رأي

عبد اللطيف مجدوب: ابن خلدون السباق إلى إنصاف العرب

عبد اللطيف مجدوب

تساؤلات حارقة

في ضوء بؤر النيران التي تجتاح أطرافا من جغرافية البلدان العربية ، وكذا موجات الصراعات السياسية والاجتماعية التي تعصف بها ؛ تعنّ في الأذهان تساؤلات مؤرقة : هل هذا التمزق شذر مذر هو قدر الشعوب العربية ؟ كيف للحاكم العربي أن يهبَ في سبيل كرسي السلطة النفس والنفيس ، حتى ولو انتهت حياته أشلاء في الخلاء بعد أن قذفت بها أيادي الأصدقاء العداة ! كيف لهؤلاء القتلة أن يجدوا متعتهم في سفك دماء بعضهم البعض.. وهل العقيدة الإسلامية حاضرة لدى هؤلاء بهذا الرعب وهذه البشاعة...؟ أم إنهم باتوا بيادق في أيدي ظلمة غاشمين؛ يسعون إلى إبادة هذا الجنس ومحوه من على وجه البسيطة؟!

في خضم هذه التساؤلات الحارقة يحضر في أذهاننا المؤرخ العربي الأندلسي الشهير عبد الرحمن بن خلدون لنستفتيه ؛ وهو الذي خبر خصوصيات العرب لمدة تنيف عن نصف قرن ؛ عبر مواقع عديدة تقلدها ؛ في القضاء والتدريس والوساطة والترحال ..

ابن خلدون وفصوله عن العرب

لم يكن اكتشاف ابن خلدون إلا في القرن التاسع عشر من قبل الغربيين وليس من قبل العرب ، واعتبر كثير من المؤرخين الغربيين من أمثال البريطاني أرنولد توينبي Arnold J. Toynbee والفرنسي فرنان بروديل Farnand Braudel أن ابن خلدون يعتبر " أكبر منظر لفلسفة التاريخ في كل الأزمنة ، وصاحب النظريات الشهيرة عن مجرى التاريخ البشري وحركته ، وأحد مؤسسي علم الاجتماع السياسي " ، كما تعتبر بحق مقدمته الشهيرة التي وطأ بها لكتابه الضخم ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) تأسيسا للسوسيولوجيا الحديثة ؛ لما تفردت به من نظرة ثاقبة ورصد الإنسان في تقلباته وأطواره واحتكاكه بالآخر ، ومفهوما للعصبية/الدولة/والمُلك ؛ تطورها ومسارعة الخراب إليها .. ما زالت حتى الآن معتمدة كصيرورة طبيعية لصعود الحضارات وانهيارها.

ومن أبرز فصولها تلك التي خص بها الإنسان العربي ـ في البادية والحاضرة ـ ؛ يمكن إجمالها في المداخل التالية:

* " فصل في ... تغلبهم فقط على البسائط .." ؛

* " فصل في ... إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب .." ؛

* " فصل في ... متنافسون في الرئاسة ... لا يرحم أخ أخاه .." ؛

* " فصل في ... لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية .." ؛

* " فصل في ... أبعد الأمم عن سياسة الملك .." ؛

* " فصل في ... أبعد الناس عن الصنائع .." ؛

* " فصل في ... في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم ..".

ولعلنا حتى الآن ؛ ونحن في العقد الثاني من الألفية الثالثة ؛ نلاحظ في ربوع المنطقة العربية معاناة وتحديات لا حصر لها ما زالت جاثمة إن على مستوى السياسات القطاعية أو توزيع الثروات كالفقر والأمية ... بالرغم من الموارد الاقتصادية الطبيعية الضخمة التي تزخر بها المنطقة ، وهذا يكشف بالواضح العقلية المتهورة والانتهازية التي تتحكم في السلطة العربية منذ قرون ؛ مصداقا للقولة الخلدونية الشهيرة " .. تنافسيتهم عن الرئاسة ... وأبعدهم عن سياسة الملك ..".

تحقيق مبحث الحضارة "العربية"

من المعلوم أن أسرا عربية حاكمة توالت على السلطة بدءا من الأمويين والعباسيين إلى الأدارسة والمرابطين مرورا بالفاطميين ، كانت الحروب والغزوات سجالا بينها والشعوب المجاورة لها ؛ إمعانا في التوسع والاحتلال وفرض الجزية . ولاحظ المؤرخون أن العرب ؛ ومنذ القديم ؛ جبلوا على الخصومات وخوض الحروب بكل ما اتفق لديهم ؛ تناقلت ذلك أشعارهم ، حتى بعد تقلبهم في مواقع السلطة والنفوذ ، والتي حرصوا على ألا ينازعهم فيها أحد من الولاة أو المماليك التي امتد إليها سلطانهم . لكن انفتاحهم على المدنية والحضارة واتصالهم بالعلوم والمعارف لم يتأت لهم إلا عن طريق الفتوحات الإسلامية واحتكاكهم بشعوب عريقة في التمدن والرفاهية من ممالك فارس والروم والعثمانيين أو الأندلسيين لاحقا ، ومن ثم اقتبسوا عنهم الكثير من العادات في المأكل والمشرب والملبس .. وتقاليد الأفراح والأتراح بل وحتى اللغة العربية التي شابتها أسماء وأفعال تعود في جذورها إلى اللغات الفارسية والتركية أو الهندية واللاتينية قليلا . وهكذا نجد من الأسماء اللامعة في حقول الطب والهندسة والفلسفة والرياضيات والميكانيكا والموسيقى وعلوم العربية والفلك والمنطق هي ؛ في أصولها ؛ إما فارسية أو أندلسية أو رومية أو يونانية ... وكثير منها (هذه الأسماء) لقي أصحابها حتفهم وصودرت مؤلفاتهم أو تم إتلافها ؛ فقط للمجاهرة بعدم ولائهم للحكام والأمراء العرب.

أما الاختراعات والأدوات الحضارية التي كانت سائدة آنذاك فقد نبغت فيها أسماء معروفة ولذا يمكن اعتبار نسبية الحضارة "العربية" تنطوي على تجن ومغالطة، وهي نسبة بمدلول سياسي سلطوي أكثر منه حضاري معارفي، أو بمدلول ديني إسلامي حينما نصادف في بعض التوصيفات التاريخانية من قبيل الحضارة "العربية الإسلامية" ، لكنها من الوجهة الدلالية الإثنية فهي حضارة لا هي عربية ولا هي إسلامية، بل هي أخلاط من الفارسي والرومي واليوناني والأندلسي استظلت بحكم عربي إسلامي.

"الربيع العربي" كان كشّافا

الأحداث والوقائع التراجيدية التي وسمها بعضهم "بالربيع العربي" كشفت ؛ بالمَشاهد الحية ؛ Live أن معظم تظاهراته الشعبية ذهبت في اتجاه تخريب ودك أسوار المؤسسات والإجهاز على كل المرافق وإشاعة الفوضى والنهب .. وتوجت في الأخير بالتطاحن على السلطة من خلال تفريخ جماعات وتنظيمات إرهابية ؛ ما زالت حتى الآن تقتتل فيما بينها وإن عاد الهدوء إلى بعض بلدانها من وراء ستار الديكتاتورية المقيتة . ذلك أن الإنسان العربي لم يعتَد لا في تربيته ولا في مجتمعه على النظام والحوار الحضاري والتوافق الاجتماعي والثقة ... بل ألِف النزاعات وعدم الثقة والظلم والفوضى والنصب والاحتيال..مصداقا للقولة الخلدونية:" ..إذا تغلبوا على الأوطان سعى إليها الخراب " . ويمكن إدراك خصوصية هذا العنف العربي الهمجي بمقابلة الربيع العربي مع الانقلاب التركي الأخير ليتبين لنا الفارق بين شعب عنيف وهمجي في مساعيه وبين شعب متحضر يمتلك حسا مؤسساتيا ناظما لمساعيه.

باستثنائين لا بد منهما

على المستوى المعرفي والثقافي عامة، يشهد التاريخ بوجود أسماء لمعت سواء في المجال العلمي أو الأدبي والفني ؛ لكن التربة التي ترعرعت فيها كانت غير التربة العربية التي قتلت وتقتل القدرات والمؤهلات والكفايات لدى مواطنيها ، ما لم تبحث لها عن أرض أخرى ومع مواطنين غير عرب ... ولعل أفضل مثال يمكن استحضاره في هذا السياق كلمة العالم العربي أحمد زويل حيث قال : " .. الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء ، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل !".

أما على مستوى المقاومة وخوض الحروب ببسالة ؛ فيشهد التاريخ أيضا للإنسان العربي برسوخ كعبه في النزال وخوض غمار الحروب بمقاومة لا تضاهى وروح قتالية ليس لها نظير ، حتى إن الحروب الهند الصينية أو الصليبية أو الحربين العالميتين .. كان فيها الجنس العربي حاضرا بقوة ومحط إعجاب وإكبار من قبل أعظم جنرالاتها ، كما أن المستعمر ؛ سواء في دول آسيا أو شمال إفريقيا ؛ ما زال يحتفظ في سجلاته ببطولات المقاومة العربية . ولنا في معارك جبل طارق والزلاقة ووادي المخازن وأنوال وإيسلي...أكبر مضرب المثل في الشهامة والشجاعة والروح القتالية العالية والتضحية.

فأي وصفة لترشيد هذه العقلية

هي في الواقع عقلية استحكمت فيها الغرائز والأهواء منذ قرون خلت؛ ومن الصعب جدا إيجاد وصفة علاجية لها حتى ولو كانت ذات مقاربة شمولية، لكن هناك تجربة استعمارية؛ مرت منها معظم الدول العربية ما زال فيها أغلبية المواطنين يستحضرونها بحرقة شديدة أسفا على "الحقوق" التي كانت تمنح لهم من قبل المستعمر، وصاروا الآن يفتقدونها بين مسؤولين من أبناء جلدتهم بالرغم من آلة القمع التي كان يشهرها في وجوههم.

ويمكن أن نخلص إلى القول وبأسف عميق أن أنسب نظام للحكم العربي يمكن انتقاؤه ليتلاءم مع هذه العقلية بالخصوصيات سالفة الذكر هو الحكم المطلق الشمولي حرصا على الأرواح والممتلكات من أن تدب إليها أيادي القتلة والفسدة والطامعين والعابثين، ولعل النظام الملكي أرحمها جميعا.