تحليل

الأستاذ(ة) المتعاقد(ة) بين مطلب الترسيم وهاجس فسخ العقد

عزيز لعويسي

لم يكد يخمد الجدل الذي أثاره مشروع القانون-الإطار رقم 51.77 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، خصوصا فيما يتعلق بالمساس بمبدأ "المجانية" (المادة 42)، حتى عاد مجددا موضوع التوظيف بموجب عقود بحقل التعليم إلى واجهة الأحداث، على خلفية الإعلان عن قرار فسخ عقدة التوظيف مع أستاذين لمادة الرياضيات يشتغلان على التوالي بمديرتي زاكورة وبولمان؛ وهو ما أثار جملة من ردود الأفعال المتباينة على المستويات التعليمية والتربوية والنقابية التي تقاطعت حول الإدانة والرفض والتضامن، خاصة في أوساط الأساتذة بموجب عقود الذين بادروا إلى مقاطعة بعض التكوينات المبرمجة لهم في عدد من المراكز. وهذا يسائل مجددا الطبيعة القانونية لعقدة التوظيف المبرمة بين الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين كطرف مشغل، والأساتذة الموظفين بموجب عقود كطرف مشغل، خاصة في ظل الصلاحيات المخولة للطرف الأول ومن ضمنها صلاحية فسخ العقدة وإنهاء العلاقة التعاقدية، ومدى قدرة هذه العقدة على توفير الضمانات القانونية للطرف الثاني بشكل يقوي الإحساس بالاستقرار المادي والنفسي والاجتماعي.

وعليه سنقارب هذه العلاقة التعاقدية الرابطة بين الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والأساتذة المتعاقدين من خلال التركيز على البنود المثيرة للجدل، وخاصة تلك التي تسد أبواب الترسيم ( البند 4 ) وكذا تلك التي ترتبط بفسخ العقدة وإنهائها (البند 13).

استقراء للعقد المبرم بين الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والأساتذة الموظفين بموجب عقود، يلاحظ أنه يشمل ما مجموعه خمسة عشر (15) بندا على النحو التالي: موضوع العقد وتاريخ سريان مفعوله (البند 1)، مهام المتعاقد(ة) (البند 2)، مدة العقد وشروطه (البند 3)، الإدماج (البند 4)، الأجرة (البند 5)، الجمع بين الأجور (البند 6)، الترقية (البند 7)، التغطية الاجتماعية (البند8)، العطلة السنوية والرخص الاستثنائية ورخص الولادة (البند9)، التغيب لأسباب صحية (البند 10)، رصيد الوفاة (البند 11)، واجبات المتعاقد(ة) (البند 12)، فسخ العقد وإنهاؤه (البند 13)، تسوية النزاعات (البند 14)، سريان العقد (البند د15). وسنركز على التوالي على البندين 4 و13 باعتبارهما أكثر البنود إثارة للجدل:

البند 4: الإدماج

لا يخول هذا العقد الادماج في أسلاك الوظيفة العمومية، وبالتالي فالأستاذ(ة) المتعاقد(ة) لا يمكنه المطالبة بالإدماج المباشر في أسلاك الوظيفة العمومية، وهو الشرط المضن إلى جانب شروط أخرى، بالالتزام الذي تضعه الأكاديميات رهن إشارة المتعاقدين، الذي من خلاله يشهد هؤلاء بأنهم:

- اطلعوا على مضامين الإعلان المتعلق بشروط إجراء مباراة التوظيف بموجب عقد من طرف الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين؛

- على علم أن المباراة لا تهم التوظيف في أسلاك الوظيفة العمومية؛

- يعلمون أن التعاقد مع الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لا يخول الحق في الإدماج المباشر في الوظيفة العمومية.

وبالتالي، ومن الناحية القانونية، فالبند(4) من العقد و"الالتزام" الموقع من قبل الأساتذة المتعاقدين والمصادق عليه من لدن السلطات المختصة يسقط حقهم في المطالبة بمطلب الترسيم، لأنهم أقدموا على مباراة كانوا على علم مسبق أنها لا تهم التوظيف في أسلاك الوظيفة العمومية بل وأشهدوا على ذلك في التزام خاص؛ لكن في الآن نفسه، فإن هذا الشرط يبقى بمثابة "قنبلة موقوتة" يمكن أن تنفجر في أية لحظة، خاصة إذا تكتل الأساتذة المتعاقدون في تنسيقيات وطنية ونظموا أنفسهم في تنظيمات نقابية، وطالبوا بشكل جماعي بالحق في الإدماج المباشر في أسلاك الوظيفة العمومية. وهذا التوجه غير المستبعد من شأنه ضرب العقود المبرمة مع الأكاديميات الجهوية كطرف مشغل في الصميم بما في ذلك الالتزامات الموقعة من لدن المتعاقدين والمصححة الإمضاء والتي يلتزمون فيها بعدم المطالبة بالإدماج في الوظيفة العمومية، وأي خطوة مستقبلية تسير في هذا الاتجاه ستضرب ولا شك استقرار المدرسة العمومية وستعمق من أزمتها.

البند 13: فسخ العقد وإنهاؤه

باستقراء مقتضيات هذا البند، يلاحظ أنه أعطى للطرف المشغل (مديرو الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين) صلاحيات واسعة في فسخ العقد بعد إبرامه والموافقة عليه أو أثناء تنفيذه في عدد من الحالات منها:

- إذا أقدم المتعاقد(ة) على تصرفات ماسة بالأخلاق العامة أو بالسلامة الجسدية أو النفسية للتلميذات والتلاميذ أو مع زملائه أو مع رؤسائه؛

- إذا ارتكب أحد الأفعال داخل فضاء المؤسسة التعليمية أو بالحجرة الدراسية (الاعتداء بالضرب والسب والقذف الفادح في حق الزملاء داخل فضاء المؤسسة، رفض إنجاز المهام الموكولة إليه من لدن إدارة المؤسسة عمدا وبدون مبرر، القيام بكل ما من شأنه أن يعرقل سير المؤسسة التي يشتغل بها، التغيب بدون إذن مبرر بوثيقة رسمية لأكثر من 5 أيام أو 10 أنصاف يوم خلال السنة الدراسية، إذا ثبت أنه (ها) يمارس نشاطا آخر يدل عليه (ها)دخلا كيفما كانت طبيعته.

مما يفيد أن الأكاديميات الجهوية لها صلاحيات واسعة فما يتعلق بتجديد العقد بعد انتهاء مفعوله أو بفسخه وإنهائه متى أخل الأستاذ (ة) المتعاقد (ة) بأحد الالتزامات الواردة أساسا في البندين (12) و(13). وعليه ومن منطلق كون "العقد شريعة المتعاقدين"، ومهما كانت المؤاخذات والملاحظات التي تثيرها بنود العقد خاصة البند (13) الذي يبقى بمثابة سيف موضوع على رقبة الأساتذة المتعاقدين، فما عليهم – بعد أن قبلوا وصادقوا على بنود العقد – إلا أن يحرصوا على الالتزام ببنود هذه العقود التي تصبح سارية المفعول بعد التأشير عليها من لدن مراقب الدولة المعتمد لدى الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين (البند 15: سريان العقد) تجنبا لفسخ العقد وإنهائه. أما الطرف الثاني (المتعاقد (ة)) فلا يمكنه فسخ العقد إلا في نهاية السنة الدراسية، وذلك بعد إخطار مدير (ة) الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين كتابة في أجل لا يقل عن ثلاثين (30) يوما.

قراءة في حالة أستاذ الرياضيات بمديرية بولمان

بالرجوع إلى قضية أستاذ بولمان، واستقراء لقرار فسخ العقد وإنهائه، يلاحظ أن الأكاديمية الجهوية المعنية أسست لقرارها بناء على إرسالية المدير الإقليمي المرفقة بتقرير مدير(ة) الثانوية الإعدادية التي يشتغل بها الأستاذ المعني في شأن سلوكه التربوي وأدائه المهني، واستنادا أيضا إلى تقرير مفتش المادة الذي يفيد - حسب ما ورد في قرار الفسخ - بعدم توفر المعني بالأمر على المؤهلات المهنية الضرورية لتدريس المادة بسلك الثانوي الإعدادي، مما اعتبرته -الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المعنية- إخلالا بالالتزامات الواردة في البند الثاني عشر (12) من عقد التوظيف الموقع من لدن الأستاذ المعني مع الأكاديمية والمؤشر عليه من لدن مراقب الدولة المعتمد لدى الأكاديمية، واعتبارا لذلك واستنادا إلى البند (13) أخبرت الأكاديمية الجهوية الأستاذ بقرار فسخ العقد وإنهائه، وأشارت إلى أن إجراء الفسخ لا يخول للأستاذ المعني أي تعويض ولا يترتب عليه أي آثار قانونية اتجاه الأكاديمية.

إذا واستنادا لمنطوق البند 13 المشار إليه سلفا، فإن الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المعنية أقدمت على فسخ عقد الأستاذ المعني في إطار الصلاحيات القانونية الممنوحة لها، بعدما أسست قرارها على ما توصلت به من تقارير حول السلوك التربوي والأداء المهني للمعني بالأمر، وهذا يسمح بإبداء الملاحظات التالية:

- أن المادة (12)، التي ارتكزت عليها الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المعنية، ألزمت المتعاقد(ة) بمجموعة من الواجبات؛ منها الامتثال لتوجيهات وتعليمات السلطة الرئاسية، واحترام أخلاقيات التدريس، واحترام النظام الداخلي للمؤسسة، والتقيد بالبرامج والمناهج والمقررات الدراسية والعمل على انجازها داخل الآجال المحددة لها طبقا للتوجيهات الرسمية، والحضور في الدورات التكوينية التي تنظمها الاكاديمية الجهوية للتربية والتكوين أو المديرية الإقليمية التابعة لها لفائدته والمحافظة على تجهيزات وممتلكات المؤسسة. وبالتالي، فالغموض الذي يكتنف بعض هذه الواجبات قد يسمح باستغلالها كمطية للتهديد وفرض الخضوع والانصياع، بل وتصفية الحسابات؛

- أن الأكاديمية أصدرت قرارها بناء على ما توصلت به من تقارير حول الأستاذ المعني، ولم تقم بأي إجراءات ميدانية للبحث والتحري، أو استدعاء المعني بالأمر ومواجهته بما صدر في حقه من تقارير أو إحالته على المجلس التأديبي أو إعطائه حق الرد والدفاع عن نفسه، وتعاملها مع الأستاذ لم يخرج عن نطاق "إخبار بفسخ العقد".

- أن البند 14 (تسوية النزاعات) أشار إلى أن النزاعات الناتجة عن تنفيذ العقد تعرض على المحاكم المختصة دون أية معلومات أخرى، وهي إمكانية قانونية مفتوحة أمام طرفي العقد لسلك مسطرة القضاء المختص في حالة النزاع؛

- أن الأستاذ المعني حديث العهد بمهنة التدريس، ولم يخضع شأنه شأن زملائه من المتعاقدين إلى أي تكوين فعلي سواء نظري أو تطبيقي، وبالتالي فهو في حاجة كغيره إلى المزيد من التكوين والتأطير التربوي، والاستناد على محدودية "الأداء المهني" يبقى مجانبا للصواب. أما "السلوك التربوي" فهو يبقى موضوع نقاش، ويمكن إعطاء مثلا حالة أستاذ(ة) متعاقد(ة) تعرض للعنف من لدن تلميذ(ة) داخل الفصل أو خارجه، فهل يقم بما يمليه حق الدفاع الشرعي عن النفس، أم يخضع للأمر الواقع، حتى لا تسري عليه مقتضيات البند 13 ويتعرض بالتالي لفسخ العقد؛

- أن واقعة فسخ عقد أستاذي "زاكورة" و"بولمان" يثيران معا سؤال "المصداقية" وسؤال "الحجية"، بمعنى أن التقارير المرفوعة إلى الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين -كطرف مشغل- قد تعكس بصدق إخلال أو اختلال الأستاذ(ة) المتعاقد(ة) سواء على مستوى السلوك أو على مستوى الأداء المهني، وقد تكون أقل مصداقية أو غير عاكسة لواقع الحال كما يجب. أما فيما يتعلق بالحجية، فإلى أي حد تكتسي التقارير المحررة من قبل مدراء المؤسسات التعليمية أو المديريات الإقليمية طابع "الحجية" القانونية، التي على ضوئها يمكن للأكاديميات اتخاذ قرار فسخ العقد، أم أن هذا القرار المصيري، لا بد له من آليات قانونية أخرى من شأنها التثبت من الوقائع المضمنة بالتقارير، تعزيزا للضمانات القانونية للأستاذ(ة) المتعاقد.

أخيرا وليس آخرا وتأسيسا على ما سبق، لا يختلف اثنان في كون التوظيف التعاقدي بحقل التعليم أسهم بشكل مهم في امتصاص البطالة وسط حاملي الشواهد الجامعية (إجازة، ماستر). كما أسهم ويسهم في التخفيف من حدة الخصاص المهول الذي تعاني منه المدرسة العمومية، لكن هذا النوع من التوظيف أثار ويثير الكثير من الجدل، سواء على مستوى جودة التعلمات الناتجة عن محدودية التكوين أو على مستوى طبيعة العلاقات التعاقدية غير المتوازنة بين طرف مشغل (الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين) يمتلك "سلطة فسخ العقد وإنهائه" وطرف مشغل (الأستاذ(ة) المتعاقد(ة)) ليس أمامه سوى القبول بشروط العقد المفروضة كما هي، هروبا من واقع البطالة وانسداد الأفق. كما أن إشهار بعض الأكاديميات الجهوية لسلاح "فسخ العقد" ستكون له تداعيات متعددة الأوجه، ليس فقط على الأساتذة الذين تم قطع أرزاقهم والإجهاز على آمالهم وأحلامهم في الاستقرار وتأسيس أسر وإعالة عائلات، ولكن على نسبة عريضة من الأساتذة المتعاقدين الذين سيسكنهم جميعا هاجسا مرعبا اسمه "فسخ العقد" في أية لحظة من اللحظات، وسيتقوى لديهم الإحساس بانعدام الاستقرار المادي والنفسي والاجتماعي. وهذا سيرخي بضلاله على المدرسة العمومية التي لا يمكن إصلاحها والنهوض بأوضاعها إلا بأستاذ(ة) مستقر براتب محترم وتعويضات محفزة، تسمح بالانخراط في مقاصد الإصلاح والتفاعل معها بل وبدل الجهد من أجل تنزيلها وإنجاحها. من ثمّ، ظل "الترسيم" وسيظل مطلبا جوهريا لكل الأساتذة الموظفين بموجب عقود، وهذا المطلب سيصبح "صمام الأمان" لهم في ظل سلاح "فسخ العقدة"؛ وهو ما يجعلهم يواجهون واقعا مجهولا يشوبه الانصياع والغموض. وهذه الوضعية المقلقة تسائل الساهرين على الشأن التربوي، وتفرض عليهم إعادة النظر في بنود "العقد" المبرم مع الأساتذة المتعاقدين من أجل تصويبه وتجويده، ليس فقط تقديرا وتكريما لهؤلاء الأساتذة ومدهم بشروط الاستقرار وإحاطتهم بما يكفي من الضمانات القانونية الكفيلة بحماية حقوقهم المشروعة، ولكن أيضا حماية لمدرسة عمومية من التصدع.. مدرسة عمومية تئن من شدة الأزمات ولم تعد تستحمل أزمات أخرى .