رأي

محمد بودويك: هل الشهرة قسمة ونصيب

سوانح :

هل الشهرة قسمة ونصيب؟

إلى روح محمد الميموني

هي المنازل والأفلاك الدوارة، وأبراج البخت والنحس، ما يرفع ويضع. يرفع امرءا إلى الشهرة والذيوع والانتشار، فإذا الخلق يراه وينتظره، ويتبعه. وإذا هو في العلا كسرج سابح، وفي العيوق بتعبير الجاحظ. كما يضع امرءا، من نفس الطينة والصلصال والحمإ المسنون، في الأسفل، في الدرك التحتاني، فإذا هو باهت الوجود، خامل الذكر، منسيٌّ على حضور، مُعْرَضٌ عنه وهو حي يرزق ويكدح، ويقوم بالذي يقوم به ذاك المتألق، الممجد من "القبيلة"، والجمهور.

ربما أقول كلاما يشبه الميتافيزيقا والألغاز، بينما الأمر بيد ذوي القربى، بيد الحظ و"الزّْهَرْ"، الذي له سُبُلٌ وطُرُقٌ، ومنافذ سالكة تحتاج فقط إلى نسبة معتبرة من الذكاء "الاصطناعي"، أو الطبيعي، وإلى إِقْدامٍ وجسارة على حد قول الشاعر سَلْمَ الخاسرْ :

من راقب الناس مات غمّا وفاز باللذة الجسور

وإلى نباهة تقدر الشروط والظروف، وتحسب لكل أمر حسابه بما في ذلك الجاري المتعين الملموس، والطاريء الذي يرن كالمباغتة فيأخذ بالخناق ما لم يُحَضِّرْ الشخص نفسه، ويستعد له الاستعداد الكافي، ويعد له العدة المطلوبة واللازمة.

هكذا، يشتهر مفكرون وفنانون في الغناء والموسيقا والرسم والشعر والأدب والفلسفة، ويظهرون ويتربعون على عرش الشهرة والمجد، فترى أغانيهم وموسيقاهم، ولوحاتهم، وأشعارهم، ورواياتهم، وفلسفاتهم، ملء السمع والبصر، يتلقفها القاريء والمتلقي، وتستقبل الاستقبال الملكي، فيحتفل بها، ويطبل ويزمر لها، ويتنافس النقاد في إبراز نبوغها وجديدها، وجمالها، وانعطافها، واجتراحها للمشوق والمبهر والعميق، وتتوج في أول أو وسط أو آخر المطاف، بالجوائز الثمينة، والمتابعة الإعلامية الدسمة.

ويستمر – في المقابل- فنانون وكتاب وشعراء وموسيقيون، وتشكيليون ومفكرون، في العتمة، مركونين في الزوايا. عليهم دوائر من غبار التجاهل والإشاحة، وستائر سميكة صفيقة من إهمال، وعدم مُقْتَرَب واعتناء ولو في الحدود الدنيا.

وإذا أنت تساءلت عن السر والسبب والعلة في ذلك، فلن تسمع ما يقنعك، ويشفي غليك، وجوعة لهفتك، وسؤالك. لا لضعف العمل الفني وردءاته، بل "هكذا". تلك "الهكذا" الميتافيزيقية التي لها أسباب مفهومة، وأخرى غير مفهومة.

ففي الأدب الفرنسي - على مستوى الشعر – تجد بودلير ومالارمه، ورامبو، الأكثر حضورا، وجريانا على الألسنة، والكتب، والمجلات النقدية، والبرامج التعليمية والتكريمية. شعراء يُقِلُّون عربة مكسوة بريش السيمورغ والفينيق، تجرها خيول مطهمة بجلد الفهود، مذهبة من نور وهواء، تُيَمِّمُ – دوما- نحو قرص الشمس. بينما يحجب الغبار المتراكم، غبار النحس والإهمال والصدإ، والنسيان، والتجاهل المقصود وغير المقصود، ثلة من الشعراء الشاهقين المجايلين واللاحقين الذين لا يقلون عنهم طولا وعرضا، وألمعية، واستثنائية شعرية وفنية. حتى أن كبيرا كـ "فكتور هيغو"، شرع النسيان يمطر عليه من زمان، ولولا ألطاف وكرم البرامج والمناهج التعليمية الفرنسية والفرنكفونية في بلدان افريقيا، والجزر الأخرى، التي انتشلته من وهدة الطمر والجحود، لكان مات موتة ثانية أبدية.

ولولا انتباهة عميقة، وسعي مشكور مرفود بالعلم، والبويطيقا، والنقد العارف الفعال، من لدن الشاعر واللساني والناقد : هنري ميشونيك، لظل هيغو يقتعد مقعدا خلفيا وراء الثلاثي الشاعري المذكور. علما أن هيغو كـ "لافورغ" و"كلوديل"، و"فردي، و"بول فاليري"، و"سان جون بيرس"، الخ"، وبعض الشعراء الرمزيين، والسرياليين، لا يتجاوز ولا يُمارى.

ولولا الدرس الأكاديمي العلمي الذي يستند إلى معرفة ومنهج، ونسق ونظام، لديست، بجزمة النكران والأمية الثقافية، والعدوانية المجانية، أسماء مشعة في تاريخ الأدب الأوروبي والأمريكي، إذ أن الفضاء الجامعي، يولي العناية، ويرفع سجف الإهمال والتجاهل، عن الذين طوروا والشعر والسرد، والفنون جميعا، بعيدا عن الإعلام التلفزي، والتحرير المقروء المتعجل والارتجالي، المتصفح للكتب مشيا في الممرات، والدهاليز، والأبهاء.

وفي المغرب – كما في غيره من الأمصار العربية – شعراء أفذاذ، أغنوا الشعر المغربي بما يفيد : نقلهم للشعرية من حال إلى حال، وطوروا لغتها وقاموسها، وبناءها، ورَحَّلوا إليها ثراء مقروءاتهم، وثمار علائقهم بالشعر الآخر المختلف، شعر الأغيار: (الشعر المغربي يطول هنا لغات التعبير العربية والأمازيغية والزجلية، والفرنسية والإسبانية والإنجليزية). فإذا هي شعرية مَضاء، يضيء التخييل القشيب نسيجها، والتصوير البديع قوامها وأركانها، والاجتراح الفكري ـ الشعري، روحها وعمقها. شعراء أفذاذ لكنهم لا يظهرون عند المناولات النقدية الشعرية، ولا يؤتى على أسمائهم في الأنطولوجيات الشعرية، ولا تذكرهم لجان وضع البرامج والمناهج المقررة في الأسلاك على متعلمينا ومتعلماتنا، ولا يدعون إلى الأماسي الشعرية، ولا يتاح لهم السفر إلى الخارج لتمثيل الشعر المغربي، وإظهار جديده، وجماله، وإضافاته من خلال كتاباتهم وأشعارهم.

والشاعر محمد الميموني واحد من هؤلاء، على رغم ريادته التاريخية والفنية، مثريا المدونة الشعرية بشعر مختلف ولافت. ولو لم تلتفت إليه وزارة الثقافة والاتصال على عهد الصديق محمد الأشعري في العام 2002، بطبع متنه الشعري الحافل في جزأين، لاستمر مُبْعدا عند ذكر الرواد، والفاعلين في المشهد الشعري المغربي العام، والمشائين الذين ظلوا يحملون جمرة الشعر الحارقة، منطوين على ألم الإضافة النوعية : (إذ الكتابة ألم)، والطموح المشروع في إعلاء الشعرية المغربية، وتبويئها إلى جانب "الشعريات العربية"، المكانة المعتبرة الوضيئة المشتعلة، والمستحقة.