رأي

عبد الصمد بنشريف: رهانات وتحديات معركة الصورة

أصبح من تحصيل الحاصل التأكيد على أن عصرنا هو عصر أعلامي بامتياز، لأن كل المؤشرات والمعطيات تحتشد وتنتصب قرائن دامغة تثبت بقوة أن كل مجالات الحياة والمكونات الأساسية للدول أصبحت تشتغل وفق منطق يتحكم فيه الإعلام ويؤثر على ضبط إيقاعه، ولا يقتصر الأمر على جانب التأثير الرمزي المتمثل في إنتاج عدد من الخطابات والحمولات التي تبثها وسائل الإعلام وتعرضها على الجمهور ليتفاعل معها أو يصدها بردود فعل سلبية، بل نجد أن الإعلام في وقتنا الراهن بتنوعه وتعدد وسائطه تجاوز إلى حد كبير هذه الوظيفة وبات أداة تدخل قوية وصارمة ومفاجئة تفرض بعض الإكراهات والضغوطات على صانعي القرار السياسي والاقتصادي، بغية الدفع بهؤلاء إلى ردم تلك المسافة المفتعلة القائمة بينهم وبين واقع مجتمعاتهم.

وبالرغم من أن الإعلام لا يمكن أن يقدم حلولا جذرية لعدد من الأزمات أو يجترح بدائل ممكنة لإشكاليات معينة، فإنه مع ذلك يسهم في بلورة بعض الحلول أو الدفع إليها، كما يفتح مسالك للتداول في قضايا تهم المواطنين واستقرارهم ومصائرهم.

إن الإعلام ضرورة حيوية لا محيد عنها لاشتغال جيد للديمقراطية، ولا ديمقراطية جماهيرية وقاعدية بدون إعلام؛ لأن هذا الأخير وما ينطوي عليه من خصائص وما يقوم به من أدوار وما ينهض عليه من أسس ومبادئ وقواعد ومعايير يخلق مساحة للتفاعل والتقارب بين النخب وأصحاب القرار والمواطنين، وهو إلى جانب ذلك يمنح هؤلاء إمكانات لا حصر لها لفهم العالم وتجسيد قيم التواصل غير المنفصل عن الديمقراطية في شتى أبعادها، علما أن المواطن الذي يقضي يومه في تدبير شؤون حياته يظل بحكم موقعه في التراتبية الاجتماعية والوظيفية بعيدا عن مراكز صناعة القرار السياسي والاقتصادي، وأحيانا لا يخبر بما يدور حوله.

ومن هذا المنطلق، تتضاعف أهمية وفعالية وقيمة الإعلام، خاصة السمعي –البصري والإلكتروني، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تملك قدرة هائلة على إنتاج سلسلة من الصور والإيقونات التي من شأنها تقليص المسافة بين الفاعلين الذين يملكون سلطة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو إدارية وبين المواطن.

لقد أصبحت للتلفزيون سلطة تعود في المحل الأول إلى الطفرة التكنولوجية الهائلة التي خلخلت كثيرا من المسلمات والصور السائدة في حياة المجتمعات المعاصرة، وأفرزت ثقافة جديدة وطرائق تواصل ثورية أصبحت تلعب دورا أساسيا في تشكيل وعي أجيال بكاملها. كما أن هذه الطفرة أفسحت في المجال أمام إنجازات غير مسبوقة في تاريخ الاتصال والإعلام، حيث جعلت من التلفزيون وسيلة إخبار تحدد الخبر ومواضيع الساعة ودرجات أهميتها.

ونظرا للسرعة المذهلة التي تنقل بها الأحداث وتبث بها الأخبار والمعلومات، فإن التلفزيون بفضل الثورة التكنولوجية والاستعمالات المتعددة لهذه الوسيلة الإعلامية غير إيقاع حياة الناس، وتدخل بكيفية أحيانا لا شعورية في صياغة أفق انشغال جديد لم يكن موجودا من قبل؛ فالمشاهد، الذي كان سجين قنواته الوطنية التي لم تكن تتجاوز اثنتين أو ثلاث قنوات، أصبح بمقدوره أن يختار بين مئات القنوات التي تبث على عدد من الأقمار الصناعية، كما وجد نفسه شريكا في استهلاك الصور التي تتدفق عليه من كل بقاع العالم.

وبما أن الصورة تملك سلطة وجاذبية وقدرة على الإقناع الفوري وشحنة عاطفية وعناصر تأثير مهيجة أو مهدئة، فإنها تختزل آلاف الكلمات والبرقيات.. ولذلك، فإن رجال السياسة والاقتصاد والتكتلات التي تدافع عن مصالحها لا يدخرون جهدا في استثمارها إلى أبعد مدى لخدمة جملة من الأهداف وتوجيه حزمة من الرسائل إلى من يهمهم الأمر، ولا غرابة كذلك في أن يقبل كل فاعل سياسي أو عضو في مؤسسة برلمانية -خاصة في الديمقراطيات العريقة والمجتمعات التي حققت عددا من الثورات والانتقالات -على التعاطي المبالغ فيه أحيانا مع هذه السلطة متعددة الوظائف. ولا أحد من هذه الفصيلة يتردد قيد أنملة في الهرولة إلى أستوديوهات التلفزيون إن وجد إلى ذلك سبيلا، قصد تكذيب أو تأكيد معلومة أو الدفاع عن موقف أو الرد على اتهام أو شائعة وإظهار قدرته على ضبط النفس ومواجهة العواصف والأزمات واللحظات الحرجة وإقناع المشاهدين بأنه لن يرضخ لإكراهات ومشيئة الصور التي قد يكون هو أحد اللاعبين الأساسيين في نسجها.

المسلم به في التقاليد الإعلامية الديمقراطية هو أن أستوديوهات التلفزيون والإذاعة فضاءات لتقابل الآراء، خاصة في السياقات المتوترة عندما تندلع الأزمات وتنشط الصراعات وتتباين المواقف حول قضايا جوهرية تهم عموم المواطنين؛ فهناك من يرى الواقع بنية متناغمة ومنسجمة ومتكاملة ويعتبر أن حدود رؤيته وتقويمه للأشياء هو ما يجب أن يكون مرجعية ومعيارا. لكن الشارع له نبض آخر ورؤية مغايرة ولا يترد في صب غضبه واستيائه على من يتدبرون شؤونه. وتتخذ هذه المشاعر الساخطة أبعادا درامية في كثير من الأحيان، تزداد احتقانا عندما تتدخل وسائل الإعلام، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي والتلفزيون لتوسيع مساحة الهيجان والسخط؛ لكن هناك مسار آخر قد يقلب الأمور رأسا على عقب، عندما تعمل وسائل الإعلام على تحويل أزمة من الأزمات إلى مجرد حدث عبر تطويق تداعياتها وحصر ذيولها وامتداداتها باعتماد أسلوب الحوار وأخذ آراء كل المعنيين وأيضا عبر تهييئ الشروط النفسية لإقناع الأطراف المتصارعة أو المتنافسة بالاحتكام إلى منطق التفاوض والحوار والإنصات المتبادل.

وإذا كان الإعلام، في شكله الجديد والصادم بكل المقاييس، يشكل سلطة مضادة شريطة أن لا يخل بالقواعد المهنية وأخلاقيات الصحافة، فإنه يتعين على صانعي القرار السياسي والاقتصادي أن لا يحجبوا شمس الواقع بغربال انشغالاتهم الضيقة ومصالحهم الشخصية، وعليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار الرسائل التي تحملها الصور الموجهة إلى الرأي العام؛ لأن عدم التفاعل الإيجابي والإنصات الواعي والتعامل العقلاني مع حمولات ومضامين تلك الصور قد يفسره الجمهور بأنه شكل من أشكال التعالي والتنصل من تحمل المسؤولية، وقد يفهم على أنه تستر على مشاكل الواقع وأعطابه.

استنادا إلى كل ما سبق، يمكن الجزم بدون تردد بأن الصورة هي الحقيقة الصارخة غير القابلة للنفي أو النقض، وأن معركة الصورة هي المعركة الحقيقية، ومعركة من أجل إظهار الحقيقة، لأن ما نراه وما نشاهده لا يمكن تكذيبه، فهو الدليل والبرهان والشاهد، لنستحضر صورة الطفل السوري إيلان الكردي الذي لم يتعدّ عمره ثلاث سنوات، عثر عليه مرميّا على شاطئ بودروم بعد أن قال بكل عفوية وبراءة: "بابا.. أرجوك لا تموت"، وكانت هذه آخر كلمات يائسة نطق بها أثناء مقاومته مع والديه وأخيه الأمواج بعد أن انقلب القارب الذي كان ينقلهم إلى أوروبا هربا من العنف والفوضى وحمامات الدم في بلاده. بقيت له سُترته الحمراء وسرواله الأزرق فقط. حتى وجهُه انقلب لتداعبه الأمواج.. هذه الصورة –الصدمة أثارت عند نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتلفزيونات العالمية حالة من الغضب والجدل لدى الشعوب العربية والعالم أجمع. ألم تختزل هذه الصورة التراجيدية أقصى درجات الألم؟ ألم تكن نقطة تحول في النقاش الذي تفجر حول السماح لطالبي اللجوء من سوريا بالعبور أو الاستقرار في عدد من الدول الأوروبية؟ بكل اختصار، تلك الصورة أدمت الوعي الكوني وزعزعت الضمير الإنساني في كل مكان.