قضايا

السلفية والحداثة.. بين الثقة في الفكر وقداسة اللحظة التاريخية

أحمد السرار

مرَّ التفكر الإنساني بلحظات1 متعددة، تطور من خلالها الإنسان عبر التاريخ، ليصل إلى المرحلة التي نعيشها اليوم.. والتفكير الإنساني في تطوره، مر بلحظتين أساسيتين:

أولاً: "اللحظة الدينية" التي جاء بها الأنبياء والرسل، وهي تقوم على أساس وجود الله، والكتب المقدسة، والإيمان (الغيبيات)؛ وهذه اللحظة، حاولت تجاوز التفكير الوثني والخرافي، وقامت بنقد الأساطير التي كانت مسيطرة على وعي الإنسان وإدراكه، وأجابت عن الأسئلة الوجودية، المرتبطة بالغاية من وجود والوجود، والحكمة من خلق الإنسان، ومصيره بعد الموت..

ثانيا: "اللحظة الطبيعية" التي أسسها الفلاسفة الطبيعيون، كصراع مع "اللحظة الدينية"؛ فقد حاولوا إنهاء فكرة وجود الله، عبر القول بقدم العالم، وبأن الطبيعة هي أصل ذاتها، بمعنى أنها خلقت نفسها بنفسها.. وقد تأثر التفكير الغربي بهذه اللحظة التاريخية، وحاولوا البرهنة عليها من خلال نظرية: "الانفجار العظيم"، تأكيداً منهم على أن الطبيعة هي من أوجدت نفسها بنفسها دون تدخل الله، ونظرية "داروين" التي حاولت إنهاء فكرة وجود الخالق، وأعادت ربط الإنسان بالطبيعة المادية، بعيداً عن التفسيرات الدينية، التي تربط الوجود الإنساني بالخالق (الله) وليس بالطبيعة.. وهكذا تم التأسيس لنظرية "الإلحاد"، التي ترفض أي تفسير ديني للكون، والطبيعة، والإنسان، وما بعد الموت.

واللحظة الطبيعية، ما هي إلا امتداد للصراع الإغريقي بين الله (الملك الحاكم)، والإنسان (الشعب المحكوم)، حيث انتقل هذا الصراع - الإغريقي بين الله والإنسان- إلى الفلسفة اليونانية، ثم إلى الفلاسفة الطبيعيين.

وعليه، لا زال التفكير الإنساني متأثراً باللحظة الدينية، خصوصاً في "الشرق الإسلامي"؛ وباللحظة الطبيعية خصوصاً في "الغرب المادي"، وكل لحظة حاولت الدفاع عن نفسها، من خلال صنع قداسة تاريخية حولها، ترفض أي نقد أو تطور أو تجاوز.. وكإشكالية "تاريخية" مرتبطة أساساً بقداسة اللحظة التاريخية بين اللحظة الدينية، واللحظة الطبيعية؛ وكإشكالية "فكرية" مرتبطة أساساً بالثقة في الفكر بين الشرق والغرب.. اخترت نموذج السلفية (بمفهومها المذهبي)، باعتبارها تمثل قداسة فكرية، مرتبطة بالتفكير الديني (الإيماني)؛ واخترت نموذج الحداثة (بمفهومها الغربي)، باعتبارها تمثل قداسة فكرية، مرتبطة بالتفكير الطبيعي (المادي).

من خلال هذا التمهيد يمكن لنا أن نتساءل !! ماذا نقصد بالقداسة التاريخية ؟ وكيف أنتجت السلفية لحظة تاريخية مقدسة ؟ وكيف حاولت الحداثة إلغاء كل ما هو مقدس لتصنع من نفسها مقدساً يلغي الآخر ولا يعترف إلا بنفسه ؟ هل يمكن لنا أن نتجاوز قداسة اللحظة التاريخية لنؤسس للحظة إنسانية ترفض كل أشكال القداسة التاريخية ؟.

تعتبر القداسة التاريخية لحظة من الزمن، تشكلت من خلال حدث تاريخي، أثّر في التفكير الإنساني، وانتقل هذا التأثير عبر الأجيال مُتجذراً في الثقافة، بحيث يستحيل تجاوز هذا الحدث أو نسيانه، فيصبح هذا الحدث لحظة زمنية مقدسة، لا يمكن نقدها أو تجاوزها.

فعلى سبيل المثال.. اللحظة التاريخية المقدسة التي صنعها "الشيعة" من خلال ضرب أنفسهم بالسلاسل والسيوف، حتى تسيل منهم الدماء وتتشوه أجسادهم، بسبب حدث تاريخي (استُشهِد فيه الإمام الحسين بن علي، بعد رفضه تقديم البيعة ليزيد بن معاوية)2 وهذا الحدث تجذر في ثقافة الشيعة، وأصبح لحظة زمنية مقدسة، تنتقل عبر الأجيال، بحيث لا يمكن تجاوزها إلا بكسر القداسة عنها؛ ونفس الأمر وقعت فيه السلفية والحداثة..

لقد حاولت السلفية انتاج لحظة تاريخية مقدسة مماثلة، من خلال تجميدها للتفكير الديني عند ما أنتجته السلف في القرون الثلاثة الأولى؛ واعتبرت كل مجدد للتفكر الديني، هو مبتدع وضال، وفي بعض الأحيان خارج عن الإسلام؛ فضيقت على الناس تفكيرهم، وقيدت المجتمع بأفكار واجتهادات وقناعات وتنبّآت، ليست من صنع حاضرنا، فألغت روح الإسلام، ومقاصده، وغاياته، وكلياته، وحِكمه؛ وجعلت الإسلام محصوراً في لحظة زمنية مقدسة (القرون الثلاثة الأولى) لا يمكن نقدها أو تطويرها أو تجاوزها.

من جهة أخرى، حاولت تحصين نفسها ضد أي انتقاد فكري أو ديني أو علمي؛ فأنكرت المجاز في القرآن الكريم، وأنكرت التأويل، وحصرت الأدلة الشرعية في الأدلة النقلية دون الأدلة العقلية، وشَخْصَنَت دين الله وجعلته مرتبطاً بأشخاص معينين، وبدَّعت كل من خالفها من العلماء والباحثين والمتخصصين، وقامت بتحريف بعض الكتب الدينية3 حتى لا تتناقض مع نفسها، وأخرجت بعض النصوص الشرعية عن سياقاتها لتُشَرْعِنَ للاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي (تسييس شعيرة الحج، ودعم السياسة الخارجية لأمريكا باسم الدين، ومنع المرأة من حقوقها الشرعية والتعاقدية، وآخرها السماح لها بقيادة السيارة، الخ)، وربطت وجود الإنسان بالآخرة (العقيدة والعبادات) وما يتعلق بها من أحكام، ولم يلتفتوا إلى الدنيا التي تتعلق بها حياة الإنسان اليومية (العلوم الإنسانية والطبيعية، والمعاملات، والقيم، والأخلاق، والعدالة الاجتماعية، والحرية)، فمنعوا كل ما هو جميل، وأسقطوا المفاهيم القديمة على المفاهيم الحديثة (الفن، الجمال، النظرة الثقافية للمرأة، الخ) وحرموا المظاهرات، ورفضوا كل ما جاءنا من الثقافة الغربية (الحداثة) الخ، بدعوى أن الناس في القرون الثلاثة الأولى لم يفعلوا ذلك !!

وكل هذا من أجل أن يُحافظوا على قداسة اللحظة التاريخية التي أنتجوها، من خلال تجميد التفكير الديني، والانغلاق على الذات لصنع "الكمال الفكري"، فأصبحت السلفية فكراً مقدساً لا يقبل التّجاوُز، أو التطور، أو النقد؛ يرفض أي تجديد في فهم الدين، وأي حوار أو تعايش مع المخالف.

لقد صنعت السلفية لنفسها صندوقاً تاريخياً مقدساً، يُشعرها بالأمان والثقة، ويَقِيها من مواجهة اشكالات الواقع وتحدياته، التي يعيشها الإنسان في كل يوم خارج الصندوق المقدس الذي صنعوه لأنفسهم.. فالسلفية ما هي إلا محاولة لجعل الإسلام حبيس لحظة تاريخية من تفكير المسلمين؛ فلا يمكن أن يتجدد الإسلام ليجيب عن أسئلة الواقع، ويواكب الحياة الإنسانية، إلا من خلال تحريره من هذه اللحظة التاريخية المقدسة (الصندوق المقدس)، عبر الرجوع إلى أصل الإسلام ومنبعه (القرآن والسنة) ومقاصده، وكلياته، وربطها بالواقع الإنساني.

أما فيما يتعلق بقداسة اللحظة التاريخية التي أنتجتها الحداثة والعلمانية.. فقد ظهرت العلمانية في بداية الأمر "كوسيلة" لتخليص الدين من قبضة رُهْبَان الكنسية، الذي كانوا يُكَفّرون ويقتلون كل من خالف تصورات الكنيسة؛ وجاءت لتلغي القداسة الفكرية التي صنعتها الكنيسة، فمشكلة العمانية كانت مع الكنيسة وليس مع الدين.

كما جاءت لتخليص الدين من الاستغلال السياسي، الذي كان يُشَرعِنُ للاستبداد والطبَقيّة في المجتمع، فكانت العلمانية وسيلة لإلغاء كل ما هو مقدس في الثقافة الغربية؛ وهي امتداد "للحظة الطبيعية" التي تحدثنا عنها سابقاً.

لكن مع مرور الزمن، حاولت الحداثة الغربية فرض ثقافتها، وفكرها، وأنماط عيشها، على الثقافات الأخرى، باعتبارها هي النموذج المطلق والنهائي، الذي لا يمكن أن تتجاوزه الحضارة الإنسانية؛ وفي هذا السياق كتب الفيلسوف السياسي الأمريكي فوكوياما كتابه: (نهاية التاريخ)، مؤكداً على أن العالم متجهة نحو النموذج الحداثي الأمريكي، باعتباره "نموذجاً مطلقاً" لا يقبل النقد أو التطور أو التجاوز.. فمثل هذه النظريات وغيرها من النظريات الغربية، التي حاولت صنع نهاية للتاريخ الإنساني، ما هي إلا محاولات لتجميد تفكير الإنسان، عند اللحظة التاريخية التي صنعتها الحداثة الغربية..

انقلبت الحداثة على نفسها، وجعلت من نفسها "النموذج المطلق" والطريق الأخير، الذي لا يمكن للإنسانية تجاوزه؛ فأصبحت الحداثة واثقة من نفسها، وصنعت من نفسها فكراً مقدساً ومنغلقاً، يرفض النقد والتطور، بل حاولت إخضاع كل الثقافات لتصوراتها ومفاهيمها..

فالعلماني الذي يدعوا إلى الحرية بمفهومها الحداثي، من خلال ربط الحرية "بثقافة العري والتحرر من القيود الدينية".. هو في نفس الوقت يقصي الآخر، الذي يؤمن بالحرية بمفهومها الديني والثقافي، المخالف لثقافة العري والتحرر من الدين.

وعندما تفرض المنظمات العالمية والجمعيات الحقوقية، على باقي المجتمعات الإنسانية، مبدأ المساواة بمفهومها الغربي "المادي" (سواء في الإرث أو في العلاقات الأسرية، المبنية على الحب والرحمة)، فهي تلغي باقي المفاهيم الدينية والثقافية لمبدأ المساواة التي تناقض فكرة المادية الغربية، فليس كل الثقافات تقول بالمساواة بمفهومها المادي الغربي (العلماني)؛ وعندما تفرض الحداثة على السينما العالمية ربط الفن، بالانحطاط الأخلاقي، والشذوذ الجنسي الخ، فهي تلغي الفن الذي تربطه باقي الثقافات الأخرى بالأخلاق والقيم الإنسانية..

لقد حاولت الحداثة الغربية، أن تفرض نفسها على ثقافة الآخرين، وأن تجعل كل الشعوب تابعة لفكرها المادي.. فدعاة الحداثة، جعلوا من الحداثة "حداثة عدمية مقدسة" تلغي كل ما هو مقدس، لتجعل من نفسها المقدس الوحيد والمطلق. ودعاة العلمانية، جعلوا من العلمانية "غاية" في حد ذاتها، بعدما كانت "وسيلة" للحرية الثقافية والفكرية.

وبالتالي فالحداثة تنهج نفس منهج السلفية (المقدسة)؛ والسلفية تفكر بنفس تفكير الحداثة (العدمية).. فالسلفية في نظرها تدافع عن الحق والدين الصحيح، لكنها في الأصل جمدت روح الإسلام ومقاصده، وسجنت التفكير الديني وحصرته في أقوال السلف، ولم تلتزم بمنهج السلف في فهم الإسلام، من خلال ربطه بمصلحة الإنسان التي تتغير باستمرار، فالسلفية هي تكرار لما وجدوا عليه آباءهم. والحداثييون ألغو روح الحداثة وجعلوا منها ايديولوجية، فأصبحت الحداثة تكراراً للثقافة الغربية.

أنتجت كل من السلفية والحداثة لحظة تاريخية مقدسة، تختزل نفسها في ذاتها، وترمي بالآخر خارج الذات دون أن تستوعبه، نتيجة الثقة فيما عندها؛ وهذه اللحظة المقدسة التي أنتجوها، لا يمكنهم تجاوزها أو نقدها أو تطويرها.. فالتفكير الديني أراد أن يحرر الإنسان من تقديسه للطبيعة (الوثنية)، لكنه أنتج لنا تفكيراً مقدساً (نموذج السلفية)؛ والتفكير الطبيعي قطع مع التفكير الديني ليحرر الإنسان من قداسة الدين (الكنيسة)، لكنه أصبح مقدساً مرة أخرى.

ستظل قداسة اللحظة التاريخية إشكالية خالدة بين الدين والفلسفة.. إن خطورة قداسة اللحظة التاريخية، تجعلنا في صراع دائم مع الآخر، فالصراعات الطائفية بين الشيعة والسنة؛ والصراعات الدينية بين اليهودية والمسيحية والإسلام؛ والصراعات الثقافية بين الشرق والغرب، والدين والإلحاد، والحداثة والسلفية.. هي صراعات ناتجة عن قداسة اللحظة التاريخية؛ لأن قداسة اللحظة التاريخية، تعجز عن احتواء الصراعات والاشكالات المتجددة في كل لحظة جديدة.

إن أصعب مهمة قد يواجهها التفكير الإنساني، هو إنتاج فكر مَرِن يمكن تطبيقه في الواقع، وفي نفس الوقت يتطور بتطور الواقع، دون أن يتجمد عند لحظة تاريخية يعتبرها هي الحقيقة المقدسة، التي لا يمكن تجاوزها أو نقدها. وعليه، فالسلفية (بمفهومها المذهبي) ليست حلاًّ لواقعنا، والحداثة (بمفهومها الغربي) ليست حلاًّ لواقعنا؛ وكلاهما سيتم تجاوزهما مستقبلاً، باعتبارهما لحظة تاريخية جامدة لا تقبل التطور أو التجديد.

لذلك على السلفية أن تفهم بأنّ الإسلام جاء لخدمة الإنسانية، ولم يأتي لطائفة دون أخرى، وأنه رحمة للعالمين على مر العصور والأجيال، وأنه لا يرتبط بلحظة تاريخية أو بأشخاص معينين، فالإسلام روحٌ أساسه المصالح والمقاصد والحِكم.. وعلى دعاة الحداثة والعلمانية أن يفهموا، بأن الحداثة هي نموذج من نماذج الثقافة الإنسانية، لا يحقّ لها أن تُخضِع كل الثقافات لمفاهيمها وأفكارها، وبأن العلمانية مجرد وسيلة لتحرير الدين من الاستغلال، وليست غاية في حد ذاتها، أو أنها تدعوا إلى ثقافة العري ورفض الدين، فالعلمانية لم ترفض الدين، وإنما رفضت استغلال الكنيسة للدين.

إننا في حاجة إلى تصادم الأفكار، لتجاوز كل اللحظات التاريخية المقدسة التي صنعها الإنسان عبر التاريخ، وذلك بالاستمرار في طرح الإشكاليات الكبرى والأسئلة العميقة، التي تجعل التفكير الإنساني عاجزاً ومجبراً على التفكير باستمرار، دون أن يشعر بالأمان أو القداسة أو الثقة، وهذا ما يجعل التفكير الإنساني قادراً على استيعاب كل المتغيرات، ويتطور بتطور حياة الإنسان وإشكالاته..

بهذا سنكون أمام فكر إنساني، يتجدد في كل لحظة تاريخية جديدة، يكون فيها الإنسان سيداً للفكر ومنتجاً له، باعتباره أرقى المخلوقات في الوجود، وليس مجرد عبيد للحظة تاريخية ماضية؛ فحرية التفكير هي من أعظم الحريات التي تمثل الوجود الإنساني، فعندما يتوقف التفكير، سيكون وجود الإنسان وجوداً عبثياً، وسيفقد الوجود معناه الوجودي.

الهوامش:

اللحظة: هي جزء من الزمن.

2-رضي الله عنهم.

3 - حذف عبارات لا تعجبهم من (حاشية الصاوي) على (تفسير الجلالين).

- حذف (فصل مبحث الاستغاثة) من كتاب: (المغني) لابن قدامة الحنبلي.

- حذف الفصل الخاص بالأولياء والأبدال والصالحين من (حاشية ابن عابدين) الشامي في الفقه الحنفي.

- الحذف لشرح الإمام ابن حجر للأحاديث المرتبطة بالصفات من (فتح الباري).

- تحريف بعض النصوص من كتاب: (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري.

- "استبدالهم عنوان: (فصل في زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم) في كتاب: (الأذكار) للإمام النووي، بعنوان: (فصل في زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم)، مع حذف عدة أسطر من أول الفصل وآخره، وحذف قصة العتبي. مع حذف كلام الإمام النووي على أحاديث الصفات في شرحه لصحيح مسلم. (راجع كلام تاج الدين السبكي: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ج:2/ص:19)

- التلاعب بكتاب: (تبيين كذب المفتري) ومحاولة إعدام نسخه. (راجع كلام الحافظ أبو بكر البيهقي: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ج:3/ص:400) الخ.. وكل هذا من أجل الحفاظ على قداسة فكرهم، ودفع أي تناقض عنه.

*باحث في الفكر الإسلامي والمشترك الإنساني والأديان