قضايا

احتجاجات المجتمع المغربي و"الأزمة في القيم"

الدكتور: جواد مبروكي

حين أشاهد ما يقع في مجتمعنا المغربي من أزمات واحتجاجات، العنف ضد الأساتذة والمرأة، حادثة الصويرة، اغتصاب فتاة في حافلة بالبيضاء، حراك الحسيمة ثم جرادة، وقائع الصدامات مع المهاجرين الأفارقة، كوارث الهجرة الانتحارية إلى أوروبا، وكذلك تفاقم ظاهرة هجرة العقول المغربية إلى كندا وأمريكا وأوروبا، أتساءل لماذا كل هذا؟ وما هي الأسباب؟

الكثيرون ينتقدون الحكومة وغياب حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروات وتفشي الحكرة، لكن ما الذي يجعل الإنسان يسعى إلى الثراء الفاحش وهو يشاهد إخوته المواطنين يتخبطون في الفقر المدقع القاتل بينما يكمل هو طريقه ويدخل مسكنه الفاخر ويأكل ما يشتهيه، ثم ينام كأنه من كوكب آخر؟

ما الذي يجعل المسؤولين (من موظفين ورجال أعمال أثرياء وقادة أحزاب ومؤسسات مدنية) ينظرون إلى الأوضاع المزرية لعمالهم وموظفيهم وإخوانهم المواطنين ثم يدخلون المطاعم الفاخرة للأكل ويتمتعون بعطل رائعة خارج الوطن تاركين أبناء جلدتهم يموتون برداً؟

ما الذي يجعل مواطناً ميسور الحال يشاهد بعينه الأمية والجهل متفشياً بين أقربائه لضعف أو انعدام إمكانيات التمدرس ثم يُسجل أطفاله بالمدارس الأجنبية التي تكلفتها الشهرية بإمكانها أن تغطي تمدرس خمسة أطفال على الأقل في مدرسة خاصة مغربية؟

كيف لمغربي يرى إخوانه المواطنين في مستعجلات المستشفيات يتكدسون كالدجاج في الأقفاص بينما يسافر هو إلى أوروبا لتلقي علاج على أهون مرض بتكلفة عالية في حين إن إمكانية العلاج في وطنه متاحة وتكاليف علاجه بأوروبا بإمكانها تغطية علاج العشرات من بني جلدته بالمستشفيات الوطنية؟

كيف لهذه المؤسسات البنكية وحتى الأبناك التشاركية أن تفتح أبوابها في الصباح وتملأ خزائنها بأرباح فاحشة ثم تغلقها وتنام مستريحة في أبراجها العالية وقصورها الفاخرة وكأن لا عِلم لأصحابها بأن هناك مواطنين يتألمون من البرد القارس في أكواخ الصفيح وليس لديهم إمكانيات لشراء حطب التدفئة ومحرومون من أبسط ضروريات الحياة؟

كل هذه المعاناة تجعل من المظلوم يخرج إلى الشوارع ليصرخ ويعبر عن وضعيته المؤلمة والمُهينة، ويعبر عن رفضه لهذه الفوارق الشامخة بين فئات المواطنين. لكن لو لم تكن الطابوهات هي السبب، لصرخ المظلومون بعبارات أخرى مثل: "أين هو الدّين ورحمته وعدله ورأفته بالفقراء"؟ أو "لا نريد هذا الدّين الذي لا تظهر آثاره علينا مثل الراحة والسعادة والطمأنينة والرخاء ونردد في خطاباتنا أننا أصابع يد واحدة"، أو "بأي حق تزعمون أنكم متدينون وإخوانكم مظلومون ويموتون من الفقر ومحرومون من الصحة والتعليم"؟ هل اختياركم للدّين قصد تسيير شؤونكم وشؤون إخوانكم أوحى لكم بأن تجمعوا ثروات فاحشة بينما تتجاهلون بقية بني وطنكم الغارقين في بحار الفقر القاتل؟

إننا نعيش أزمة القيم وأزمة الدّين والتدين وكلنا مسؤولون عن هذه النتيجة! لذلك يتوجب علينا إعادة النظر في ذواتنا ومراجعة أهدافنا من الحياة وغاياتنا كمواطنين وشركاء في المجتمع ومرامينا كبشر. من المُحال أن يرتاح الإنسان وهو يرى آلام وعذاب أخيه الإنسان لأن الطبيعة جعلت منا عائلة واحدة. لكن حُب النفس والثراء يعمي البصيرة ويولد العذاب الداخلي؛ ولهذا يجب تفعيل قوانين ونظم جديدة لحماية الإنسان من الفقر المُدقع ومن الثراء الفاحش الذي يعمي البصيرة ويميت القلوب.

إننا نعيش أزمة قيم روحانية وإنسانية ودينية بحيث لم يعد الإنسان قادرا على تنمية قدراته الروحانية؛ ولهذا تطغى علينا السلوكيات الشيطانية كما طغى حب تكديس المال على حب الوطن.

ليس الرجوع إلى الدّين بمفهومه السطحي هو الحل لأن الكل يعيش وسط الدّين ويعتبر نفسه متديِّنا ويقوم بكل الشعائر، بما فيها ما يكلف ميزانيات مالية كبيرة، بل يجب الرجوع إلى "الجوهر الصحيح للدّين" مرفقا بالآليات والبرامج الخاصة لإدراك هذا المفهوم.

ليست الشعائر هي المهمة في أي دين كان، لكن الأهم هو مدى تأثير الدّين في تحويل الشخص إلى مواطن صالح ومساعدته على استخراج القيم الروحانية وتفعيلها في واقعه. هذه القيم هي التي تخلق شيم الخير والعدل والانصاف وثقافة القناعة والانقطاع عند الإنسان بحيث تحوله إلى منبع للتراحم. ونحن بحاجة إلى هذه القيم لصنع قوانين جديدة مستوحاة من القيم الروحية السليمة للحد من تفشي الثراء الفاحش والفقر القاتل والتحرر من قيود الحكرة.

إن الاحتجاجات والمظاهرات، مثلها مثل الطرائق العلاجية في الطب، يجب أولا (المدى القصير) الاعتناء بالضحايا بإسعافات عاجلة، وثانيا (المدى المتوسط) التفكير في العلاج الشامل للضرر الأصلي، وثالثا (المدى الطويل) البحث عن المُسببات الجذرية حتى لا يعود الوباء مرة ثانية. فلنا الاختيار في طرق العلاج لكن علينا أن لا ننسى أننا كلنا بدون استثناء مسؤولون عن العلاج على المدى الطويل!

*خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي