تحليل

تعيين وزير الاقتصاد والمالية الجديد والبحث عن تنزيل التدبير العمومي الجديد

المنتصر السويني

القيام بقراءة في تعيين وزير الاقتصاد والمالية الجديد تستمد أهميتها من الدور الكبير والمهم الذي تلعبه النخب الموجودة في المناصب الحكومية أو الإدارية أو الاقتصادية للدولة، وبعبارة أدق النخب الموجودة في قلب الجهاز السياسي- الإداري للدولة المغربية، في قيادة الشأن العام.

تنبع أهمية ومركزية الدور الذي تلعبه هذه النخب من كون الخاصيات المسيطرة للنظام السياسي الإداري المغربي تتجسد من خلال المركزية القوية للسلطة في المناصب السياسية والإدارية العليا، والمشاركة الضعيفة في الانتخابات للكتلة الناخبة، وكذلك الدور الضعيف الذي تلعبه المنظمات والجمعيات الوسطية والذين لا يؤطرون إلا نسبة محدودة من الأنشطة الجماعية، واعتبارا لذلك، تجد هذه النخب المجال مفتوحا أمامها لكي تحدد بشكل أحادي أين توجد المصلحة العامة.

تعيين وزير الاقتصاد والمالية الجديد هو ليس فقط محاولة شغل منصب حكومي شاغر، بل من المفروض أن يستهدف تجاوز البطء الحكومي والوزاري، والبحث عن الطرق التي تمكن من تسريع الأداء والإنجاز بالنسبة إلى الوزراء والحكومة (من خلال دور القاطرة التي تلعبه وزارة المالية)، خصوصا بعد مرور ما يقارب السنتين على تشكيل الحكومة (مما كان يتطلب من الأغلبية الحكومية ومؤسسة رئاسة الحكومة التوفر على إستراتيجية لتغيير السرعة وتفعيل الإصلاحات، في النصف الأخير من الولاية الحكومية، خصوصا أمام تنامي الاحتجاجات وغياب النتائج)، وبالتالي يستلزم الأمر سرعة جديدة، وكذلك محاولة نهج إصلاحات جديدة عجزت الحكومة والوزير السابق لقطاع المالية عن نهجها وتفعيلها.

كل هذه الاعتبارات،تجعلنا نعتقد أن تعيين وزير الاقتصاد والمالية الجديد يحمل في طياته رسائل وإشارات، تحتاج إلى قراءة وتوضيح.

الملاحظة الأولى تتعلق بالبحث عن السلطة التي اقترحت فعليا السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد.

بالاعتماد على تدوينة السيد رئيس الحكومة، فإن السيد سعد الدين العثماني قد تلقى اقتراح الاسم من السيد عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، وبعد ذلك عمد إلى اقتراح الاسم على سلطة التعيين. ولكن الدستور(وخصوصا أحكام الفصلين 49 و92) والقانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا والمرسوم التطبيقي يؤكدان أن السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد كان يشغل قبل تعيينه منصب رئيس مدير عام للبنك الشعبي. وحسب القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، فإن البنك الشعبي ينتمي إلى المقاولات العمومية الاستراتيجية، والتي يتم التعيين فيها بظهير، وحيث إن المعني بالأمر كان مكلفا من طرف السلطة الملكية ومن خلال ظهير بمهام تدبير مقاولة عمومية إستراتيجية، فلا أحد غير السلطة التي عينته (السلطة الملكية، احتراما لمبدأ توازي الشكليات والمساطر والاختصاصات) قادرة على اقتراحه لمنصب آخر؛ وهو ما يدفعنا إلى الاستنتاج أن السلطة الملكية كانت لها اليد العليا في قبول ترك المعني بالأمر للمهمة المكلف بها (أولا)، والسماح باقتراحه في مهمة جديدة (من بعد)، (خصوصا أن المهمة الأولى أهم وأفضل فيما يتعلق بالتعويضات والمزايا وبعيدة عن الضغوطات السياسية)، وبالتالي وحدها السلطة الملكية من قبلت انطلاقا من المهام الموكلة لها بموجب الدستور والقانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، بوضع حد لظهير تعيين السيد محمد بنشعبون على رأس البنك الشعبي، وإعادة تكليفه بمهام حكومية جديدة.

2- تعيين السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد جاء بعد الفشل التدبيري للنخب السياسية التقليدية

أثبتت التجارب الحكومية، التي أعقبت تنزيل دستور 2011، أن الطبقة السياسية التقليدية اقترحت نخبا متشبعة بثقافة تدبيرية عفا عنها الزمن (ثقافة تدبيرية رسخت اللامسوؤلية-وغياب الكفاءة-وغياب العدالة-والدوران في حلقة مفرغة-والجمود)، وبالتالي مَنحت الطبقة السياسية التقليدية المناصب الحكومية والإدارية لنخب لا تتقن إلا الإنفاق والالتزام والتصفية والأمر بالأداء.

التدبير التقليدي لهذه النخب لم ينتج إلا العجز والمديونية وسوء التدبير وغياب المحاسبة، وكذلك غضب المغرب الاجتماعي وعدم رضا السلطة الرئاسية عن النتائج، واستعمالها بالتالي لسلطة الإعفاء.

واعتبارا لما سبق ذكره، فإن هذه النخب لا يمكن الرهان عليها لبناء المستقبل؛ لأن المستقبل يحتاج إلى نخب تخلق الثروة، نخب تمنح الأولوية للمداخيل وكيفية تطويرها، نخب خبيرة في إنتاج حسابات بفائض، وإن أنفقت تنفق بكلفة أقل ومردودية أعلى، نخب تقدم الحساب وتتحمل المسؤولية سلبا أو إيجابا، نخب تملك أفكار وجرأة، وقادرة على الفعل والابتكار.

مغرب اليوم صار في حاجة قصوى إلى نخب تملك المعرفة والتجربة ولها اطلاع واسع على ما يجري في العالم من تجارب ناجحة، وتملك القدرة والإرادة على القيام بزلزال تدبيري في البلد، من خلال القدرة على القيام بمراجعة عامة لكل السياسات العمومية التي نهجها البلد منذ الاستقلال، وقادرة على حذف وتقليص السياسات العمومية المرتبطة بالريع والهياكل الصورية، وقادرة على القيام بمصالحة فعلية بين المغرب الرسمي والمغرب الشعبي، من خلال تدعيم السياسات العمومية المرتبطة بالأولويات الشعبية.

تعيين السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد هو نتيجة لغياب الشخصيات التي تتقن فن الحكم لدى الطبقة السياسية.

قال نابليون الثالث: "في البلد نجد مدارس للحقوق والصحة والحرب، ولكننا للأسف لا نجد مدارس تعلم فن الحكم، والذي هو الأصعب لأنه يخترق كل العلوم"..

يثبت تعيين السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد، وهو المهندس القادم من المدارس الفرنسية، استمرار اعتماد السلطة الملكية في المناصب الإستراتيجية، سواء الحكومية أو المؤسسات الإستراتيجية، على شواهد الهندسة الفرنسية. وإذا كانت دروس التاريخ تخبرنا بأن النخب الحاصلة على الشواهد الهندسية من المدارس الأمريكية قد لعبت دورا كبيرا في إنجاح سياسة النيوديل في عهد روزفلت، واستحقت بذلك اللقب الذي أطلق عليها آنذاك وهو لقب- الهندسة المُجَسَّدة -، فإن التجربة المغربية أثبتت أن شواهد الهندسة الفرنسية لم تجسد حضورها الإيجابي على أرض الواقع من خلال منجزات ونجاحات تذكر وتسجل في محاسبة أصحابها ومحاسبة البلد (حصاد- الفاسي الفهري- بوسعيد...)، وبالتالي يمكن إلى غاية إثبات العكس، تسميتها بـ"الهندسة المحظوظة".

حظ الهندسة المغربية لم يكن أحسن من الهندسة الفرنسية، بحيث عجزت الهندسة المغربية عن تجسيد حضورها الفعلي والواقعي من خلال المنجزات (شرفات أفيلال مؤخرا)، خصوصا عندما أتيحت لها الفرصة لتحمل المسؤولية الحكومية، سواء في الحكومة الأولى أو الحكومة الثانية التي أعقبت دستور 2011. واعتبارا لذلك يمكن أن نطلق عليها تسمية "الهندسة المتعثرة" لأنها عجزت عن إحداث الفارق وعجزت عن إنتاج الفائض وعجزت عن إحداث ثورة تدبيرية.

هذا الفشل يؤكد حقيقة مرة وهي أن المغرب فشل في كل محاولاته لخلق مدارس تعنى بتعليم فن الحكم؛ فلا المدرسة الوطنية للإدارة، ولا الجامعات من خلال تخصص العلوم السياسية، ولا مدارس المهندسين في المغرب، ولا المفتشية العامة للمالية، ولا المجلس الأعلى للحسابات ولا الأحزاب السياسية، ولا الإدارة استطاعت تقديم تكوينات وتجارب تمنح أصحابها القدرة على رفع التحدي التدبيري وتقديم البديل.

تعيين السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد والتوجه نحو الشخصيات التي قد تمارس السياسة ولكن بشكل عرضي.

كان السوسيولوجي ماكس ويبير أول من حلل أسباب ونتائج ظهور الشخصيات السياسية داخل الدولة. وفي هذا السياق، لاحظ أن هذه النخب يمكن أن تمارس السياسية بشكل عرضي، كما يمكن أن تمارس السياسة بشكل ثانوي، أو تمارس السياسة بشكل أساسي.

المغرب، ومن خلال إقرار تعويضات وحتى تقاعد بالنسبة إلى الطبقة السياسية، سواء الموجودة في البرلمان أو الموجودة في المناصب الوزارية والحكومية، أراد أن يعمل على تشجيع الطبقة السياسية على ممارسة السياسة بشكل أساسي، أو ممارسة السياسة بشكل ثانوي (الإلحاق بالنسبة للموظفين).

ولكن عندما يتعلق الأمر بمهام إستراتيجية وأساسية لم يعتمد الملك على الشخصيات السياسية التي تمارس السياسة بشكل أساسي أو ثانوي، بل توجهت المؤسسة الملكية في المغرب نحو التكنقراط الذين لا ينتمون إلى الطبقة السياسة التقليدية، وبالتالي لا يمارسون السياسة بشكل أساسي (الابتعاد عن حكومة (ووزراء) محترفي السياسة) ولا يمارسون السياسة بشكل ثانوي (الابتعاد عن حكومة (ووزراء) الموظفين)، وتوجهت نحو النخب التي قد تمارس السياسة؛ ولكن بشكل عرضي (حكومة (وزراء) المختصين وأصحاب الحلول والباحثين عن النتائج على أرض الواقع).

إن تعيين السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد القادم من عالم الأبناك هو اقتناع من لدن السلطة التي عينته بأن السيادة لا تنتج فقط عن المشروعية الشعبية؛ ولكنها قد تتجسد كذلك من خلال التنمية الاقتصادية، لأن الحكم يستهدف بالأساس تدبير المجتمع بشكل يؤدي إلى النمو، وهو تأكيد كذلك على صحة مقولة ألان تورين، والتي مفادها "أن السياسة هي المراقبة الاجتماعية للاقتصاد المعقلن".

تعيين السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد ومحاولة البحث عن الاستقلالية الوظيفية للدولة

يجب الاعتراف والتأكيد على أن ترسيخ الاستقلالية الوظيفية للدولة لا يمكن أن تتم بمعزل عن استقلالية الشخصيات المُعَيَّنة في المراكز القيادية (سواء المراكز السياسية أو المراكز الإدارية)، داخل الدولة.

وقد سبق لكارل ماركس، وفي إطار مطالبته بفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية، أن أكد أن البرجوازية عليها وفي إطار حماية بورصتها (مصالحها الاقتصادية) أن تتخلى عن تاجها (السلطة السياسية)؛ وهو ما يحتم على الدولة ومؤسساتها الدستورية البحث عن ترسيخ الاستقلالية الوظيفية على أرض الواقع، من خلال الاعتماد على شخصيات قيادية محايدة في بعض المراكز الاستراتيجية، وخصوصا أن التجارب الدولية أثبتت أن انصهار السلطة السياسية والإدارية والاقتصادية يضرب في العمق طموح الدولة نحو الحيادية والاستقلالية الوظيفية (بيير بيرنوبوم في كتابه قمم الدولة).

الالتزام الأساسي للطبقة السياسية التقليدية، بتلبية مطالب الاقتراع مع الاهتمام كذلك بالمطالب المحلية والعمل فعليا على تلبية هذه المطالب، أفقد هذه الطبقة السياسية التقليدية الحيادية الوظيفية المفروضة لممارسة المهام في احترام تام للمصلحة العامة.

وهكذا، ارتفعت أصوات داخل الرأي العام الوطني تشكك في الحيادية الوظيفية لبعض المسؤولين الحكوميين (خصوصا وزير الاقتصاد والمالية السابق)؛ وهو ما دفع سلطة التعيين في المناصب الحكومية إلى البحث عن ترسيخ المصلحة العامة من خلال ترسيخ الاستقلالية الوظيفية للشخصية المقترحة لمنصب وزير الاقتصاد والمالية، خصوصا أمام السلطة التقديرية الكبيرة التي يتمتع بها المسؤول عن القطاع ونظرا كذلك للأدوار الاستراتيجية التي يلعبها القطاع في الحياة الوطنية.

تعيين وزير الاقتصاد والمالية الجديد، واعتبار وزارة الاقتصاد والمالية بنكا كبيرا

اعتبر الباحث فايول أنه ما بين الشركة والدولة هناك اختلاف في التعقيد والحجم؛ ولكن ليس هناك اختلاف في الطبيعة. كما أن الرئيس الفرنسي ألكسندر ميلروند، والذي حكم فرنسا من سنة 1920 إلى سنة 1924، سبق له أن أكد أن الدولة لا يمكن أن تدبر بقواعد مختلفة عن القواعد التي تدبر بها الشركات الكبرى. كما أن وزيرا اشتراكيا (كان يقود الإنتاج الحربي) في فرنسا سبق له أن قال جملته الشهيرة: فرنسا بالكامل هي شركة ضخمة، لي الشرف أن أكون على رأسها.

المغرب لم يبق بعيدا عن علوم التدبير الحديثة، وعمل من خلال المصادقة على القانون التنظيمي للمالية الجديد (نشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 18/06/2015) على ترسيخ تدبير الدولة كما تدبر المقاولات الخاضعة للقانون الخاص، من خلال التنصيص في المادة الثالثة والثلاثين من دستوره المالي على أن القواعد المطبقة على المحاسبة العامة للدولة لا تختلف عن تلك المطبقة على المقاولات الخاضعة للقانون الخاص إلا باعتبار خصوصيات تدخل الدولة. وعمل هذا الدستور المالي كذلك (في مادته الحادية والثلاثين) على إلزام الدولة المغربية بمسك المحاسبات الثلاث: محاسبة ميزانياتية للمداخيل والنفقات، محاسبة عامة لمجموع عملياتها، وكذلك مسك محاسبة لتحليل كلفة مختلف المشاريع المدرجة في إطار البرامج، ولكن أغلبية إن لم نقل جل الطبقة السياسية التقليدية (في المغرب) تجهل ذلك.

تعيين السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد، القادم من عالم الأبناك حيث وسائل التدبير الجديدة المعتمدة على النتائج والتقييم وأخذ رأي المتعاملين، وحيث كل الأنشطة تخضع للمقارنة مع إنتاج معين، ومع استثمار معين، وتخضع كذلك للحساب والكلفة، و رسخ المبدأ الشهير: السعادة الكبرى لأكبر عدد، وكذلك شعار أفضل قيمة مقابل المال (Best value for money) بكل ما يعنيه من بحث عن نفقات مثالية، وبالتالي يتأسس التقييم وتحديث الهياكل الإدارية من خلال المقارنات.

تَمرُّس وتجربة السيد وزير الاقتصاد والمالية الجديد على أدوات التدبير الحديث من خلال تجربته البنكية الكبيرة يجعله الرجل القادر على تدبير وزارة الاقتصاد والمالية كما لو أنها بنك كبير. وبالتالي، تؤهله تجربته من أجل العمل على نفض الغبار عن القانون التنظيمي للمالية والذي يمثل الثورة التدبيرية في البلد إن حُدِّث وطُبِّق.

إن المغرب يحتاج اليوم إلى من يعمل على تنزيل الحلم التدبيري الجديد، ويعمل كذلك على تحديث هذا الحلم التدبيري الكبير، من خلال التنصيص على المهام، حتى نقطع مع عهد الوزارة (والتي استُبدلت في علم التدبير الحديث بالمهام والسياسة العمومية والفعل العمومي) التي صارت تنتمي إلى الماضي، والقطع مع الهياكل البيروقراطية لتنفيذ السياسات العمومية، والمتمثلة في: الوزارة- الكتابة العامة- المديرية- القسم – المصلحة، (أي خمسة مستويات بيروقراطية- تراتبية للتنفيذ)، وهي هياكل تنتمي إلى عصر سياسة الوسائل.

تنزيل الحلم التدبيري الجديد يعني الانتقال (داخل وزارة الاقتصاد والمالية، وبعد ذلك التعميم على باقي الوزارات) إلى الهياكل التدبيرية الحديثة المتمثلة في: المهمة (إذا ما تم التنصيص عليها من خلال تغيير القانون التنظيمي للمالية) – البرنامج - المشروع، وبالتالي ثلاثة مستويات تدبيرية، هذا الانتقال (إن حُدث وإن طُبِّق وإن أُنْزِل على أرض الواقع) يفتح الطريق نحو تطبيق سياسة النتائج والمؤشرات.

قيادة وزارة الاقتصاد والمالية كما تُقاد الأبناك (إن حَصل وجُسِّد على أرض الواقع) تعني الاعتماد على سياسة النتائج؛ وهو ما يتطلب تنزيل الحاسوبية والتحليل الكمي والفعالية، حتى نتمكن من تحديد من يستفيد، ومن ماذا يستفيد، ولماذا يستفيد، وما هي نتائج هذه الاستفادة، وإن نجحنا في ذلك، سنملك القدرة على الوصول إلى حدود العقلانية والمقبولية.

الحاسوبية والتحليل الكمي تمنحنا القدرة على ترتيب الاختيارات والأولويات. وفي حالة عدم وجود الإمكانات، نلجأ إلى الإجراءات الأكثر مردودية، والتي يستفيد منها أكثر عدد من المواطنين. وبهذا الشكل، نتمكن من تحديد القيمة السياسية التي نتوخاها، ونكون في الأخير قد جعلنا من وزارة الاقتصاد والمالية قاطرة لتحديث التدبير العمومي بامتياز، وجعلنا منها كذلك جسرا لمصالحة المواطن مع السياسة، ونفتح الطريق بذلك لمصالحة بين المغرب الرسمي والمغرب الشعبي، إنه حلم ولكنه ليس مستحيل التطبيق.

الخلاصة

تخبرنا التجارب الدولية القريبة، وخصوصا في فرنسا، أن الثورة التدبيرية الحديثة (القادمة من القطاع الخاص والمعتمدة على النتائج) أشرفت على تنزيلها وزارة الاقتصاد والمالية، والتي همت بالأساس الانتقال من الإصلاح الميزانياتي إلى إصلاح الوظيفة العمومية، ثم الانتقال بعد ذلك إلى أُفُق أوسع يهم إصلاح الدولة ككل. وبذلك، صارت وزارة الاقتصاد والمالية هي القاطرة التي قادت التحديث التدبيري وإصلاح الدولة في فرنسا، ولم يكن غريبا أن أحد آباء القانون التنظيمي للمالية في فرنسا هو من تحمل مسؤولية الوزارة المكلفة بالميزانية والإصلاح الميزانياتي (2002-2004) ونعني به السيد ألان لومبير(وبالمناسبة نؤكد أن من قاد الإصلاح ليس دكتورا في الاقتصاد بل موثقا فرنسيا قاد ثورة تدبيرية-مالية- اعْتُبِرت من أهم الإصلاحات التي قادتها وزارة الاقتصاد والمالية، وهَمَّت التدبير العمومي الفرنسي ككل).

أما في بريطانيا، فقد أكدت تاتشر أن الاقتصاد هو الطريقة، وأن الهدف هو تغيير الروح. لهذا، فإن الرهان المعقود على وزير الاقتصاد والمالية الجديد هو رهان كبير، رهان يتأسس على شخصية وتجربة الرجل وكذلك على الثقة الملكية (سواء من خلال الاقتراح الفعلي أو من خلال التعيين) وعلى إستراتيجية المنصب والقطاعات التي يشرف عليها.

نجاح هذا الرهان مرهون بالفعل وتَوفُّر الإرادة، والاعتماد على الأفعال وليس الأقوال. ووحدها الأفعال قادرة على جعل وزارة الاقتصاد والمالية المؤسسة الفعلية الأولى داخل الحكومة، ليس فقط من خلال السلط الممنوحة لها، ولكن من خلال الفعل التحديثي التدبيري الذي قد تقوم به؛ وهو ما سيمكن الوزارة من لعب دور القاطرة التي تقود فعليا الحكومة وترسخ المنجزات، ويجعل الوزير المعين حديثا قادرا على إثبات ما قاله سان سيمون وحايك وفريدمان من أن السيادة غير مرتبطة فقط بالإرادة العامة؛ ولكنها مرتبطة كذلك بالنمو الاقتصادي، وتجعل كذلك الوزير يؤكد أنه لا ينتمي إلى أصحاب الشواهد "الهندسية المُفضلة"، بل ينتمي إلى أصحاب الشواهد "الهندسية المُرسَّخَة" من خلال الأفعال والنتائج والمؤشرات والتقييم، وتجعله بالتالي يرسخ جدلية: التعيين-النتائج الإيجابية، بدل جدلية: التعيين –المشاكل و الجمود والعجز والتي تسببت في إقالة الوزير السابق لقطاع الاقتصاد والمالية.

فهل ينجح الرهان؟ هذا ما سيكشفه المستقبل، وكما قال النعمان بن المنذر لأحد وزرائه - إن غدا لناظره قريب.

*باحث في العلوم السياسية