تحليل

قراءة في توجهات مشروع قانون المالية لسنة 2019

محمد العمراوي

مع قرب نهاية السنة المالية 2018 وما يعنيه ذلك من ضرورة إعداد وتحضير الحكومة لقانون المالية لسنة 2019، وفي سياق التحضير لهذه المحطة والموعد التشريعي السنوي -الذي يعتبر كآلية لتنزيل التزامات البرنامج الحكومي - أصدر رئيس الحكومة بتاريخ 13 غشت 2018 منشورا يتضمن الخطوط العريضة لإعداد مشروع قانون المالية لسنة 2019، مع تبيانه لمرتكزات السياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية للسنة المقبلة، ويدعو فيه الآمرين الصرف إلى إعداد مقترحاتهم فيما يخص المداخيل والنفقات برسم السنة المالية 2019، وإرسال مقترحات ميزانيتهم الفرعية إلى مديرية الميزانية قبل تاريخ 31 غشت 2018 حسب الكيفيات والجدول الزمني المتضمن فيه.

وكما هو معروف لدى الدارسين والمهتمين بالمالية العمومية بالمغرب فالمنشور هو عبارة عن رسالة تأطيرية يبعث بها رئيس الحكومة سنويا للآمرين بالصرف قصد تحضير ميزانيات القطاعات التي يشرفون عليها. وفي هذا الصدد نجد المادة الرابعة من المرسوم رقم 2.15.426، الصادر في 28 من رمضان 1436 (15 يوليو 2015) والمتعلق بإعداد وتنفيذ قوانين المالية، تقول: "يدعو رئيس الحكومة، بواسطة منشور، الآمرين بالصرف لإعداد مقترحاتهم المتعلقة بالمداخيل والنفقات عن السنة المالية الموالية..." .

ما يهمنا في هذا المقام أكثر هو بسط مقتضيات هذه الرسالة التأطيرية (جاءت في 22 صفحة)، التي تعكس الخطوط العريضة لقانون المالية لسنة 2019 وأولوياته وأهدافه، وبالتبعية تبرز التوجهات العامة للحكومة خلال السنة المالية المقبلة.

وتبعا لذلك، ومن خلال إلقاء نظرة على هذه الرسالة التوجيهية، التي استهلت بتوضيح السياق العام الدولي والوطني والوضعية الاقتصادية والمالية وآفاق النمو الاقتصادي والإكراهات المالية ومختلف التحديات الاقتصادية والمالية المطروحة، تستوقف الملاحظ المدقق والباحث المهتم بالمالية العمومية في المغرب ملاحظة رئيسية: أن المشروع كسابقيه محكوم هو الآخر بهاجس رئيسي هو الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية عبر التقشف في النفقات العمومية، وإن اقتضى ذلك تراجع الدولة عن النهوض بمجموعة من القطاعات الاجتماعية، منها قطاع التشغيل، الذي نصت الرسالة على ضرورة اقتراح مناصب شغل في الحد الأدنى، وكل ذلك بداعي التقشف والترشيد والتخفيض من تحملات الميزانية العامة بالمغرب والتقليص من نسبة العجز بها، على الرغم من أن المذكرة التأطيرية ذاتها نصت -فيما يشكل تناقضا- على دعم التماسك الاجتماعي والمجالي والبرامج الاجتماعية وإنعاش الشغل...

ويتمحور مشروع قانون المالية حول الخيارات والأولويات التالية :

أولا، إعطاء الأولوية للسياسات الاجتماعية من خلال التركيز على الصحة والتعليم والتشغيل، وبرامج الحماية الاجتماعية، والإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي ودعم القدرة الشرائية للمواطنين،

ثانيا، مواصلة الأوراش الكبرى والاستراتيجيات القطاعية لتوفير ظروف الإقلاع الاقتصادي ودعم الاستثمار والمقاولة،

ثالثا، مواصلة الإصلاحات الكبرى،

رابعا، الحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى.

وفيما يخص المؤشرات الماكر واقتصادية، فالمشروع ينبني على مجموعة من الفرضيات كالتالي:

توقع تحقيقه معدل نمو في حدود 3,2 في المائة،

تحقيق محصول زراعي يصل إلى 70 مليون قنطار،

حصر نسبة عجز الميزانية في 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام؛

توقع متوسط سعر البترول في 68 دولارا للبرميل.

ومن الأمور الأخرى التي أتت متضمنة في هذه الرسالة:

إعلان مواصلة تفعيل الإصلاح المقياسي لنظام المعاشات المدنية.

تنزيل مقاربة البرمجة الميزانياتية لثلاث سنوات، حيث سيتم تقديم الميزانيات الفرعية بالاستناد على برمجة ميزانياتية تمتد ثلاث سنوات 2019-2021، خاصة بعد صدور منشور رئيس الحكومة رقم 5-2018 بتاريخ 22 مارس 2018 المتعلق بالبرمجة الميزانياتية لثلاث سنوات 2019-2021، تطبيقا للمادة الخامسة من القانون التنظيمي رقم 13-130 لقانون المالية، التي تنص على أنه "يتم إعداد قانون المالية للسنة استنادا إلى برمجة ميزانياتية لثلاث سنوات. وتحين هذه كل سنة لملاءمتها مع تطور الظرفية المالية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

تهدف هذه البرمجة على الخصوص إلى تحديد تطور مجموع موارد وتكاليف الدولة على مدى ثلاث سنوات اعتمادا على فرضيات اقتصادية ومالية واقعية ومبررة.

يحدد مضمون هذه البرمجة وكيفيات إعدادها بنص تنظيمي".

إطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.

بداية العمل بمخطط الصحة 2025.

أجرأة المخطط الوطني لإنعاش الشغل.

الشروع في تنزيل المقاربة الجديدة لتدبير المشاريع الاستثمارية العمومية.

اعتزام الحكومة إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري داخل أجل لا يتعدى نهاية شهر أكتوبر من سنة 2018.

وعلى مستوى آخر، ما يثير الانتباه في المنشور آنف الذكر، الاعتراف الحكومي بفشل المنظومة الصحية حيث جاء فيه: "ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في المنظومة الصحية الوطنية التي تعرف تفاوتات صارخة وضعفا في التدبير..." .

من جهة أخرى التناقض بين ما جاء في المنشور وبين التقرير الأخير لبنك المغرب، فالمنشور يشير إلى ما أسماه "التفعيل السريع للإجراءات المبرمجة على مستوى الرؤية الإستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي...) فيما نجد على العكس من ذلك أن التقرير يشير إلى أنه: "في مجال إصلاح منظومة التربية والتكوين، لم يتم بعد تنزيل الرؤية الاستراتيجية 2030 رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات على اعتمادها، في الوقت الذي تستمر المدرسة المغربية في تسجيل نتائج باهتة وإفراز شباب تنقصه المؤهلات اللازمة للاندماج بشكل ملائم في سوق الشغل..)".

وبناء على مجمل ما تقدم، وما تضمنته الرسالة التأطيرية من توجهات، يمكن إثارة مجموعة من الملاحظات والتعقيبات حول المحتوى الاقتصادي والمالي والاجتماعي لهذه الرسالة، كالآتي بيانه:

علاقة باعتزام الحكومة استكمال ما أسمته المذكرة الإصلاحات الهيكلية، وإطلاق أخرى إلى جانب مبادرات مختلفة (تأخذ بعين الاعتبار، علاوة على ما جاء في البرنامج الحكومي، توجيهات وتعليمات الملك المتضمنة في خطاب العرش وخطاب ثورة الملك والشعب)، يثار السؤال حول منافذ تمويل وتغطية تكاليف هذه الإصلاحات، في ظل توقع الحكومة بحقيق نسبة نمو لا تصل حتى إلى 4 في المائة، واستمرار عجز الميزانية العامة، وتصاعد معدل المديونية، الشيء الذي يعني التجاء الحكومة إلى روافد تمويلية استثنائية كالقروض، الأمر الذي يضرب في العمق إعلان الحكومة التزامها بتخفيض حجم المديونية؛ إذ أن مستوى النمو المتوقع يبقى غير قادر على الاستجابة لحاجيات المواطنين وتحقيق شروط الإقلاع الاقتصادي، ذلك أن وتيرة النمو منذ الاستقلال إلى حد الآن دون المستوى المطلوب، الشيء الذي يعمّق عجز الميزانية، وهنا أشير إلى ما يذهب إليه الكثير من الاقتصاديين المغاربة من أن المغرب يلزمه مستوى نمو يصل إلى 7 في المائة سنويا على مدار 15 سنة متتالية للتغلب على إشكالية عجز الميزانية والاستجابة للطلب الاجتماعي.

الرسالة تبرز مرة أخرى أن الحكومة أسوة بسابقاتها تتعامل وفق بعد محاسباتي ضيق كلما تعلق الأمر بإعداد قوانين المالية. بمعنى أدق، السياسة الاقتصادية والمالية التي تطبقها الحكومة في عمقها سياسة لا تروم رفع نسبة النمو أو الاستهلاك الداخلي بالمغرب أو دعم الطبقات الاجتماعية الفقيرة، بقدر ماهي سياسة هدفها الرئيسي المحافظة على التوازنات الماكرو- اقتصادية.

المذكرة أتت خالية من أي إشارة واضحة تظهر مدى اهتمام الحكومة باسترجاع نسق النمو- الذي يعرف سنويا تراجعا إلى مستويات تضعف من هامش التحرك لديها - ويتماشى مع التحديات المطروحة وانتظارات المواطنين.

لم يتم إدراج أي إجراءات تهم اعتزام الحكومة التقليل من معدل المديونية وتخفيضه، كما يصرح بعض أعضائها، إلى أقل من 60 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في أفق سنة2021، وهو ما يعني أن الحكومة لا رغبة لديها في التخفيض من حجم المديونية العمومية التي تجاوزت 80 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، علما أن المغرب لا يزال يعاني منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن من عبء ارتفاع المديونية العمومية مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي، ومن آثارها السلبية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي داخليا، فحسب ما جاء في تقرير للمعهد الأمريكي للدراسات الاستراتيجية "ماكينزي McKenzie " برسم سنة 2015، يعتبر المغرب من بين أكثر البلدان مديونية في إفريقيا والعالم العربي وشمال إفريقيا، ذلك أن حجم ديون المغرب جعله يتبوأ الرتبة الـ29 عالميا والرتبة الأولى إفريقيا.

إلى حدود صدور هذا المنشور، ليس هناك ما يؤكد وجود تصور لدى الحكومة فيما يخص النموذج التنموي الجديد -الذي سبق أن قال عنه الملك في افتتاحه الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة للبرلمان في أكتوبر 2017، إنه أصبح غير قادر على تلبية احتياجات المواطن المغربي- جاء فقط عبارات عامة من قبيل: "مراجعة جماعية للنموذج التنموي، الانكباب على الإصلاح الهيكلي في أقرب الآجال"، أي لا وجود حاليا لأي تصور لهذا النموذج ولا مضمونه ومنطلقاته ورهاناته، ولا الآليات أو الموارد لتنزيله.

قضية البطالة والتشغيل تظل في قلب المفارقات الكبرى للنموذج التنموي المغربي، وسيرا على نهج الحكومة السابقة الرسالة التأطيرية لم تأت بجديد فيما يخص تقوية ميكانيزمات التشغيل ومحاربة البطالة، رغم تزايد نسبتها بكل جهات المغرب، حسب آخر تقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط يهم النصف الثاني من سنة 2018، وهو ما يفيد تنصل الحكومة من مسؤولياتها الاجتماعية (معطيات سابقة للمندوبية السامية للتخطيط تشير إلى وجوب خلق 400 ألف وظيفة سنويا حتى سنة 2020 لمنع تفشي البطالة وتفادي تهديد السلم الاجتماعي)، فقط الإشارة إلى اعتزام الحكومة تنزيل مخرجات المخطط الوطني للتشغيل غير واضحة المعالم، الذي يأتي في إطار التفعيل المتأخر للاستراتيجية الجديدة للتشغيل

2015-2025 كفعل عمومي يختزل تصور الحكومة السابقة لمواجهة إشكالية التشغيل ومعضلة البطالة.

بعض الإجراءات والتدابير رغم أهميتها تبقى محدودة الأثر إذا لم ترافقها نظرة استراتيجية على المديين المتوسط والبعيد، تسعى إلى إيجاد حلول هيكلية لإشكالات بنيوية، وبالشكل الذي يجعلها قادرة على مواجهة التحديات والاستجابة للانتظارات والتكيف مع المتغيرات الدولية وتسارع وتيرة العولمة .

وختاما، وتبعا لما سبق ذكره، نشير إلى أن:

إيجاد الأجوبة والحلول الملائمة والسريعة لقضايا المواطنين وانتظاراتهم يمر حتما عبر ميزانية اجتماعية.

أمام قانون المالية لسنة 2019 جملة من التحديات الكبرى في ظل تنامي الطلب الاجتماعي وتزايد انتظارات المواطنين.

الواقع الموضوعي للنموذج التنموي المغربي في الوقت الراهن والتحديات التي تفرضها الظرفية الداخلية والمحيط الدولي يفرضان على الحكومة، استشرافا للمستقبل، العمل على القيام بنقلة نوعية في المسار التنموي، قوامها تغيير جوهري يتطلب الانطلاق من المبادئ المؤطرة التالية:

إعادة النظر في النموذج الاقتصادي المتبع وفق رؤية شمولية، تكون من جهة واضحة ومحددة تتكامل مع السياسات المالية والنقدية، ومن جهة أخرى تستهدف تحقيق التوازن بين دينامية الاستثمار والنمو.

المواطن المغربي غاية التنمية.

العدالة الاجتماعية والمجالية ومعالجة الاختلالات الاجتماعية والحد من الفوارق غاية التنمية.

البحث عن النجاعة والفعالية.

نهج سياسة إرادية تروم تحقيق مستوى نمو اقتصادي مولد لفرص الشغل، باعتبار الأخير أحد أشكال الحماية الاجتماعية وعنوانا للكرامة الإنسانية، ومن الحقوق الأساسية الاقتصادية والاجتماعية.

ملاءمة تدخلات الدولة مع تحديات الانفتاح والتنافسية.

تقوية استهلاك الأسر الذي يشكل أحد أبرز محركات النمو.

*باحث في التدبير الإداري والمالي