رأي

محمد بودويك: ما ينبغي أن يقال

لست على خلاف مع الدين، وكيف لي وأنا مسلم، في الأول والأخير، أنتمي وأنتسب لديانة إبراهيمية توحيدية كونية كبرى، ورسالة إنسانية عالمية بما لا يقبل الجدل والتشكيك. لكنني مع خلاف جذري، مبدئي، مفكر فيه، مع بعض القراءات الفقهية الأصولية المتعالمة للدين، مع المقاربات البشرية المعطوبة للنص القرآني، للكتاب الأول في العربية، وللسنة النبوية، حيث نحن أمام تعارضات، وتضاربات، وقُدّام تفاسير مغرقة في الغيبية واللامنطق، و التآويل المغرضة الانتفاعية بالمعنى المكيافيلي للنفعية والانتفاع.

ذلك أن الدين التوحيدي الإبراهيمي في تجلياته، وكتبه التاريخية الكبرى : اليهودية، والمسيحية، والإسلام، دعا، وألح، وحث على المحبة، مطلق المحبة، بما يفيد حسن الجوار، والتراحم، والتعايش، والتساكن، والتسامح والتحلي بالأخلاق الحميدة، والتزين بالسلوك الحسن القويم مع النفس ومع الناس، وفي نسج العلائق المنتجة مع المجتمع، والكون، والوجود، والطبيعة، والعالم.

الديانات الثلاث – والإسلام من بينها لأنه أخذ منها، ووَجَّه البيئة، والمجتمع البدوي آنذاك، وفق طروحاتها الإيثيكية، ومحتوياتها ودعاواها الأخلاقية، ومبادئها السامية، ومُثُلها العليا، وأبعادها الفكرية القومية.

الديانات الثلاث، بما هي كذلك – في العمق والجوهر والروح والمنطلق- بَراءٌ من الدم، والتعذيب، والتحريق، والإرهاب، والشر الجذري كما أسماه الفيلسوف إيمانويل كانط، الفيلسوف إيمانويل كانط، والفيلسوفة حنا أرندت، بعده بقرنين.

وهذا يفضي إلى القول بأن الإسلام – حتى وهو يغربل ما سبق، ما وصله، واطلع عليه من كتب سماوية، وكراريس أرضية، وما حل بمكة: (أم القرى)، ويثرب: (المدينة المنورة)، والطائف، وحرّان، وغيرها، من أفكار غنوصية وَمانوية، وفلسفية من فارس والهند والصين واليونان، أبقى على جوهر الرسالات السابقة، والأفكار الذائعة المتداولة بين "الملإ"، و"النخب"، و"التجار" الكبار، في الجزيرة العربية، وبلاد الشام، والعراق، ومصر، وغيرها، أبقى على ما يمكن تسميته بنبض المحبة الإنسانية، وتقويم الاعوجاج البشري، والطغيان الفردي، والعبودية الفاحشة، والتهلكة المعيشية التي كانت تتردى في التُّرَهات، والأبيقوريات والملذات، والمذابح، والتصفيات.

إن ما حدث للإسلام كدين كوني كبير، ورسالة سامية متعالية، وإن كانت مشدودة إلى ظروف تاريخية معينة، واشتراطات وإرغامات جغرافية قائمة، وإبسْتيماتٍ مهيمنة فترتئذ –، منذ القرن التاسع عشر، بل قبله، من تشوهات، وحذلقات، واستخدامات مغرضة، مؤدى عنها، هو ما ساهم –إلى حد بعيد- في ما تعرفه أمة الإسلام اليوم، وما تتعرض له من كراهية، وخوف، وحذر، وحيطة، من قِبَل أطراف كثيرة في أرجاء المعمورة : أسيويين، وأمريكيين، وأوروبيين، إذ اختلط على نُخَبها كما على عامتها، الإسلامُ كنص مُنَزّلٍ، والإسلامُ كقراءةٍ بشرية نسبية يحفها الخطأ والصواب، وتأويلٍ، ضاعت وانبهمتْ نقطة الحد، وعلامة الفصل بينهما. فإذا الإسلام، وقراءة النص الإسلامي "المخدومة"، كلاهما، مرفوض ومرهوب بالمعنى السلبي للكلمة، وملقى بهما معا في حوض الغسيل.

وقد كان تَصَدّى للافْتِئاتِ التشريحي للدين، والتأويلِ الخرافي الأسطوري له من لدن "فقهاء الظلام"، زمرةٌ متنورةٌ من مفكرين وعلماء دين، من مصر، ولبنان، وتونس، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، والمغرب، والجزائر. زمرةٌ لم تسكت عما أحاط القرآن والسنة من قراءات وتآويل يَمُجُّها منطق العلم والعصر، ويستغربها كل ذي عقل وحس سليمين.

لكن هذه الزمرةَ المستنيرةَ، تعرضت للسلخ والمسخ، والمحاكمات الصورية "المفبركة". وكان وراء ما حدث لها من قمع ومنع وإسكات وإخراس وتصفية، زبانية التآويل والتفاسير المخدومة الذين استقووا –بطبيعة الحال- بأهل الحل والعقد، بأولي الأمر، بالحاكمين الجهلة المستبدين الذين أغدقوا على الكاذبين المدعين، المال والجاه، والصدارة، والوجاهة "العلمية" الظالمة. بينما أبعدوا ونفوا، وخوَّفوا كل ذي نظر ثاقب، وعلم نافع، ونور ساطع يضعه بين يدي الكتاب والسنة المستصفاة، استهداءً بجوهرهما، وروحهما الأسمى، وأبعادهما الأخلاقية الحكيمة الفضلى، وما يستجيب لمنطق ومنطوق الدعوة والرسالة والهداية في الأصل والمنطلق، واستهداءً بملموسية، ومنظورية النهضات، والتَّمَلْمُلات التي عرفتها شعوب في مختلف أنحاء العالم بعد أن كانت تغوص في رمل الجهالة العمياء، ومستنقع التخلف والظلام.

إن قائمة المفكرين الدينيين المتنورين، طويلةٌ، متشعبةٌ، وموزعة على جغرافيا العالم العربي، والعالم الإسلامي، لا يتسع المقام لتسميتها وإيرادها مفصلةً، إذ يكفي أن نحيل –تمثيلا- على قادة رأي فيها، وأرباب علم ومعرفة تنويرية، واجتهاد معرفي تراثي حداثي مُبْهِر. ولعل محمد عبده، والكواكبي، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى، وطه حسين، والطاهر حداد، وخير الدين التونسي، وإبراهيم اليازجي، وسعيد حجي، ومعروف الرصافي، وصدقي جميل الزهاوي، وعلال الفاسي، والمختار السوسي، وشعيب الدكالي، ومحمد بلعربي العلوي، لعل هؤلاء وغيرهم، أن يكونوا نهضويين تحديثيين بالمفهوم السياقي التاريخي، من دون أن نورد أسماء حركة تنويرية حداثية وراهنة، تشتغل بقوة، ووعي ومعرفة، ودأب، وصبر، محاولة – جهد المستطاع والإمكان- أن تُخْرِجَ العالم العربي من ظلامه، وتأخره، لينخرط في العصر الجاري، سائلا ومتسائلا، ناقدا ومنتقدا. ولا نعدم في هذا الصدد، وهذا المنحى، الإشارةَ إلى مفكرين مغاربة، وتوانسة، ولبنانيين، ومصريين، وعراقيين وسوريين، يكتبون، ويَصْدَعون بما يرونه حقا، ومسؤولية وطنية وإنسانية وتاريخية، يتعين عليهم أن يؤدوها من دون تردد، ولا إبطاء. يفعلون هذا، والموت الأسود يحوم فوق رؤوسهم، أو يتربص بهم في كل حين.

فالسلطات الجائرة في بعض البلدان العربية، مهيأة لدس المال في يد المجرمين لقطع الطريق، وَوَتين الحياة، على المتنورين، بالتخويف، والتَّسْفيل، والتَّفْسيق، والرَّمْي بالإلحاد والهرطقة، وما إلى ذلك، و"إقامة الحد"، وصولا أو شروعا في التصفية الجسدية، قبل هذا وذاك.

الإسلام الأول أبيضُ قبل "السقيفة"، وما كان من أمرها، وما جرته من "ويلات" على تاريخية الإسلام والمسلمين، أبيض كأنه الثلج في نهار مشمس، أو على قنة جبل أخضر خلف غابة زاهية مونقة عذراء. إسلام الحق، والعدل، والجمال. إسلام التعايش، والتساكن والرحمة، والدعوة إلى المحبة والسلام. إسلام المباديء السامية، والقيم الروحية الكونية. إسلام الضيافة الثقافية، والتجسير الفكري، والنفسي، والاجتماعي، والطريق اللاَّحِب، والمحجة البيضاء إلى التآخي والتعارف، والتعاون، والتصاهر، وتبادل الرأي والخبرة، وشد الرحال إلى العلم والمعرفة، والتجربة الإنسانية في كل الكوكب الأزرق.

الإسلام الذي لم يعرف أياديَ آثمةً عاثت في سُنَّتِه عند التدوين، والتوظيف السياسي.

هذا هو إسلامي، وإسلام الكثيرين قبلي، ومعي، وبعدي. إسلام مفكرينا الكبار، المتنورين. وهو ما ينبغي أن نقوله، ونجهر به، ونقدمه إلى العالم من خلال رؤانا وأفكارنا، وندواتنا، وعلاقاتنا، وزيارتنا السياحية أو العلمية إلى أوروبا، وأمريكا، وآسيا، من خلال سلوكاتنا، وتصرفاتنا، وإظهار عطشنا، ولهفتنا على المآثر الإنسانية هناك، وعلى الفكر والثقافة الهائلة حيث هم، والتكنولوجيا الجبارة التي وحدت العالم، وعولمت معيشه ومعاشه، وضرورياته، وحاجياته، ورفاهه، واستهلاكه، على رغم أن العولمة زعزعت سكينة الإنسان وَدَعَة البشرية، واطمئنانها الروحي، وثقتها في غدها.

وفي مُكْنَتِنا فعلُ ذلك، وإتيانُه إذ ما جَدَّ العزم، وتغيرت الأوضاع، وارتقى سدة الحكم والسلطة، والقرار، العارفون الواعون، الباكون على ما نحن فيه، والمتحسسون اللاَّمِسون لفداحة الجرح، وضجر التفرج والانتظار. المدركون أي الطرق وجب سلكها سريعا. وليست تلك الطرق – فيما نرى- غير طرق المعرفة والعلم، والدين الروحي الخلقي الفضائلي، لا طرق التنابر والتغامز، والانتفاخ الطاووسي الفارغ، والادعاء البِرْميلي الخاوي الطنان بعلم معدوم، وبتراث مركوم مرفوف، وبتاريخ مضى وانقضى، وبخلافة إسلامية مكذوبة، ومفترى عليها بما لا يقاس. فضلا عما للمثقف من دور أساس، وفاعل، ومطلوب في هذه الفترة التاريخية المأزومة الخطيرة التي نمر بها كعرب مسلمين. دور يكمن – كما لا يخفى- في التصدي الحازم للخزعبلات، والترهات، والأفكار الجوفاء، والمحطات التلفزيونية التي تقدم لعموم المشاهدين، التخلف في أجلى صوره، والفكر القُبوري في أنصع معانيه، والتحليل "الخرائي" (حاشاكم)، في أبشع لونه، وجيف رائحته.

فالوهابية الدينية تنتعش، على رغم ما يبدو من انتكاسات، وتدهورات طالتها، وتطولها في عقر دارها بـ (السعودية)، وفي بعض الدول العربية التي فرَّخَتْ فيها، وَأَصْلَتْ ساكنتَها الويلَ والثبورَ، وحاق بهم الخراب بفعل وجودها، وخطورة أفكارها، ومواعظها ودعاواها، ونشاطها الميداني الشيطاني المحموم، وفكرها الجهنمي الظلامي.

يجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها، لا أن نتفنن في تزيين الشائه البشع، وإسباغ الروح على الميت، ورش الماء على الجثة.

أن نشير بأصابعنا وأقلامنا، وأفواهنا إلى موضع الداء، ونقترح البديل والدواء. أن نُشَهِّر بالظلام الوهابي الخرافي الذي يعيش ويعشش كالمرض الوبيل، في عقول وصدور الأغلبية من الناس، هنا، وهناك، وهنالك، مستغلا فقرهم المادي والمعنوي، فقرهم الفكري، وجهلهم بأصول الدين، ويسره، وسماحته، وتمجيده للعلم والعمل والحياة.

كما يسكن هذا الظلام الحالك، على رغم معرفتهم به، عقولَ الإخوان المسلمين، وإنْ ادَّعوا أنهم يَدْعون إلى السلفية المتنورة، والدين القويم، إلى الاقتداء بالسلف الصالح. وكذا داخل بعض التنظيمات السياسية الدينية المحسوبة على الإخوان، تحت تسميات وأغلفة وأقنعة براقة ومتعددة. ولكنها لا تختلف –في آخر المطاف- عن دعم الفكر الغيبي، والظلامي لتأبيد بَطْرِهِم ورَفاهِهم، وتأبيد الاستبداد، وتعهير العلم والمعرفة، وتفسيق المتنورين –كما أسلفت- والعلمانيين، وذوي الرأي والموقف الحاسم، والفلسفة المخلخلة للثوابت، والبنى الماضوية.

لا مناص من محاربة هؤلاء بالفكر، والعلم، والمناظرة المعرفية، على رغم انسداد بعض الأبواب في وجه التنوير، كالإعلام المرئي والمسموع في جل البلدان العربية والإسلامية التي استحوذت عليها، غيبيات القرون الوسطى عبر إفساح المجال للقبوريين، أصحاب منكر ونكير، وعذاب القبور. وكمناوءة أصحاب القرار السياسي الذين يعاكسون الرأي الصريح، الرأي الذي يصدع بالحق المبين، ويرينا أسباب تخلفنا الفعلية، وكيفيات النهوض من كبوتنا التي طالت، وبَياتِنا الذي يتجدد ويتمدد.

لا مناص من محاربة ذلك، بالفكر الوثاب، والنقد الخلاق، والمجادلة العلمية، والأخذ بالحسنى حتى يعلو الفكر إياه، وتنطلق المبادرة النهضوية الجديدة، وتسمو. وتَتَوارى –من ثمة- رويدا، رويدا، عوائق التخلف، وفرامل التقدم، وكوابح الانطلاق الذي بدأ قبل قرن ونيف، ثم ارتد إلى الوراء.

Boudouik.m@hotmail.fr

www.facebook.com/boudouik.mohamed