوجي للأنساق والمعارف البديلة، ومواءمتها بالأشكال الحداثية الإبداعية والفكرية الجديدة، فإن الأمر يحتاج تدقيقا حاسما في مدى أهمية المشروع النهضوي الثقافي في بلادنا، ليتكامل مع مستويات الإعمار وبناء الإنسان وتحقيق القطيعة الإبستمولوجية من داخل الثقافة وليس من خارجها.

حينما سئل أرجون أبادوري عن حتمية الثقافة في المشاركة المدنية وتحديد الرؤية أجاب بإمعان بأن الارتقاء المجتمعي لا يمكن تحقيقه من دون مواجهة فكرية وانتقال فكري، فالحضارة سلوك إبداعي ومعرفي حسب نظره.

أما الارتباط بالتعدد الثقافي شكلا ونظاما فهو بديل للتمييز والفوارق الاجتماعية والثقافية. وفوق ذلك فإن تطور الثقافة في المجتمع هو نتيجة للتدافع نحو تكريس تدفق الخيال في الحياة اليومية، بما في ذلك الروافد العميقة للعولمة التي تدبر طفرة التبادل الثقافي وتصاعده المدهش العابر للحدود.

أعتقد أن الثقافة المغربية هي بين النظرتين الضيقتين لأفق تأويل الممكن من اللاممكن؛ هي لا وحدة ترغي في حدود متاخمة للثقافة السائدة التي لا تتحرر من عقد الذات، ومن تأويلات الماضي.

لازالت ثقافتنا منذورة للتيه والضياع، ومتنافرة بالقدر الذي يعيقها من تخطي عقبات تدبير التنمية وترسيخ مفهومها في الوعي الوطني.

وإذا قدر لنا أن نعيد صياغة منجزها وحماية صناعتها باسم التقاليد والتنوع الثقافي، فإن نزعاتنا المستبدة نحو إعادة التأسيس ومواكبة عولمة المنتج الثقافي في هيكلة الارتدادات الثقافية وكونياتها ستتطلب ممارسة نقدية حديدية للمثبطات الكبرى والعلامات القاطعة المانعة من توجيهها وتحويلها لورش قابل للتحقق والمناجزة.

2 ـ الممارسة الثقافية في المغرب تجتاز مرحلة الشكية وإدمان الحلول الجاهزة، إلى معاودة الانطباع بالوفرة والتكرار، التي تحول دون تقديم رؤية شاملة عما تفعله الآليات الثقافية والمشاريع والمبادرات والخطط والإستراتيجيات.

صحيح أن الممارسة الثقافية الآن أضحت وازعا بنيويا في مظاهر التأثيث الجديد لفضاءات المجتمع المدني، وصحيح أن التقعيد القانوني والدستوري لهذه الممارسة بدأ يقابل محفزات التنمية المجتمعية ويحفزها على الظهور بوشاح التمكين والتوسع؛ لكن الوعاء الجامع لهذه المغامرة أضحى منفلتا ونافذا في الهوامش، غير مؤثر في القابلية الثقافية النموذجية، التي تنفعل وتتفاعل مع طبيعة المجتمع وتعدده واختلافه. زد على ذلك تواصل إخفاق الدولة الرسمي في جعل الثقافة جسرا لعبور التنمية ووعاء جامعا للنهضة، على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعمرانية، مثلما هو الحال بالنسبة لأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية.

إننا مع الأسف الشديد نمارس الثقافة فوق الحبل، ونضع متاريس للسقوط في المكامن قبل إغلاق الطريق. الثقافة قوة جاهزة للإطلاق، تقع دوما في القيمة التي نضعها فور إيماننا بضرورتها. لا نحتاج فقط لمبادلاتها وتداولها ومحاكاتها، وإنما نستطيع بوجودها أن نغذي الشعور لدى أجيالنا القادمة بتجسيرها وربط وحداتها من داخل المدرسة والجامعة والأسرة والمجتمع المدني، في الأحزاب السياسية والتمثيليات المنتخبة، وفي المؤسسات العمومية.

يجب أن يكون للثقافة والمثقف صوت يميزه عن غيره في الصفة الثاوية للوعي الاجتماعي حسب إدوارد سعيد، واجهة تمثل الضمير الناظم لرساليته وانخراطه العضوي في الحياة العمومية، وفي ترسيخ المعرفة وصناعة القيم والأخلاق، ومسؤولية الرقابة وحماية التاريخ.

3ـ المثقف المغربي مغلوب على أمره، فوضعه يشبه القارب المخروم، يحاول تنحيته عن الغرق، وهو إلى المصير غاد يترجى رحمة ومن قبله عذابات وهموم!

المثقف الغرامشي اليوم يتخفى في أثواب أخرى ليبرالية وتقليدانية وأيديولوجية، يتمنع عن مواجهة أسئلة المجتمع وأقانيمه المقدسة، يحاول التمسك بمظاهر الإخفاء وظروف الانتظارية، تحت قهرية متلازمة مشدودة لأفق التعتيم وسوء الرؤية.

تولد لدى المثقف المغربي شعور سحيق بالفقدان والاجترار والبؤس الفكري، وأضحى حمال أوجه، صورة ناسخة للعقم والابتذال والمغامرة.

مؤسف جدا أن أقول ذلك، لكن الحقيقة مرة. أنظر كيف تتمكن السلطة من تحويل مفكر إلى أداة للتمويه، وكيف تستطيع الدولة اللاثقافية أن تنمط العقل الثقافي للكائن وتمسخه وتعيد عجنه حسب هواها، تتوسل بالدلالات الإغرائية لهتك قيمته العلمية والعملية. أليس ذلك مدعاة للغرابة في وقت نطالب أجهزة التحكم والاستبداد بإضفاء صفة الرهان الثقافي على برامج التنمية البشرية والاستدامة؟!

أعجبني تدليل جميل للناقد العربي عبد السلام المسدي، في مقام تحديد الدور الجديد للمثقف اليوم. قال المسدي: ".. قد لا يكون فضولا أن نستطيع من شواهد موروثنا الفكري ما يعين على تحديد سمات المثقف، وتحديدا في اقترانه بأمانة الانتماء، وفي اضطلاعه بأعباء المسؤولية الفكرية المنصفة".

إنه شعور ميتافيزيقي بالوقوف خلف استعادة الدور. على الأقل صورة الحفاظ على الهوية التي تشكل قيدا كبيرا على وجود مهدد بالخطر الحضاري والعمراني.

من أولى أولويات هذا التضمين الإشكالي لسؤال الهوية الثقافية واللغوية المراهنة على التحديد الوقفي لسمات المثقف. وبالتصميم الإستراتيجي على تجديده المعرفي وارتقائه الهوياتي وتصحيحه لمسار الفكر والتحولات التي راكمت جوانب مهمة من وظيفته وقضاياه الكبرى، ومنها الثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة وأبعادها، ومنافذ الحداثة واستنباطاتها العقلية والإبداعية.

Ghalmanepresse@gmail.com