حسن طارق: المغرب .. اليسار وقلق التعريف

يمكن الوقوف في مشروع الأطروحة السياسية المقدمة إلى المؤتمر الوطني العاشر لحزب التقدم والاشتراكية المغربي (مايو/أيار 2018) على ما يمكن اعتباره تمثلا لثلاث بؤر مركزية للتناقضات التي تخترق بنية المجتمع والدولة في الشرط المغرب.

ثمّة في الأطروحة ما يمكن اعتباره تحديدا للتناقض السياسي ولامتداداته الطبقية، حيث تعتبر الوثيقة أن “التناقض الرئيسي يجعل الغالبية العظمى من الشعب المغربي (بورجوازية وطنية، فئات بورجوانية صغيرة ومتوسطة، عمال، فلاحون فقراء، مهمشون) تتعارض مع “الأوليغارشية وحلفائها”، وهو ما يجعل المصلحة الوطنية تقتضي تغيير الاتجاه عبر التحكم السيادي في القرار، والقيام بإصلاحاتٍ عميقةٍ في الهياكل، إصلاحاتٍ يكون من شأنها تعبئة الموارد الوطنية، وتوظيفها من أجل تنمية مستدامة، ترتكز على إمكانات بلدنا، وعلى وضع البحث العلمي والتكنولوجي من الأسبقيات، مع استبطانٍ ذكي لما جاءت به البشرية من نتائج في العلوم والتكنولوجيا والتصنيع والوسائل المعلوماتية الحديثة…، كما يستلزم المشاركة الديمقراطية الفعالة الواعية المنظمة للفئات العريضة من جماهير شعبنا عبر تعبئتها الدائمة وليست الظرفية.

بعد هذا التوصيف، يمكن مصادفة تركيزا على تناقض آخر ذي طبيعة اقتصادية واجتماعية، “تحديات تطرحها العودة القوية إلى مسألة القيم وما تنتجه من شروخ هوياتية” حيث تعتبر الوثيقة (ص 30) “أن التراكم الرأسمالي الذي تحقق، والرفع من القيمة المضافة وخلق الثروات لم تستفد منه كل مكونات الشعب المغربي.

إذ أن قراءة الإحصاءات الوطنية والدولية توضح أن فئاتٍ محدودةً من المحظوظين والريعيين هي التي استحوذت على أغلبية الخيرات، مما زاد في تعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية، واستفحال مظاهر التخلف والإقصاء الاجتماعي والزيادة في حدّة الحرمان والبؤس”.

يتعلق التناقض الثالث الذي تقف عليه الوثيقة بسجل الثقافة والقيم، حيث يتم الانطلاق من اعتبار “القضايا الثقافية محل نقاش وصراع حول القيم والحداثة لتوسيع ممارسة الحريات، وعلى رأسها حرية المعتقد وحرية التعبير والإشكالات المرتبطة بالمساواة بين الجنسين وبالتعدد اللغوي”. ومن كون “الهوية الوطنية كبناء اجتماعي/ تاريخي، الإطار الذي تتبلور فيه الصراعات الإيديولوجية لتحديد دائرة وحدود بنياتها ومحتوياتها وطرق انصهار الهويات المحلية والجهوية داخلها”، لتصل الوثيقة إلى خلاصة أن جل الصراعات المجتمعية الدائرة، في الظرفية الأخيرة، (تدور) حول مسائل مجتمعية في جوهرها بعد ثقافي (الإجهاض والصوم وتعدّد الزوجات والمثلية الجنسية وحرية التعبير..)، وهي صراعات تدور بين قوى التقدّم التي تسعى إلى تعزيز دينامية ثقافة الحقوق والحريات والقوى المحافظة المتشبثة عن قناعةِ أو لحساباتٍ سياسيةٍ بقراءةٍ متحجرةٍ وعميقةٍ لتراثنا الثقافي وللدين الإسلامي” (ص 30.

يمثل لنا هذا الجرد السريع لدوائر الصراع والتناقض داخل أطروحة حزبٍ يتمسّك بمرجعيته اليسارية، حالة مدرسية للتحولات التي يعرفها اليسار على صعيد تعريف وإعادة تعريف مشروعه الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وقد ظل اليسار قابلا للتعريف انطلاقا من ثلاث دوائر أساسية:

ـ الدائرة السياسية، المتعلقة بالدفاع عن المواطنة والمساواة السياسية والمشاركة الشعبية، وتحصين القرار السياسي أمام سطوة المال وهيمنة وسائل الإعلام وتأثير التكنوقراط ومخاطر الشعبوية، والمساءلة الدائمة لقدرات النموذج الديمقراطي على ضمان مسالك المشاركة والتفاعل مع الإرادة الشعبية ومطالب المجتمع، والاستماتة في الدفاع عن حقوق الإنسان ومواجهة خطابات العنصرية والكراهية.

ـ الدائرة الاقتصادية والاجتماعية، المتعلقة بمرجعية العدالة الاجتماعية، والمنطلقة من المثال الاشتراكي بتنويعاته المتفاوتة، لكن المعتمدة على تصوّر حدٍّ أدنى لدور الدولة المركزي في ضمان برامج المساواة والعدالة وسياساتهما.

ـ  الدائرة المجتمعية، المتعلقة بالانتصار لخيار التقدم، ولفكرة المساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الجنسية والدينية والإثنية والاجتماعية، ولثقافة الحرية الفردية، ضمن رؤية تقدمية لتطور المجتمع.

على ضوء هذه الدوائر المرجعية الثلاث، يمكن، من الناحية المبدئية، التفكير في تعريف اليسار، انطلاقا من تحديده وتموقعه تجاه بؤر الصراع الثلاث (التناقض السياسي، التناقض الاقتصادي والاجتماعي، التناقض المجتمعي والقيمي)، وهو ما يحيل إلى تمثّل التيارات اليسارية لنفسها ومشروعها كقوى ديمقراطية (على المستوى السياسي) اشتراكية (على المستويين الاقتصادي والاجتماعي) وتقدمية (على المستوى المجتمعي

. لكن سهولة هذا الترتيب المبدئي للمرجعيات المحددة للمشروع اليساري تخفي صعوبة حادة في التدبير السياسي اليومي لمسألة الأولويات والأفضليات، ذلك أن التقديرات السياسية المنطلق من كل واحدةٍ من هذه الدوائر قد لا تؤدي، في النهاية، إلى بناء الموقف نفسه من المرحلة “الشروط الموضوعية، نفسها، ومستويات تطور المجتمع وتقدم الدولة، تساهم هي الأخرى في هذه الدينامية المعقدة لتعريف اليسار وإعادة تعريفه” السياسية، بل قد تتناقض التحاليل في تحديدها طبيعة المرحلة، وطبيعة حلقتها المركزية وقضاياها الأساسية، بل وطبيعة الخصوم، عندما ننتقل من سجلٍّ إلى سجلٍّ آخر من هذه المرجعيات الثلاث، وهو ما يفرض، في النهاية، تدبيرا تفاضليا بين منطلقاتها، يسمح بفرز الأولويات إلى مستوى تعريف المشروع.

والواقع أن الشروط الموضوعية، نفسها، ومستويات تطور المجتمع وتقدم الدولة، تساهم هي الأخرى في هذه الدينامية المعقدة لتعريف اليسار وإعادة تعريفه. ويعقّد هذا كله من طبيعة الأسئلة المطروحة بشأن مستقبل اليسار، من زاوية التحديات التي تطرحها العودة القوية إلى مسألة القيم وما تنتجه من شروخ هوياتية داخل المجتمعات، ما يسهم بالضرورة في إعادة ترتيب تناقضاتها، بشكلٍ يجعل التأويل الذي يقدمه اليسار لطبيعة التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، يتوارى إلى الخلف أمام زحف التقاطبات القيمية والثقافية التي تصبح مع الخطاب السياسي المهيمن أكثر قدرةً على هيكلة الساحة العمومية.

وهنا لا يفعل الرهان على مركزية “يسار القيم” أمام تواري اليسار الاجتماعي، وتردد اليسار الديمقراطي، سوى على تأجيج اصطفافات هوياتية، تستعصي على المقاربة السياسية السريعة لانتمائها الطبيعي إلى زمن مجتمعي أكثر عمقا وامتدادا، وهو ما يعني، في النهاية، المساهمة الإرادية في تفجير مقولة اليسار نفسها بوصفه مشروعا ينهض على اختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لصالح رؤيةٍ أخرى للتناقضات، تنطلق من بعد قيمي مهيمن، تحت شعار غامض هو “الحداثة”.

يمكن الوقوف في مشروع الأطروحة السياسية المقدمة إلى المؤتمر الوطني العاشر لحزب التقدم والاشتراكية المغربي (مايو/أيار 2018) على ما يمكن اعتباره تمثلا لثلاث بؤر مركزية للتناقضات التي تخترق بنية المجتمع والدولة في الشرط المغربي. ثمّة في الأطروحة ما يمكن اعتباره تحديدا للتناقض السياسي ولامتداداته الطبقية، حيث تعتبر الوثيقة أن “التناقض الرئيسي يجعل الغالبية العظمى من الشعب المغربي (بورجوازية وطنية، فئات بورجوانية صغيرة ومتوسطة، عمال، فلاحون فقراء، مهمشون) تتعارض مع “الأوليغارشية وحلفائها”، وهو ما يجعل المصلحة الوطنية تقتضي تغيير الاتجاه عبر التحكم السيادي في القرار، والقيام بإصلاحاتٍ عميقةٍ في الهياكل، إصلاحاتٍ يكون من شأنها تعبئة الموارد الوطنية، وتوظيفها من أجل تنمية مستدامة، ترتكز على إمكانات بلدنا، وعلى وضع البحث العلمي والتكنولوجي من الأسبقيات، مع استبطانٍ ذكي لما جاءت به البشرية من نتائج في العلوم والتكنولوجيا والتصنيع والوسائل المعلوماتية الحديثة…، كما يستلزم المشاركة الديمقراطية الفعالة الواعية المنظمة للفئات العريضة من جماهير شعبنا عبر تعبئتها الدائمة وليست الظرفية”. بعد هذا التوصيف، يمكن مصادفة تركيزا على تناقض آخر ذي طبيعة اقتصادية واجتماعية، “تحديات تطرحها العودة القوية إلى مسألة القيم وما تنتجه من شروخ هوياتية” حيث تعتبر الوثيقة (ص 30) “أن التراكم الرأسمالي الذي تحقق، والرفع من القيمة المضافة وخلق الثروات لم تستفد منه كل مكونات الشعب المغربي. إذ أن قراءة الإحصاءات الوطنية والدولية توضح أن فئاتٍ محدودةً من المحظوظين والريعيين هي التي استحوذت على أغلبية الخيرات، مما زاد في تعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية، واستفحال مظاهر التخلف والإقصاء الاجتماعي والزيادة في حدّة الحرمان والبؤس”. يتعلق التناقض الثالث الذي تقف عليه الوثيقة بسجل الثقافة والقيم، حيث يتم الانطلاق من اعتبار “القضايا الثقافية محل نقاش وصراع حول القيم والحداثة لتوسيع ممارسة الحريات، وعلى رأسها حرية المعتقد وحرية التعبير والإشكالات المرتبطة بالمساواة بين الجنسين وبالتعدد اللغوي”. ومن كون “الهوية الوطنية كبناء اجتماعي/ تاريخي، الإطار الذي تتبلور فيه الصراعات الإيديولوجية لتحديد دائرة وحدود بنياتها ومحتوياتها وطرق انصهار الهويات المحلية والجهوية داخلها”، لتصل الوثيقة إلى خلاصة أن جل الصراعات المجتمعية الدائرة، في الظرفية الأخيرة، (تدور) حول مسائل مجتمعية في جوهرها بعد ثقافي (الإجهاض والصوم وتعدّد الزوجات والمثلية الجنسية وحرية التعبير..)، وهي صراعات تدور بين قوى التقدّم التي تسعى إلى تعزيز دينامية ثقافة الحقوق والحريات والقوى المحافظة المتشبثة عن قناعةِ أو لحساباتٍ سياسيةٍ بقراءةٍ متحجرةٍ وعميقةٍ لتراثنا الثقافي وللدين الإسلامي” (ص 30). يمثل لنا هذا الجرد السريع لدوائر الصراع والتناقض داخل أطروحة حزبٍ يتمسّك بمرجعيته اليسارية، حالة مدرسية للتحولات التي يعرفها اليسار على صعيد تعريف وإعادة تعريف مشروعه الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد ظل اليسار قابلا للتعريف انطلاقا من ثلاث دوائر أساسية: – الدائرة السياسية، المتعلقة بالدفاع عن المواطنة والمساواة السياسية والمشاركة الشعبية، وتحصين القرار السياسي أمام سطوة المال وهيمنة وسائل الإعلام وتأثير التكنوقراط ومخاطر الشعبوية، والمساءلة الدائمة لقدرات النموذج الديمقراطي على ضمان مسالك المشاركة والتفاعل مع الإرادة الشعبية ومطالب المجتمع، والاستماتة في الدفاع عن حقوق الإنسان ومواجهة خطابات العنصرية والكراهية. – الدائرة الاقتصادية والاجتماعية، المتعلقة بمرجعية العدالة الاجتماعية، والمنطلقة من المثال الاشتراكي بتنويعاته المتفاوتة، لكن المعتمدة على تصوّر حدٍّ أدنى لدور الدولة المركزي في ضمان برامج المساواة والعدالة وسياساتهما. – الدائرة المجتمعية، المتعلقة بالانتصار لخيار التقدم، ولفكرة المساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الجنسية والدينية والإثنية والاجتماعية، ولثقافة الحرية الفردية، ضمن رؤية تقدمية لتطور المجتمع. على ضوء هذه الدوائر المرجعية الثلاث، يمكن، من الناحية المبدئية، التفكير في تعريف اليسار، انطلاقا من تحديده وتموقعه تجاه بؤر الصراع الثلاث (التناقض السياسي، التناقض الاقتصادي والاجتماعي، التناقض المجتمعي والقيمي)، وهو ما يحيل إلى تمثّل التيارات اليسارية لنفسها ومشروعها كقوى ديمقراطية (على المستوى السياسي) اشتراكية (على المستويين الاقتصادي والاجتماعي) وتقدمية (على المستوى المجتمعي). لكن سهولة هذا الترتيب المبدئي للمرجعيات المحددة للمشروع اليساري تخفي صعوبة حادة في التدبير السياسي اليومي لمسألة الأولويات والأفضليات، ذلك أن التقديرات السياسية المنطلق من كل واحدةٍ من هذه الدوائر قد لا تؤدي، في النهاية، إلى بناء الموقف نفسه من المرحلة “الشروط الموضوعية، نفسها، ومستويات تطور المجتمع وتقدم الدولة، تساهم هي الأخرى في هذه الدينامية المعقدة لتعريف اليسار وإعادة تعريفه” السياسية، بل قد تتناقض التحاليل في تحديدها طبيعة المرحلة، وطبيعة حلقتها المركزية وقضاياها الأساسية، بل وطبيعة الخصوم، عندما ننتقل من سجلٍّ إلى سجلٍّ آخر من هذه المرجعيات الثلاث، وهو ما يفرض، في النهاية، تدبيرا تفاضليا بين منطلقاتها، يسمح بفرز الأولويات إلى مستوى تعريف المشروع. والواقع أن الشروط الموضوعية، نفسها، ومستويات تطور المجتمع وتقدم الدولة، تساهم هي الأخرى في هذه الدينامية المعقدة لتعريف اليسار وإعادة تعريفه. ويعقّد هذا كله من طبيعة الأسئلة المطروحة بشأن مستقبل اليسار، من زاوية التحديات التي تطرحها العودة القوية إلى مسألة القيم وما تنتجه من شروخ هوياتية داخل المجتمعات، ما يسهم بالضرورة في إعادة ترتيب تناقضاتها، بشكلٍ يجعل التأويل الذي يقدمه اليسار لطبيعة التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، يتوارى إلى الخلف أمام زحف التقاطبات القيمية والثقافية التي تصبح مع الخطاب السياسي المهيمن أكثر قدرةً على هيكلة الساحة العمومية. وهنا لا يفعل الرهان على مركزية “يسار القيم” أمام تواري اليسار الاجتماعي، وتردد اليسار الديمقراطي، سوى على تأجيج اصطفافات هوياتية، تستعصي على المقاربة السياسية السريعة لانتمائها الطبيعي إلى زمن مجتمعي أكثر عمقا وامتدادا، وهو ما يعني، في النهاية، المساهمة الإرادية في تفجير مقولة اليسار نفسها بوصفه مشروعا ينهض على اختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لصالح رؤيةٍ أخرى للتناقضات، تنطلق من بعد قيمي مهيمن، تحت شعار غامض هو “الحداثة”.

إقرأ المزيد على العمق المغربي : https://al3omk.com/298961.html