تحليل

الهروب نحو الأمم المتحدة ليس حلا..

إبراهيم أبراش

ما جرى من ردود أفعال عربية وإسلامية ودولية رسمية عقِب قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس تشكل فرصة للتفكير وإعادة النظر في مفاهيمنا عن أبعاد القضية الفلسطينية وإعادة النظر في مجمل السلوك السياسي للقيادة والأحزاب وحتى للشعب، وهو سلوك يمتح من عقل سياسي ينتمي إلى زمان غير هذا الزمان.

وهكذا وكأنها مسلمة أو حقيقة لا تخضع أو تعترف بمبدأ التطور، وأن الفكر نِتاج للواقع أو على الأقل متفاعل معه، ما زال قطاع كبير من الشعب الفلسطيني يعتقد أن فلسطين قضية العرب الأولى، ويُصدِّق كلام القادة والزعماء العرب، حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وتآمر أنظمة عربية على الشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية بالحرب المباشرة والحصار والتشويه والتشكيك بعدالة القضية، كل ذلك لم يغير من إيمان الشعب الفلسطيني بالعروبة والمصير العربي المشترك.

كان يجب الانتظار حتى يأتي الرئيس ترامب لينقلب على كل ما تم التوافق عليه حول الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى قرارات الأمم المتحدة ليصوغ مبادرة (صفقة القرن)، بمشاركة وتواطؤ مع أنظمة عربية، وليوقع على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ليكتشف الفلسطينيون ما وصلت إليه حال الأنظمة العربية من هوان وخنوع وعدم القدرة على الرد على واشنطن بما يناسب خطورة قرار ترامب.

نعم تحركت الجماهير العربية في أكثر من عاصمة ومدينة بالرغم من همومها الداخلية، وعبَّرت عن عمق إيمانها بعدالة القضية ورفض تهويد القدس، ولكنها كانت تحركات المذبوح والمقهور والمصدوم.

أيضا اعتقدنا وبنينا استراتيجياتنا النضالية، ونظمنا شعاراتنا وأشعارنا وأغانينا على مقولة أن فلسطين، وفي قلبها القدس، وقفٌ إسلامي، والدفاع عنها مسؤولية إسلامية لأن القدس مقدسة ليس بالنسبة للفلسطينيين فقط، بل بالنسبة لأكثر من 1.6 مليار مسلم. لم يتزعزع هذا الاعتقاد ونحن نرى دولا إسلامية من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل، ودول أخرى تعترف بها وتبني علاقات استراتيجية معها حتى بعد أن أعلنت إسرائيل ضم القدس وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لها، ولم يتزعزع اعتقادنا ونحن نرى جماعات إسلاموية تقاتل في كل مكان في العالم إلا إسرائيل التي تحتل فلسطين وتدنس أولى القبلتين وثالث الحرمين.

وجاء قرار ترامب الأخير وتداعت للاجتماع في اسطنبول الدول الإسلامية، المنضوية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تشكلت عام 1969 من أجل القدس، فكان اجتماعا هزيلا، ولنكتشف حقيقة البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية وحقيقة القول بأن القدس خط أحمر لا يجوز تجاوزه.

المشكلة تكمن في مراهناتنا وتشبثنا بالأيديولوجيا، والتدَاخُل بين ما يجب أن يكون بناء على مقولات هذه الأيديولوجيا من جانب، والواقع المعيش من جانب آخر، ولو فكر المراهنون على العالم الإسلامي، وعنوانه منظمة المؤتمر الإسلامي، لاكتشفوا أن ما يسمى العالم الإسلامي أو منظمة المؤتمر الإسلامي هو مجموعة دول متباينة في الثقافات واللغات والأنظمة السياسية، وأيضا في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومتباعدة جغرافيا، ومتباينة في الارتباطات الخارجية، حيث إن أكثر من نصفها له علاقة بإسرائيل وغالبيتها حليفة وصديقة لواشنطن، كما أن العلاقات البينية واهية، والإسلام بالنسبة لها مجرد رابط أيديولوجي ديني واهن.

لكل ذلك لا يمكن المراهنة على العالم الإسلامي الرسمي، فهو عالم افتراضي أكثر مما هو حقيقي، وهذا يفسر لنا البيان الباهت للقمة الأخيرة في اسطنبول حول القدس وكل البيانات الصادرة عن القمم السابقة.

للأسف، لا يتوقف الأمر عند عجز الأنظمة عن مناصرة شعب فلسطين والقدس، بل منها، وفي سياق حاجتها إلى واشنطن لحمايتها من غضب الشعب أو من تهديد جيرانها، لا تتورع عن تشويه الشعب الفلسطيني وشيطنته والتشكيك في عدالة قضيته حتى تتقرب إلى إسرائيل وتُطبع معها، ومن هنا نسمع ونشاهد سفاهة بعض الإعلاميين الخليجيين في تناولهم الشأن الفلسطيني.

بعد افتضاح محدودية المراهنة على الأنظمة العربية والإسلامية، قررت القيادة الفلسطينية التوجه بقوة إلى الأمم المتحدة ومنظماتها، والمراهنة على الشرعية الدولية لمواجهة التغول الإسرائيلي والانحياز الأمريكي، وأيضا لتعويض التقصير الذي بان في المواقف العربية والإسلامية.

وإن لم تكن الشرعية الدولية أيديولوجيا كالأيديولوجيا القومية أو الإسلامية، إلا أن المراهنة عليها لتنصفنا وتقدم لنا الدولة الفلسطينية على طبق من ذهب قد يحولها إلى أيديولوجيا أو مراهنة على سراب، فحبل الشرعية الدولية طويل وقدرتها على الحسم محدودة في ظل التوازنات الدولية الراهنة، ودورها في سوريا واليمن وليبيا نموذج على ذلك.

يبدو أن المراهنين على الشرعية الدولية ينسون أو يتناسون أن الشرعية الدولية محصلة لموازين القوى، والعرب والمسلمون ليسوا من القوى التي يُحسب حسابها في هذه الموازين، وأن عصبة الأمم هي التي تبنت وعد بلفور، وأن الأمم المتحدة هي التي أسست إسرائيل بداية، وأن كل ما صدر عن الأمم المتحدة منذ 1947 حتى الآن، فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، مجرد قرارات غير ملزمة.

لا يعني مما سبق تجاهل الشرعية الدولية والأمم المتحدة، فإن فعلنا ذلك فالشرعية الدولية لن تتركنا، حيث ستقوم إسرائيل وواشنطن بتوظيفهما في غير مصالحنا. كما أن في الشرعية الدولية ما يلامس حقوقنا ويحمي شعبنا ويرفض الاحتلال الإسرائيلي، وقد ناضل الراحل ياسر عرفات، ومن بعده أبو مازن، لوضع القضية في سلم اهتمامات الأمم المتحدة.

لكن لا نريد أن ننتقل من وهم إلى آخر أو أن يصبح التوجه إلى الأمم المتحدة هروبا من الواقع واستمرار المراهنة على الخارج في تجاهل لوضعنا الداخلي وما هو مطلوب وطنيا لمواجهة الاحتلال.

المطلوب من الفلسطينيين، اليوم، التوافق على استراتيجية وطنية متعددة المسارات، استراتيجية تتضمن إعادة تعريف البعد القومي وتصويبه، وإعادة تعريف البعد الديني وتصويبه، وإعادة النظر في المراهنة على الشرعية الدولية، وفي أسلوب تعاملنا معها، وفوق كل ذلك إعادة بناء البيت الفلسطيني من خلال إنهاء الانقسام وإنجاز الوحدة الوطنية والتوافق على استراتيجية مقاومة شعبية تأخذ بعين الاعتبار وجود 12 مليون فلسطيني في الوطن والشتات يجب أن يشاركوا في هذه المقاومة، حسب خصوصية كل ساحة، وما يجري في فلسطين منذ قرار ترامب يؤسس لانتفاضة شاملة.

وأخيرا، من المهم التواجد في المنظمات الدولية ومراكمة قرارات لتستمر القضية محل اهتمام العالم، ولكن المراهنة على الأمم المتحدة وحدها لن يكون إلا هروبا من الاستحقاق الوطني ومحاولة لكسب الوقت في انتظار المجهول.