رأي

لحسن الجيت: تاريخيا.. القدس لم تكن عاصمة، يا سيادة الرئيس

القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دوناد ترامب بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، بعد تصريح مستفز أكد فيه بكل عنجهية أنها عاصمة للدولة العبرية، هو قرار خاطئ ويتعارض مع طبيعة المدينة ووضعيتها تاريخيا وروحيا وقانونيا. كما أن هذا القرار يسقط صفة المحايد والوسيط الذي كان من المفترض أن يظل عليه الطرف الأمريكي كواحد من رعاة اللجنة الرباعية التي تشرف على عملية التفاوض بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.

1 ـ من الناحية السياسية، تعتبر مدينة القدس واحدة من القضايا الخمس المتفق على الحسم فيها عند مفاوضات الحل النهائي وهي: المستوطنات، والحدود، والمياه، واللاجئين وأخيرا وضعية القدس. جميع الإدارات الأمريكية المتعاقبة كانت على درجة من الالتزام بألا تخوض في مثل هذه القضايا الساخنة كي لا يتحول الوسيط إلى طرف وتضيع قدمه في منزلقات تعرض المنطقة لمخاطر لا يمكن حصر تداعياتها.

وإذا كان الموقف الأمريكي على ما هو عليه من خرق للالتزامات والتعهدات، فكيف يمكن قراءة هذا المنحى المنحاز والخطير؟ في اعتقادنا، أن ذلك الأمر يعود إلى شخصية الرئيس الأمريكي الجديد ذات التركيبة القائمة على العدوانية وكراهية كل ما هو محيط بدولة إسرائيل. بل أكثر من ذلك إن الرئيس ترامب له نظرة استخفاف واستصغار لكائنات يقال فيهم تجاوزا بشر لا يقيم لهم وزنا. ولعل الجانب العربي يكون بانبطاحه قد أسهم في هذه الصورة النمطية المذلة أو لم يستقبل هذا الرئيس الأمريكي استقبال الفاتح للخزائن المحكمة الإغلاق على ذويها. وقد أقسم على أن ينهبها ويحولها إلى المواطن الأمريكي ونحن في حالة نشوة وفرح ورقص. فالمال تم التبرع به فكيف بالتالي يجوز لنا أن نقتر في الموقف السياسي ، فبيعه لابد منه وأهون لكي ترضى عنك اليهود والنصارى.

ومثل هذه الكائنات من الخليج إلى المحيط في ردة فعلها كمثل دجاجة عاقر "تقاقي" ولا تبيض، والديك الفحل فيها ينحر مع عيد الأضحى. والحق لا يقام له شأن بالتضرع إلى الله ما دامت النفوس مريضة والوهن فيها قد أخذ منها مأخذه. وإن أرسل الله عز وجل مرة أخرى طير أبابيل فلا غرو أنها سترمي بالحجارة على الذين يحاربون بالجهل عدوا متخما بالعلم والمعرفة.

2 ـ من قال إن القدس كانت يوما ما عاصمة، سواء لدولة عبرية أو لدولة عربية؟ ومتى كان الكيان الإسرائيلي دولة في التاريخ حتى يستند على ذلك ومعه دونالد ترامب ليسمح لنفسه بجعل القدس عاصمة لدولة إسرائيل التي استحدثت في أوائل القرن العشرين؟ وإذا كنا نقر بهذه الحقيقة التاريخية يجب أن تتملكنا الجرأة لكي نقر أيضا بأن القدس كذلك لم تكن يوما ما عاصمة لأية إمبراطورية إسلامية. فبالرغم من تعاقب العديد من الإمبراطوريات على المنطقة، بدءا من العباسية ومرورا بالأموية والفاطمية وانتهاء بالعثمانية؛ فإن كل هذه الإمبراطوريات على عظمتها لم تتخذ أبدا القدس عاصمة سياسية لها، بل حرصت على أن تبقى ذلك المكان المقدس عند الله. فالنبي صلى الله عليه وسلم حمله البراق إلى المسجد الأقصى وعاد به إلى المسجد النبوي وتحولت القبلة إلى الكعبة.. ويبقى الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، لما للقدس من رمزية أرادها الله أن تظل دائما مرجعية روحية للديانات الثلاث، وصونها من البشر الذين يريدون بقوانينهم الوضعية أن يزجوا بالمدينة المقدسة في سياسة قذرة من عرب وعبريين وإفرنج.

ولذلك، فإن الخطوة المتهورة للرئيس الأمريكي خطوة تتنافى مع التاريخ ومع الهوية الأزلية للمدينة، التي لا يمكن تحت أية طائلة فصلها عن هويتها الدينية وكأرض للتعايش بين الأديان السماوية.

3 ـ هذه الوضعية المقدسة للمدينة كما أرادها الله يجب أن تكون نبراسا لأتباع الديانات الثلاث وجعلها في منأى عن أي عبث، كالاستيلاء عليها وإخضاعها لسيادة ذلك الطرف أو غيره. هذا التوجه الرباني يلزمنا جميعا أن نحافظ على المدينة، بتمكينها من وضعية دولية، وبالأخص قدس الأقداس، أي البلدة القديمة حيث مسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومعابد يهودية وغيرها من الكنائس الأخرى. فهذا المربع الذي تتجمع فيه كل الأماكن المقدسة يجب أن يدار من قبل مجلس عالمي يضم رجال الديانات الثلاث، وأن الوصول إلى تلك الأماكن يجب أن يكون حرا وغير مقيد. الاهتداء إلى هذه الوضعية لا ينبغي أن تكون موضع تفاوض ثنائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين بل برعاية وتحت إشراف دولي.

أما التوسع العمراني خارج قدس الأقداس والمتعارف عليه اليوم بأحياء القدس الشرقية وأحياء القدس الغربية يجب الحسم فيه عن طريق مفاوضات الوضع النهائي وبرضا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، أي على أن تكون القدس الشرقيةعاصمة للدولة الفلسطينية والقدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل.

4 ـ لكن أين الموقف الأمريكي من هذا كله، والحال أن واشنطن تريد أن تستمر في رعايتها لعملية السلام كطرف في اللجنة الرباعية إلى جانب كل من أوروبا وروسيا والأمم المتحدة.

في اعتقادي، قد لا نفاجأ في مقبل الأيام بتفسيرات أمريكية لقرار الرئيس دوناد ترامب. وقد تلقي تلك التفسيرات باللائمة على العرب الذين لم يقرؤوا جيدا تصريحات الرئيس الرئيس الأمريكي. بعض ما تبين من التأويلات الأولية لتهدئة الغليان وهو أن الرئيس ترامب لم يكن يقصد القدس كلها كعاصمة لدولة إسرائيل، والدليل على ذلك هو إشارته إلى أن نقل سفارة بلاده إلى القدس التي تحولت بحكم الواقع إلى عاصمة من خلال وجود الكنيست والمحكمة العليا ومقرات الحكومة الإسرائيلية. وقد أراد بذلك أن يلمح إلى القدس الغربية، حيث توجد بها تلك المؤسسات الإسرائيلية. ولعل ذلك ينطوي على نوع من التحايل بنية تثبيت وضعية ما كمقدمة لرهن المدينة بأكملها.

وإذ النوايا كما ينبغي فهمها، فأي مجال بقي للعالمين العربي والإسلامي أن يتحركا فيه؟ في اعتقادي، أجد الجواب على ذلك في ما قالته غولدا مايير يوما ما بعد إحراق المسجد الأقصى عام 1969: "عندما أحرقنا القدس لم أنم طوال الليل، وتوقعت أن العرب سيأتون نازحين من كل حدب وصوب نحو إسرائيل، فعندما بزغ الصبح علمت وأيقنت أننا أمام أمة نائمة". ونقول لها اليوم كذلك نامي قريرة العين في قبرك، أيتها المرأة ولا تخافي ما زالت الأمة على العهد.