رأي

عبداللطيف وهبي: عبدالرحيم بوعبيد "الشرط الأساسي للصراع من أجل الشرف هو أن تكون شريفا"

عبدالرحيم بوعبيد (( الشرط الأساسي للصراع من أجل الشرف هو أن تكون شريفا)) يوسف بناش

مرت أربعة عقود على تلك اللحظات، والتي ما تزال حاضرة أمام أعيني كأنها جرت بالأمس القريب، كان القيادي عبدالرحيم بوعبيد جالسا في رحاب فندق بأكادير يملكه عباس القباج، وحوله بعض شخصيات سوس، يحضرني منها الحاج عمر الساحلي والوثير مولاي احفيظ،  من حسن حظي أني كنت أرافق أبي لهذا اللقاء، كان العناق بينهما حارا، جلست على جانب قريب منهم، أمعن النظر في عبدالرحيم بوعبيد وهو منشغل في الحديث مع الآخرين،  منبهرا بهذا الزعيم الوطني الذي كان حديثه سلس وتحليله جريء يثيرني بشكل غريب.

وفجأة استدار حولي قائلا: كيف أنت يا بني؟ وكيف هو مشوارك الدراسي؟ كنت أرد عليه وأنا أشعر بارتباك كبير، لانبهاري به، فالرجل اشتغل مع الملك محمد الخامس وعارض بندية كبيرة الملك الراحل الحسن الثاني.

بعدها انتقلنا بالسيارات إلى ساحة عمومية بتالبورجت وسط مدينة أكادير، حيث الجماهير الغفيرة من المواطنين تنتظر ظهور الزعيم ليخطب فيها، و سي عبدالرحيم بنظارته الطبية السوداء، وسيجارته من نوع التبغ العادي، ظل لساعات يخطب في جمهوره،  الكل واقفا مشدوها، وحين ترديد الشعارات خف، إذ يبدو أن الجميع يريد أن يسمع الزعيم، و الحقيقة أن عبدالرحيم بوعبيد لم يكن يخاطب تلك الجماهير مباشرة فقط، بل يوجه رسائل إلى جهات عليا ومختلفة، وهي الطريقة التي يتقنها بوعبيد وحده في حين فشل فيها الآخرون.

وهكذا ظل الزعيم بوعبيد يمارس السياسة بكبرياء وشموخ حتى رحل، فمات نظيف اليد مرتاح الضمير، ممزوجة بتلك اللامبالاة التي يتعامل بها مع امتيازات الحياة وموقعه.

وكنت قبلها قد حضرت تجمعا للزعيم عبدالرحيم بوعبيد بسينما الصحراء بتارودانت، وحضرت  بعدها كثيرا من خطاباته واجتماعاته الحزبية، قد أزعم أنني تعلمت السياسة على يديه، لكن الرجل كان يتميز بنفحة الجرأة والاستقلالية، ناسيا ذاته من أجل الآخرين، قاد حزبا بكثير من الموضوعية والإدراك الشديد لقدرات الحزب في مجتمع ونظام سياسي شديدا التعقيد، ولكنه ظل حاضرا ولم يستطع أحدا أن يتجاوز حضوره السياسي.

فالرجل بهدوءه وصمته وتعدد قراءاته الكامنة في عشقه الكبير للكتاب، ظل حاضرا في الساحة السياسية بقوة وبتواضع، وحين مات الرجل ورحل، كأن السياسة احتجبت بعده.

في كثير من الأحيان وأنا جالس أتأمل مرحلتنا السياسية التي نعيشها اليوم، أشعر بتلك الهوة السحيقة بين ما كان مع الرجل، وبين ما هو كائن مع الآخرين، فتستفزني المقارنة، و كأن الزمن السياسي قرر أن يظلمنا، أو كأننا جئنا في زمن يتسم بالكثير من مضيعة الوقت.

وبقدر ما كان الرجل نحيفا في جسده، كان ضخما في السياسة (…)، سيظل بوعبيد ذلك الوطني ورجل الدولة، الزعيم والوزير، القائد والسياسي الكبير الذي كان لا يفتح فمه إلا عند الضرورة، ولا يتحدث إلا عندما يريد أن يضع النقط على الحروف.

كان بوعبيد والملك الحسن الثاني يملكان لغة خاصة للتخاطب فيما بينهما، وحدهما فقط من يستطيع فك شفراتها الخاصة، كما كان صراعهما قويا، ولكن كل واحد منهما يقدر الآخر، لأن كل واحد منهما يعرف الآخر حق المعرفة.

وبرحيل الرجل ومن كان حوله، فيبدو أنه من نكد الدنيا على المرء أن يعايش شخصيات مثل عبدالرحيم بوعبيد، وينتهي به الزمن (…) فلا يمكنه إلا القول، “اللهم إنا لا نسألك رد الزعماء ولكن نسألك اللطف فيهم”.