رأي

محمد أديب السلاوي: الدبلوماسية المغربية وساعة الإصلاح

محمد أديب السلاوي

منذ حصول المغرب على استقلاله سنة 1956 والمملكة المغربية تسعى أن تكون حاضرة على الخريطة الدولية، تلعب دورها بفعالية، انطلاقا من موقعها الجغرافي المتميز، الذي يجعل منها حلقة اتصال بين الشمال والجنوب، بين إفريقيا وأوروبا، وانطلاقا من اعتبارها شريكا فعليا ونشيطا في قضايا النظام الدولي ومؤسساته ومنظماته واختياراته.

والدبلوماسية المغربية التي تضطلع بهذا الدور ذات جذور عريقة في التاريخ الدولي، إذ مارست عبر العصور والأزمان، ومنذ عقود بعيدة، أدوارا سياسية ودبلوماسية، ومن ثمة كانت طموحاتها في عهد استقلال المغرب كبيرة وعظيمة، إذ أوكل النظام المغربي إليها عدة أهداف، منها ضمان التأييد الدولي اللازم لوحدته الترابية، وفتح أسواق العالم أمام تراثه السياحي، ومنتوجاته التقليدية والفلاحية والصناعية، والدفع بمركزه الجديد إلى الصدارة والاهتمام في المحافل الدولية؛ وهو ما جعل "الدبلوماسية المغربية" خلال النصف قرن الماضي حقلا واسعا من حقول تحقيق الذات الوطنية، ولكن الأمر بقي دائما في حدود النظرية، لا في عمق التطبيق.

على مستوى هيكلة الدولة المغربية الحديثة نجد موقع وزارة الشؤون الخارجية متميزا على عدة مستويات، فهو نابع من المركز الهام الذي احتلته هذه الوزارة عبر التاريخ الدبلوماسي المغربي، وأيضا من حجم السلطات والمسؤوليات التي خولتها لها دولة الاستقلال، وهي نابعة من صميم المسؤوليات التي يضطلع بها المغرب في إفريقيا والعالمين العربي والإسلامي؛ وهي مسؤوليات كبيرة وجسيمة تتناسب وموقعه الجغرافي ومركزه التاريخي والحضاري. والسؤال الذي طرح نفسه دائما على السياسيين والمسؤولين والفاعلين هو: لماذا لم تحقق الدبلوماسية المغربية ما هو مطلوب منها، لماذا لم تستطع وضع المغرب في مكانه الطبيعي على خارطة عالم اليوم...؟ لماذا لم تستطع لعب دورها في السياسة والاقتصاد والوحدة التربية؟.

لا نريد هنا أن نتيه مع الأسئلة الموضوعة على كاهل الدبلوماسية المغربية اليوم، باعتبارها نموذجا مطالبا بالإصلاح والتغيير؛ ولكن مع ذلك سنحاول تقريب صورتها كما هي على خريطة العالم في الألفية الثالثة، في محاولة للتقرب منها:

أ / ــ على المستوى الإفريقي، حيث يتصدر المغرب موقعه الجغرافي بشموخ ويمتد بعلاقاته التاريخية إلى عمق القارة السمراء منذ القدم، يكاد جهازه الدبلوماسي الموزع على عواصمها أن يكون في حالة شرود، فعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع قارته الأم كانت قبل المبادرة الملكية الأخيرة تحتل مرتبة أدنى في سلم العلاقات القائمة مع القارات الأخرى، حتى وإن كانت هذه العلاقات في أغلبها هشة وضعيفة.

والسؤال المحير الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا يعرف الدبلوماسيون المغاربة عن إفريقيا/ عن تاريخها/ عن ثقافتها..كم عدد الدبلوماسيين المغاربة الذين يدرسون اللغة السواحلية التي تعتبر أكبر وأوسع لغة في إفريقيا، وما هي المناهج التي تدرسها وزارة الخارجية المغربية للثقافة الإفريقية؟... وما هي الدروس التي تلقنها هذه الوزارة للدبلوماسيين المغاربة عن قضية الأقاليم الصحراوية المسترجعة...؟ وهل أوجدت وزارة الخارجية المغربية معهدا لهذه الغاية؟.

ب/ ــ وعلى مستوى الوطن العربي، الذي يعتبر المغرب أحد أقطابه الكبار، حيث يمتد صوته/ حضوره إلى أعمق قضاياه السياسية، نكاد لا نسمع ولا نعرف عن الدبلوماسية المغربية في الفضاء العربي الذي يغلي بالتحركات السياسية المتعددة الأهداف والأصناف إلا نادر النادر، وهو ما يعني غيابه الفعلي عن محيط يصنفنا العالم من محيطاته الأساسية.

ج/ ــ وعلى مستوى القارة الأوربية، حيث تتراكم المصالح المغربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتجارية والتكنولوجية والثقافية والعسكرية نجد الدبلوماسية المغربية تقف تجاه العديد من القضايا موقف "المتفرج" السلبي: أعداء وحدته الترابية يصولون ويجولون أمام سفرائه وملحقيه ورجال مخابراته/ مطاردة الأنظمة الأوربية للمهاجرين المغاربة أمام أعينهم/ تراجع سبل التعاون التجاري، الاقتصادي والتكنولوجي، أيضا أمام أعينهم؛ فالتعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي لا يتحرك إلا بصعوبة، وهو ما يجعلنا أحيانا خارج الاهتمام...وخارج العناية.

د/ - وعلى مستوى أمريكا اللاتينية، التي تشكل فضاء واسعا للتعاون المتعدد الأهداف، نجد الدبلوماسية المغربية شبه غائبة؛ لا نسمع ولا نرى عنها لا حقا ولا باطلا، مع أن لهذه الدبلوماسية مراكز وسفارات وسفراء وموظفين من الصعب إحصاؤهم أو تحديد مهامهم الرسمية.

هـ/ ــ وعلى مستوى القارة الأسيوية، وهي مكتظة بالشعوب الإسلامية التي تجمعنا بها قرابة الدين والثقافة والحضارة العريقة، ومكتظة بشعوب مشبعة مثلنا بقيم الحرية والسلام والديمقراطية، جعلت الدبلوماسية المغربية في عهد الاستقلال مقتنعة بضرورة البحث عن الوسائل الكفيلة لتكثيف علاقتها بها وتوسيعها، على اعتبار أن الجانبين ينتميان إلى العالم الثالث، وإلى قيم التسامح والعدالة والديمقراطية، وإلى منظومة عدم الانحياز، وأنهما معا يواجهان تحديات حضارية وتكنولوجية واقتصادية متشابهة.

ولكن عكس انطلاقتها الأولى (عهد الاستقلال) تكاد العلاقات أن تكون متوقفة بين الجانبين، بل إنها سارت في العديد من المناسبات تتجه نحو الجمود.. وهو الأخطر في العلاقات الدولية.

و/ ــ وعلى مستوى الولايات المتحدة الأمريكية (ومعروف أن المغرب كان أول دولة اعترفت باستقلال هذه الأخيرة. ومن أولى الدول التي ربطت علاقات دبلوماسية مع هذه الدولة العملاقة) كان أمل المغرب منذ بداية الاستقلال خلق علاقات نشطة معها، علاقات تتجاوز المساعدات المتواضعة التي تقدمها أمريكا للدول الضعيفة والمستضعفة، ولكن مع ذلك لم تستطع الدبلوماسية المغربية، وحتى الآن، جعل هذه العلاقات لا في مستوى التاريخ.. ولا في مستوى موقع البلدين على الخريطة الدولية.

السؤال السريع الذي تطرحه هذه المراجعة السريعة من موقع الإصلاح والتغيير الذي ننشده: لماذا لم تستطع الدبلوماسية المغربية تحقيق المطامح التي أسست من أجلها في عهد المغرب الجديد/ مغرب الاستقلال..؟ هل يعود ذلك إلى نظرة ضيقة لمفهوم الدبلوماسية عند هذا الجهاز العتيق..؟ هل يعود إلى سوء تقدير الوزراء الذين تعاقبوا على هذا الجهاز للمهام الجسام الموكولة إليه دستوريا وإداريا ووطنيا..؟.

كيفما كان جواب المسؤولين المغاربة على هذه الأسئلة وعلى مثيلاتها، فإن استحضار المسؤوليات التي تتحملها الدبلوماسية المغربية اليوم، والمغرب يعيش سلسلة أزمات اقتصادية وثقافية واجتماعية، هي أكثر جسامة وخطورة من مسؤوليات الأمس، تتطلب قبل كل شيء توسيع نظرتها إلى النظام الدولي الجديد، وإلى قيم ومفاهيم العولمة، والعلاقات الدولية المتعددة الأهداف؛ ذلك أن التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان تأخذ موقعها على صف واحد مع حماية المواطن المغربي خارج الحدود، وضمان التأييد اللازم والضروري للوحدة الترابية، واسترجاع الأراضي التي مازالت محتلة وتحت النفوذ الأجنبي، وقطع الطريق على أعدائها وضمان حقوق المهاجرين المغاربة في كل بقاع العالم، وإعداد إستراتيجيات توسيع المبادلات والعلاقات مع العالم وتحسين المركز المغربي، ثقافيا وحضاريا على الخريطة الدولية..

إنها مهام ومسؤوليات تستلزم شروطها الموضوعية: الابتعاد عن النهج الدبلوماسي التقليدي، واختراق جدران العالم ومنظماته ومؤسساته المختلفة، والاستفادة من أنماط وسائل الاتصال والإعلام والتكنولوجيا التي أصبحت سلاحا جبارا في يد الدول المتقدمة...وهو ما يعني إعادة النظر في مفهوم الدولة... ومفاهيم أدوارها.

لماذا لم تقم دبلوماسيتنا بمهامها هذه..؟

خارج نطاق هذا السؤال العريض تبدو الإنجازات التي حققتها الدبلوماسية المغربية على عهد الاستقلال وحتى الآن قليلة ونادرة، فرغم تنوعها السياسي والعلمي والإداري والثقافي لم تستطع هذه الدبلوماسية معالجة عملها الوظيفي، لا على ضوء معطيات الثورة المعرفية التي أصبحت توفرها أدوات العمل الدبلوماسي، ولا على ضوء القضايا والمهام والمسؤوليات المطروحة أمامها جهويا ودوليا.

ولعل أبرز ما يميز السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية في عالم اليوم أن هذه الأخيرة عكس الأولى في عملية المتابعة واتخاذ القرار؛ ذلك لأن المحيط الدولي الذي تعمل الدبلوماسية ضمنه ومن خلاله يتطلب قبل كل شيء أسلوب التأثير في سياسات الآخرين، أكثر مما يتطلب القرار بذلك.

في نظرنا، حان الوقت لفتح ملف الدبلوماسية المغربية على مصراعيه بأروقة الحكومة، وبأروقة البرلمان، وفي أندية الأحزاب السياسية، وفي أندية المجتمع المدني وفي الجامعات والمعاهد المتخصصة، وعلى واجهات الإعلام المتعدد الوسائط، لا باعتباره جهازا حساسا فقط، ولكن لأنه الجهاز/ المدخل لكل تغيير وإصلاح. لقد حان الوقت لطرح الأسئلة الموضوعية على دبلوماسيتنا: إلى أين تسير..وكيف... وما الهدف؟.

إن النظام الدولي الجديد يعني نظاما دبلوماسيا جديدا، وهو ما يعطي هذه الأسئلة مشروعيتها على أرض الواقع.