حفيظة الفارسي: في ذكرى الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد: جمهورية الحرية والالتزام

إلى روح الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد

 

يْعيّْشك يِعيّْشك... في قلوب من أحبوك

ينام الشاعر نومته الأخيرة، ويبقى قلبه معلقا بقصيدة لم تكتمل

بامرأة ظلت تتمنع عن قبلة

ولو أنه أحبها كما لم يحبها أحد

«أحبها صباحا، مساء ويوم الأحد»

مضى الصغير كبيرا بحب البلاد، بعد أن رتب أوراقه على منضدة التاريخ من بورقيبة .....الى بنعلي

لم يرفع قبعة ولا يدا للتصفيق

فاليد كانت مشغولة بتطريز قصيدة لم تَحْنِ ظهرها، بل ظلت منتصبة القامة في كبرياء عذراء، يخطب ودها الحاكم فتهرب مع صعلوك مدمن لجراح الحواري والأزقة الضيقة، وروائح الأقبية السوداء.

شاعر قاد ثورة ضد المدح التكسبي، فصودر ماء حروفه واقتيد الى حيث لمبة المخبر التي تتكفل بالزائد عن الحاجة ، حاجتهم طبعا، هو الذي عانى من ضيق أفق السياسة والساسة حين يصطدمون بعريهم .. هو القائل:

« لا يقرأ ُ البوليسُ نَصّي في الجريدةِ ناقصًا. بلْ يقرأ ُ المخطوطَ حِذْوَ مديرِها. في اللّيل. قبل توجّعي وصدورها. وإذنْ : سأكتبُ بالبريدْ لمن أريدُ.. وما أُريدْ»

أحب الصغير أولاد أحمد الحياة، ومشى فيها بلا حراسة، غير عسس الرقابة والظلام

كانت قصائده حارسه الشخصي من شرَك السلطة وإغراءاتها، لا تنام إلا وهي مطمئنة الى أنه عاد في آخر الليل وارتمى في حضن الشعب، ولم يتخل عن قيادته الشعرية

هكذا كان يقدم نفسه للعالم، أعزلَ إلا من الانتماء لصخرة الوطن وشجرة الكلام

«هذا أنا رجلٌ بلا جيش ولا حرب ولا شهداء مُنسجمٌ مع اللاّهوت والناسوت والحانوت لا أعداء لي... وأشكّ أن قصيدتي مسموعةٌ وحكايتي تعني أحد».

ربما لم تَعْنِ أحدا، لكنه كان معنيا بالجميع ، في صمتهم وفي صراخهم.. في فرحهم وفي خيباتهم وبدورة ربيع لم تكتمل حين ارتد الخريف.

مضى تبكيه العصافير التي ظلت بلا سماء تأويها،

وأسماك النهر التي ستعتزل رقصات الفلامنكو حدادا عليه،

والياسمين الذي أزهر على يديه، في تربة قصيدة شاخت قسمات السجان ويداه، وهو يجلِدها، ومازال نهدها مغريا وشعرها العسلي مليئا بأحلام الطفولة، خصلة ، خصلة.

ستنتحب الفراشات وهي تزفه الى مثواه الاخير هي التي رقصت بين أصابعه واحترقت فاختلط رمادها برماد البوعزيزي، وكانت سمادا يخصب الحلم

« وأنت تنظر في الرماد

رأيتني سوداء مثل حذائك البراق

لا أقوى على التحديق فيك .

أنا تونس يا أخي.. محروقة لا شعر لي، لا عين لي،

لا أذن لي ، لا فم لي

وكما ترى.. قد لا أعود الى الحياة وقد أعود

كصياح ديك، صريحة

لا تعطني قلما ، فإن أصابعي طارت مع النار الرهيبة

في السماء

أشتم رائحة الشواء» ( من قصيدة الفراشة)

 

هاجم ذات اليمين وذات اليسار وما بينهما من متشابهات.. وفي الحد بين الكتابة والإيديولوجيا، قاوم وأقام وبنى جمهورية، رايتها الحرية وحدودها الالتزام.

وحين ارتدوا معاطف من فرو وقالوا إن ليل الشتاء بارد ،

قال إن صدر الوطن عار، لكنه دافئ.. ومن يومها دفن رأسه وقلبه فيه قبل أن يدفن باقي الجسد في ترابه

وبحكمة الشعراء كان ينتظر الموت من قمة الجبل، بكل المحبة الواجبة.. وهو يصعد إليه.. كان فصل الوداع ينضج رويدا رويدا بينما هو يرتب مشاهده بأناقة شاعر يستقبل الموت بما يليق به ..لا يهرب منه إلا إليه.

وبين الشهقتين، 4 أبريل 1955 و5 أبريل 2016، كانت الحياة ماكرة وهي تهديه سنة أخرى وتكتب بطاقة معايدة ..تخرجها بتؤدة، لكن من تابوت الموتى هذه المرة.

4/8/2016