تحليل

نهاية الأحزاب التقليدية في أوروبا

عبد الحميد البجوقي

بعد 78 يوما من المفاوضات الشاقة، توصلت كل من حركة 5 نجوم الإيطالية المحسوبة على اليسار وحزب عصبة الشمال اليميني العنصري إلى اتفاق تشكيل الحكومة في إيطاليا.

ينص الاتفاق، الذي أثار جدلا واسعا سواء في إيطاليا أو باقي دول الاتحاد الأوروبي، على قرارات مثيرة للجدل؛ من قبيل: الخروج من نظام العملة الموحدة، وإلغاء الديون الإيطالية، وطرد 500.000 مهاجر في وضعية غير قانونية، ورفع الدعم عن المنظمات غير الحكومية التي تعمل مع المهاجرين واللاجئين ونعتها بحوانيت الاتجار في الهجرة، وتخفيض الضريبة على الدخل إلى 20% بالنسبة إلى الشركات و15% بالنسبة إلى الأشخاص، وتعميم التعويض عن البطالة وحضانة الأطفال فقط لحاملي الجنسية الإيطالية.. إنها قرارات أثارت ردودا قوية من لدن المفوضية الأوروبية التي حذرت الحكومة الإيطالية الجديدة من أي إجراءات أحادية تتعارض مع سياسات الاتحاد الأوروبي، وتُخِل بالتزامات الدول الأعضاء.

الاتفاق، الذي هو في مقام البرنامج الحكومي لهذا التحالف العجيب، يثير أسئلة عديدة، أهمها: مدى إمكانية تطبيقه على أرض الواقع، حيث الأرقام والحسابات لا تستقيم في ميزان الدخل والصرف، ويُشكِّك أغلب الخبراء الاقتصاديين في إمكانية توفير ما يكفي من المداخيل لتغطية المصاريف المبرمجة بعد التخفيض الراديكالي في الضرائب؟ والسؤال الأساسي يتعلق بالتحالف في حد ذاته، تحالف هو الأول من نوعه بين يسار شعبوي ويمين عنصري متطرف في أوروبا، يهدف إلى تفكيك المشروع الليبرالي الأوروبي، وهو يلتقي في ذلك بنموذج الجبهة الوطنية في فرنسا ونظرائها في هولندا وألمانيا وكذلك في أغلب دول شرق أوروبا، وهذا ما يُفسر استعجال حزب الجبهة الوطنية بفرنسا بتهنئة التحالف واعتباره انتصارا للتغيير الذي ما فتئت الجبهة تناضل من أجله على حد زعمها.

بالرغم من القرار المفاجئ لرئيس الدولة برفض تعيين مرشح التحالف لرئاسة الحكومة ولائحة المرشحين للوزارة من أسماء معروفة بمواقفها المعادية للاتحاد الأوروبي، فإن نتائج الانتخابات الإيطالية تبقى مؤشرا إضافيا عن تحولات عميقة تعيشها المجتمعات الأوروبية تُنذر بنهاية الأحزاب التقليدية التي هيمنت على المشهد السياسي الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

إصرار المشروع الليبرالي الأوروبي الذي يتزعمه الثنائي ميركيل وماكرون على سياسات تُدعِّم تنافسية الاقتصاد الأوروبي على حساب الحقوق الاجتماعية أدت إلى بروز حركات سياسية صاعدة انطلقت من الشارع ومن احتجاجات الشباب، وهي في أغلبها حركات شعبوية قريبة من اليسار؛ لكنها اختارت خطابا مختلفا عن خطاب اليسار التقليدي، والتركيز ـ بدل صراع الطبقات ومعادلة اليمين واليسار ـ على معادلة الصراع بين المستفيدين والمستضعفين ومحاربة الامتيازات والفساد وغيرها من مظاهر تفكك الأحزاب التقليدية وتراجعها.

هذا الخطاب، الذي ميّز هذه الحركات الصاعدة، برز بقوة في اليونان مع حزب سيريزا، وبعدها في إسبانيا بالرغم من حفاظ بوديموس على هامش كبير من خطاب ومرجعية اليسار، وكذلك في فرنسا، وبرز بشكل واضح في إيطاليا مع حركة 5 نجوم التي عبّر زعيمها بصريح العبارة عن أن الحركة التي يتزعمها لا يمكن تصنيفها من اليسار ولا من اليمين، وأنها من الشعب وإلى الشعب، ضد المستفيدين والفاسدين، ومن أهدافها استبدال النظام الحالي بقيادة الجبهة الليبيرالية بنظام جديد يدعو إلى التوزيع العادل للثروات ويلغي امتيازات السياسيين وحصانتهم.

الانتخابات الأوروبية على الأبواب (2019)، ونتائج الانتخابات الإيطالية وقبلها في إسبانيا وغيرها من دول الاتحاد تدعم فرضية انهيار الأحزاب التقليدية سواء من اليمين أو من اليسار، وتُنبئ بتقدم هائل للحركات السياسية الشعبوية، احتمالات تعتبرها مصادر من المفوضية الأوروبية تهديدا للمشروع الأوروبي الجريح بعد انسحاب بريطانيا وتعثر العلاقة مع بعض الشركاء من دول أوروبا الشرقية وتعقيدات العلاقة مع الحليف الاستراتيجي لأوروبا بعد صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.

في استطلاع رأي صدرت نتائجه يوم الأربعاء 24 ماي ببروكسيل عن انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة، عبّر 56% من الأوروبيين عن الثقة في الحركات السياسية الجديدة مقابل الأحزاب التقليدية ويعتبرونها قادرة على إيجاد حلول للمشاكل التي تتخبط فيها هذه الدول، وفقط 38% يعتبرون صعود هذه الحركات تهديدا للديمقراطية والاستقرار، وفي إسبانيا ترتفع النسبة إلى 69%، وفقط 29% يعتبرون صعودها خطرا على الديمقراطية.

المؤشرات السابقة والاحتمالات المقبلة تؤكد انهيار النموذج الحزبي التقليدي في أوروبا؛ لكنها لا تعني بالضرورة نهاية النظام الاقتصادي الذي تقوم عليه هذه الدول. كما أن تجارب الدول التي عرفت صعودا لهذه الحركات السياسية الجديدة لم تنتهِ إلى المواجهة وتنفيد وعودها المستحيلة، بقدر ما انتهت باندماج هذه الأخيرة في دينامية خدمة نفس الأجندات بوجوه جديدة وخطاب أقرب إلى الشارع، نموذج حركة سيريزا في اليونان، وقريبا حركة 5 نجوم بإيطاليا، والاعتدال المتصاعد في خطاب ومقترحات بوديموس في إسبانيا.

أوروبا، في تقديري، تعيش نهاية صلاحية أدوات الفعل السياسي التقليدية من أحزاب ونقابات وغيرها؛ وذلك لا يعني، حتى الآن، نهاية النظام.