تحليل

تدابير استعجالية تٌجهز على الأبعاد الاستراتيجية للتعليم

الزكري عبدالرؤوف

إن حقيبة التعليم كانت دائما من الحقائب السيادية، وقد سببت شقاقا تاريخيا بين القصر والأحزاب الوطنية منذ أن رفض المرحوم الحسن الثاني إسنادها للمناضل المهدي بن بركة، المؤمن بأن التربية والتكوين بوابة المغرب نحو التنمية المنشودة. وغالبا ما كان يتم إسنادها لتكنوقراطيين قد تعطى لهم البطاقة الحزبية قبل الاستوزار أو بدونها. وآخرين فكوا الارتباط الحزبي في سبيل مواصلة تدبير الحقل التربوي. وهذا ما يدل على حيوية الشأن التعليمي لدى الجهات العليا، التي تتبنى مواصفات للمواطن الصالح، على المنظومة التربوية أن تعمل على صناعته، ونموذجا للإنسان في أبعاده العقلية والنفسية والبدنية تتكامل كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية « الأجهزة الأيديولوجية للدولة»(بورديو) على تربيته، في تناغم يتعذر والحال أن هذه المؤسسات تفرق دمها بين أحزاب يشهد الواقع الحكومي أنها لا تسلس قيادتها لرئاسة المفروض فيها أن تكون ناظما لعملها، وفق برنامج محط إجماع لأغلبيتها.

الرؤية الاستراتيجية أفق تربوي:

إن إخراج الفعل التربوي من دائرة الصراع السياسي، وجعله ملكا للدولة والمجتمع، هو مما لا يختلف حوله اثنان، درءً وتحصينا له من كل النزعات لهذا الطرف أو ذاك، ولينشأ المواطن بعيدا عن كل شحن إيديولوجي ضيق، أو تعريضه لتقلبات المصلحة السياسية وانعكاساتها على تكوين شخصيته. التي تتكون عبر مسار طويل، بمساهمة العديد من الحقول المعرفية وتغنيه التجارب الإنسانية، مؤطرا بفلسفة الدولة التي تصبغها على سياستها التربوية، لأنها مرتبطة بمصير الإنسان، وذات مضمون حضاري وثقافي تمثل «الدماغ المحرك للنظام التربوي بعامة والنظام المدرسي بخاصة» (الدريج) تنعكس إيجابا أو سلبا على بناء شخصية المتعلم. من هنا أتت الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين الحامل لكل موصفات المؤسسة المواطنة والمفكرة، بأطرها الخبيرة بمسالك التعليم ومنعرجات التربية التي زلت عندها الأقدام، بما راكموا من تجارب ميدانية ومعارف أكاديمية تخول لهم بلورت سياسة تربوية قادرة على مسايرة العصر، وتكوين أجيال في مستوى تحدياته والمساهمة في منجزاته بإيجابية، إن أٌلزم أصحاب القرار السياسي بخلاصة تفكيرهم، وجعل توصياتهم بصدد الإنصاف وتكافؤ الفرص لمرتادي المدرسة و جسرا للارتقاء المجتمعي، مؤشرا لمحاسبة مدبري الشأن التربوي تبعا لمدى مساهمتها في بلوغ الأهداف التي تجيب عن «إلى أين نحن ذاهبون؟» مع تحديد الموارد الضرورية لبلوغها. والتي لا تتحقق في مدى زمني قصير، بل الأمر يتعلق بسنوات تفوق بكثير ولاية حكومية. بالتخطيط الاستراتيجي، وبه وحده نستطيع الخروج من هذه الدوامة من المشاريع الإصلاحية اللاحقة منها تقلب الطاولة على السابقة، ولم تعطى لأي منها الفرصة لإثبات فعاليتها، وخصوصا إذا كان البعض منها قد حضي بالاستحسان، سواء على مستوى طريقة اشتغال اللجنة التي اشتغلت عليه، أو الخلاصات والخارطة التي رسمتها للنهوض بتعليمنا وجعله ذا جودة، ونقصد بالضبط الميثاق الوطني للتربية والتكوين. فالاستراتيجية كما عرفها بريجينسكي هي« الفهم الصحيح للتطور التاريخي والقدرة على استخلاص تعريف مجموعة من الأهداف من خلال المراجعة المستمرة للسياسات الراهنة»، والمراجعة تختلف كثيرا عن الشطب وترك المجال لقرارات تعد على استعجال تحت ضغط ممارس من طرف هذه الجهة أو تلك، سرعان ما يتم التراجع عنه، أو تأجيله إلى أجل غير مسمى، كما حصل مع التدابير ذات الأولوية. لأنها ببساطة ينقصها « الفن والعلم الذي يختص باستخدام المهارات والموارد المتاحة» (التويجري).

التدابير الاستعجالية نسف للرؤية الاستراتيجية:

أخذت العزة بالمنصب الوزاري محمد الوفا وأعلن« أن كل ما يتعلق بالاستعجال والاستنفار هي أمور انتهت بالتربية الوطنية» لأنه يتنافى ومنطق الفعل التربوي الذي هو فعل بطيء وغير متسرع، ما دام الأمر يتعلق ببناء الشخصية وإعداد الأجيال ومختلف العلاقات التي تنسجها مع المحيط. وهو تبرير وجيه، لكنه استخدم مكنسة لشطب تركة اخشيشن وما كان يرمز إليه حينها من انتماء سياسي، والإلقاء ببيداغوجية الإدماج بعيدا تلبية لمطالب نقابية وكل ما حمله البرنامج الاستعجالي من مدارس للتميز إلى التكوين المستمر، وترك مدارسنا في ضلال بيداغوجي لم يتم لحد الساعة تمام ترميمه، وإن فاقت في نظره «مدارس أوباما». دون تقييم مسبق والذي هو سمة العقلانية في التخطيط، والفعالية في الإنجاز. وهو ما فعله فيما بعد مجلس عزيمان، مقرا أن ليس كل مشاريع البرنامج الاستعجالي فاشلة. ومع خلفه بالمختار الخبير بقضايا التربية والتكوين، لكن سيرة الرجل وخبرته لم تشفعا له في بلوغ الجودة المطلوبة بتعزيز اللغات الاجنبية وميلاد الباكالوريا الدولية، وتأثيث الفضاء المدرسي بموارد رقمية لا يصل مفعولها إلى المتعلم لأسباب عدة، وعدم اكتراثه بما ينبض به الجسم التربوي من علل توشك على إصابته بسكتة قلبية، وإن صدح بها البعض تحت قبة البرلمان. فحمله حصاد إلى غرفة الإنعاش يشتغل بها أصحاب مهن شتى عدا أشرفها (الأستاذ) بوزراتهم البيضاء بين جدران تم طلاؤها على استعجال لتزين حضور الوزير المكثف على نشرات أخبار دار البريهي وبين المواقع الإلكترونية، حتى يتوهم المواطن أن المياه الراكدة أخذت تنساب وديانا رقراقه تجرف ما ترسب في المستنقعات المدرسية التي ورثها. لكن هذا الحضور الإعلامي لم يوازيه حضور ذهني لإصغاء السمع لذوي الفكر والخبرة، بل قابلهم بأنه لا يُهدد حين الاعتراض على بعض إجراءاته التي مست في العمق مكتسبات اجتماعية للشغيلة التعليمية العمود الفقري للمنظومة.

الإصلاح السطحي والعميق منه:

ارتبط الإصلاح بالحقول السياسية والاجتماعية والقانونية أكثر من ارتباطه بالتربية والتكوين، واستقدامه إلى الحقل التربوي دلالة على أن «مشكل التعليم ... لا يجد حله الصحيح والوحيد إلا في إطار حل جذري للمشكل العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي»( عابد الجابري). ويقصد به إدخال جملة من التغييرات على المنظومة لجعلها تستجيب للانتظارات المجتمعية على نحو قدر ما. ويعتقد الكثير من المهتمين بالشأن التربوي، أن مسلسل الإصلاحات بالشكل الذي تمت به، لا تعدو كونها سطحية، لا تمس إلا الجانب الشكلي والمرئي من الفعل التربوي، المتمثل في طلاء جدران المؤسسات، وتغييرات لا تنفذ إلى عمق المقررات الدراسية وإلى كل المواد والمستويات، وإجراءات تنظيمية وتشريعية للمهام التربوية، التي لم تفلح في تجويد الممارسة التعليمية، وإيقاظ دافعية المتعلم للإقبال على التحصيل الراسخ والفعال، وجعل المدرسة عامل جذب، تلبي تطلعات الفرد والمجتمع، ومساهمة في تنميتهما ماديا وأدبيا وفي الارتقاء القيمي.

إن الإصلاح هو حاصل التطور المستمر والدينامية الدائمة التي يعيشها، ولتجاوز سطحيته «يستلزم الأمر اعتماد نظام متكامل من الحوافز لتفعيل كافة الطاقات وتوجيهها نحو الاقتناع المبدئي بقيم الإبداع والإنتاج والمبادرة الهادفة وبالمسؤولية المهنية والخلقية والاجتماعية والتربوية»(مصطفى محسن). وكل إجراء أو خطاب تربوي لم يستوف حقه من العمق النظري، وشمولية المقاربة المعتمدة فيه، البعيد عن الذاتية والدوغمائية، النابع من واقعنا والمنفتح على المنجز الإنساني، ليس كفءً لإخراج منظومتنا من حالة الركود إلى حالة الدينامية، ومن الأزمة إلى العطاء. وهي أزمة صاحبته منذ الاستقلال ويبرر هذا القول مشاريع الإصلاح المتوالية منذ 1958 ولم يكتب لأي منها الوصول إلى المحطة التي ارتضتها عند انطلاقتها، لأنها كانت محكومة بهواجس سياسية وضغوط اجتماعية، ولم يتداول فيها مع الفاعلين في الميدان، بل كانت حديث نخب ضعيفة التأثير، ولم تكن« دائمة ومستمرة، لأن ما يمز عصرنا هو سيرورة التغيير المتواصل والمتسارع»(ألبرت بايرن).