رأي

المصطفى كنيت: محنة الصحافة

مع كامل الأسف، فشل ممتهنو الصحافة في تحقيق طموح التنظيم الذاتي للمهنة من خلال محطة المجلس الوطني للصحافة.

كان طموحا، لكنه أُقبر لأسباب ذاتية وموضوعية، جعلت اللحظة التاريخية تضيع بين براثن المصالح الضيقة، التي تجعل من الطموح الشخصي أسمى ما في الوجود، ولو اقتضى ذلك الدوس، بكل قساواة، على جسم صحفي تعوزه المناعة الضرورية لمواجهة  "أخطار" مهنة تأكل أبناءها، قبل أن يشرعوا ـ اليوم ـ في أكل أنفسهم  كما فعل بطل رواية  "اللجنة" لصنع الله إبراهيم.

هكذا أُجهض طموح التنظيم الذاتي لمهنة تفتقر إلى شروط الرشد القانوني، في نظر المشرّع، الذي لم يمنح، منذ البداية، حق حرية التصرف للصحافيين في مهنتهم، حيث نص القانون المنظم للمجلس على ضرورة تعيين 5 أعضاء من هيئات أخرى إمعانا في ممارسة الحجر عليهم، علما أن باقي المهن، لا تخضع لهذا الشرط، بل تفرز " حكماءها" من بين الصفوف، و لا يسقطون بمظلات التعيين...

 فماذا يمكن أن يضيف شاعر أو كاتب أو محامي أو مهندس (...) من قيمة للمجلس؟

إنه الإصرار على ممارسة الوصاية على سلطة رابعة، حتى حين تحاول أن تنظم نفسها بنفسها أو تدعي الحكومة منحها هذا الحق...

وبما أن الفرضيات كانت خاطئة، لم تحترم أبسط أسس الديمقراطية، فقد كان طبيعيا أن تكون النتائج كارثية، لأن من يزرع الريح يحصد العاصفة.

و تحت ضغط هذا الفشل، انفجر المسكوت عنه، و تبدّى أن الأمور كانت محبوكة، من قبل، على نحو يبدو أقرب إلى "المؤامرة"، غير أن "المؤامرة" في الحقيقة، هي غياب النضج في قطاع يشكو أهله من الهشاشة، بسبب النقص الفضيع في التكوين والتأطير، وتخلي كل الأطراف المعنية عن الاهتمام بهذا الجانب.

محطة انتخاب المجلس، إن كان لها من حسنة، فهي أنها جعلت الجسم الصحافي ينتبه إلى نفسه، وأظهرت الحاجة الملحة لتواصل الأجيال، الذي يبدو أنه الحلقة المفقودة، في سياق التحولات المتسارعة التي يشهدها القطاع، فلا القدماء يريدون الاعتراف بأقلام صاعدة، تحتاج إلى صقل مواهبها، و لا الجدد يرغبون في الاستفادة من خبرة صحافيين راكموا مسارا مهنيا لن يتكرر.

ثمة جفاء، لا شك في ذلك، هو ما غذى المواقف الجاهزة، لا الاحتكاك المباشر، وهو ما خلق فجوة عميقة، وهي الفجوة بالضبط التي ظل يستغلها ببشاعة أولئك الذين لا تهمهم المهنة و أهل المهنة، بل المصالح الشخصية إلى درجة أنه لم يعد الصحفي النموذج هو من يحقق سبقا صحفيا أو يخاطر بالكشف عن حقائق خطيرة في روبورتاج أو تحقيق أو ينتزع من مسؤول كبير حوارا يقدم فيه معلومات نادرة  أو رؤية استباقية ترسم معالم بلد بكامله، أو يخط بقلمه برتريه يتتبع فيه مسار شخصية، لم يعد الصحفي ـ أكرر للأسف الشديد مرة ثانية ـ هو هذا النموذج، بل أصبح الصحفي ( من دون تعميم طبعا) مجرد موظف بسيط في مقاولة إعلامية، يقوم بواجب يومي في تغطية ندوة صحفية أو إعادة تحرير قصاصة إخبارية أو شكاية مواطن أو يقتنص تدوينة لنجم نشرها توا على صفحته في الفايسبوك ليعيد نشرها بعد أن يضيف لها بعض المساحيق.

ففي ظل وضع يتسم باختراق الجسم الصحفي من طرف "الجهلة" بقواعد المهنة كتابة و أخلاقا، و بمصوري  الحفلات والأعراس، و النكافات والحلاقات  تراجع أغلب الصحافيين إلى الوراء مكتفين بلعن الظلام...

لا أحد يريد أن يشعل شمعة، و إذا ما تجرأ أحد على فعل ذلك، فسيتعرض للعنة أشد من طرف "جوقة" تلخص كل طموح الصحافيين في "التخييم" و "الاصيطاف" وانتظار دعم اجتماعي،  أصبح الحصول عليه هو أكبر طموح لبعض ممارسي هذه المهنة أو المستلطين عليها ظلما وعدوانا.

و إذا كانت من حسنة لمحطة انتخاب المجلس الوطني، فهي أنها كانت بمثابة "عودة الروح"، بالشكل الذي عادت به، و مهما رافق هذه العودة من صراخ وألم، فإن ذلك لا ينبغي أن ننظر إليه من باب الوقاحة أو تصفية الحسابات، بل من زاوية "التطهير" بالمفهوم الأرسطي للكلمة، و هو ما سيؤسس للحظة انجلاء الوهم، وسقوط الأصنام، وإحراق الأزلام، و رمي الأنصاب، تماما كما يفعل البحر عندما يهيج، إذ يتخلص من كل الفضلات.