محمد معروف: نحن المغاربة نحن أميون

هل نحن أميون، فعلا أم هذه مبالغة لفظية المقصود منها استفزاز القارئ؟ لا يأخذك ارتياب عزيزي القارئ بأنك أنت وأنا وباقي المغاربة الذين يتحدثون الدوارج أميون، نحن أميون لأننا نفكر ونتواصل بلغة أمية لم تلج مختبرا عالما، ولم تخضع لرقابة لغوية، ولم تحظ بتقعيد أو تقنين، و على الرغم من مساهمتها في الفن والإبداع، فهي لغة أمية، بمعنى أنها لم تلج مدرسة أو جامعة ليتم استنساخ نسخ عالمة من هذه اللغة، تمكنُنا من ترجمة العلوم والفن والآداب إليها، فالدارجة المغربية، وعلى الرغم من إنتاجها لأشكال فنية عديدة من مسرح وأغنية وزجل وملحون، ظلت لغة الموروث الشعبي، فهي مخزون الثقافة المارابوتية الذي يغذي الاستعارات والأساطير والخرافات التي نحيا بها، وبهذه اللغة اليوم، نحن نفسر العالم والوجود، ونحلل الظواهر الاجتماعية، وعلاقتنا بالواقع المعيش، تحدده معاجم واستعارات ومعاني هذه اللغة الدارجة، ولو توقفت عزيزي القارئ للحظة عند استخدامك اليومي لهذه اللغة، ستجدك سجين هذه المعاني، مهما وصلت درجة تمدرسك بلغات أخرى، فأنت الذي تتحدث بلغة العين والحسد و"الزهر"، وأنت الذي تقول"ضربني شرجم"، وأنت الذي تعلل الظواهر بالمكتوب" لممنوا هروب"، وقس على ذلك أمثلة لا تحصى، بها تفكر، وبها أنت موجود!

سيغتاظ معشر المتعلمين من هذا الرأي، ويحاولون تفنيده بحجة انفتاحهم على لغات أخرى مثل العربية الفصحى والفرنسية والإنجليزية، كلام معسول جميل ! نحن فعلا ندرس العلوم والفنون والثقافات الأخرى بهذه اللغات، لكن حين نغادر حجرات الدرس وقاعات المكتبات، هل نتحدث منطوق لغات عالمة؟ هل نتحدث نسخة من الفصحى أو الانجليزية أو الفرنسية، كما هو الشأن بالنسبة للفرنسيين والإنجليز وباقي شعوب أوروبا وآسيا؟ مع الأسف، نحن نفكر ونحيا بدارجة و أمازيغية لا علاقة لهما بعالم المعرفة والعلوم، ونتواصل بهما يوميا، فاللغة الأم هي التي نتاجر بها، ونرقص بها، و نبكي بها، ونحب بها، و نغني بها، و نحيا بها، إذ استعارتها تشكل أساطير حياتنا اليومية، وهذا ما يفسر كون طبيبة من النخبة المثقفة، قد تلجأ إلى عالم الخرافة والسحر للسيطرة على زوجها، ذلك لأن اللغة التي تفكر بها، تحمل هذه الاستعارات والمعاني والرموز في طياتها على شكل يقينيات ومسلمات لا تناقش...كيف لا، ونساء مثقفات حوامل، تحملن طلاسم في جيوبهن لحمايتهن من العين، ذلك لأن لغة المعالج التقليدي تدغدغ مشاعرهن بأمثلة قاطعة مثل " الحاملة بلا حجاب، بحال الدار بلا باب!"

إخواني الأميون المغاربة! لا تنزعجوا من كلامي هذا، ولكننا أميون مادامت لغتنا لم تلج مختبرا علميا، ولا تتوفر على نسخة عالمة يمكن تدريسها لنشائتنا وتطوير نمط تفكيرنا، نحن أميون بمثقفينا، مادمنا نتواصل بدوراج مكتسبة بالتنشئة، ونتحدث لغات الفطرة! كيف ستؤثر هذه العلوم والإبداعات التي نكتسبها بلغات أخرى، ولغاتنا الأم لم تنل ترجمات ومعاني جديدة تغني مساحاتها في التفكير، وهكذا، قد يصعب على مفكر أو مبدع أن يقوم بإيصال فكرته بالدارجة، ذلك لأن المساحات اللغوية التي توفرها له شبه منعدمة، ولا تؤهله للتعبير السليم عن أفكاره العلمية، مما يضطره للتنقل بين اللغات للتواصل!

كيف تنتظرون نهضة ثقافية وتنمية بشرية بدون لغات أم مقعَّدة مقننة؟ كيف تحاربون الأمية عبر لغة تواصل حية، تفتقر إلى معجم عالِم وصيغ عالمة تمكنها من ولوج المعرفة والارتقاء إلى لغة تفكير علمي كباقي اللغات؟ كيف سيتطور هذا المجتمع، وثقافته الحية تسبح في لغة الخرافات والأساطير؟

ونقول لمن يدعي بأنه لا يفكر بالدارجة أو بالأمازيغية، نظرا لأنه متعلم للغات أخرى، بأنه واهم، ويجب أن يعيد النظر في تركيبته الذهنية، لأن لغته الأم هي لغة تنشئته وتَشكُّل هويته الاجتماعية، وتحديد رؤيته للعالم، فحتى لو تعلم الفصحى ودرس بها القرآن، فهو يحيا بخطاطات الدارجة الثقافية، إذ تملي عليه خليطا من المعتقدات والطقوس والشعائر، ولنتأمل كيف اجتاح الإسلام الشعبي طبقات المجتمع، نظرا لتمكنه من الدارجة، وكيف ينجح الإسلام الملتزم في اختراق الطبقات الشعبية حين يتم تبسيطه باللغة الأم، ويصبح قابلا للتفكير فيه بالدارجة، وانظروا كيف استطاع بنكيران الوصول إلى قلوب جماهيره عبر اعتماد خطاب سياسي دارجي!

هل لغتنا الدارجة خالية من الإيديولوجيات والهيمنة الفكرية؟ هل هي لغة فطرة بريئة؟ هل توجد لغة بريئة أصلا في هذا الكون؟ إنها لغة مليئة بالأحكام الجاهزة، والقيم والمعتقدات والأيديولوجيات التي تنشرها القوى المؤسساتية، فنحن نعيش بلغة التحكم، ونحيا باستعاراتها دون مساءلة هذه اللغة علميا كيف تخدم السلطة، وتعمل على تثبيتها في ذهنية المجتمع، ولنسق لكم أبسط مثال عن طقوس الأعراس المغربية، وكيف ترسخ طقوس بيعة مقدسة بسلطان ووزراء في المتخيل الاجتماعي، واليوم جاء كتاب مدرسي بلفظة دارجة "بغرير"، أغضبت سيدة من أهل القاع، حيث قرّعت الوزارة الوصية بكلام مفاده أن هذه الوصفات، يجب أن يتعلمها أبناء الطبقات الميسورة، وليس أبناء الفقراء، كم هو جميل هذا التعقيب من هذه السيدة، إذ يوحي بنقاش اقتصاد سياسي محض، يوضح أزمة التعليم الحقيقية بين أبناء الفقراء والأغنياء في هذا البلد، فلو استُخدمت كلمة "رغيف" و"حلوى"، لما أثير هذا النقاش في الأصل، لأن كلمة "بغرير"، لا ترمز فقط إلى أكلة، بل إلى نمط غذائي متعلق بطبقة اجتماعية معينة على الرغم من تواجده على موائد جل المغاربة في المناسبات دون تمييز، وهكذا قد يمكن تصنيف الفئات الاجتماعية من خلال سلوكهم الغذائي...

إن الدرس المستخلص من هذا المثال، هو أن ولوج الدارجة إلى المدرسة سينزع أقنعة الهيمنة الثقافية عن الحكم، ويفضح إيديولوجيات النخب الحاكمة التي نحيا بها، بل قد يفطّن المجتمع نحو العديد من القضايا السياسية والاجتماعية و الاقتصادية التي كان يجهلها، نظرا لعدم إدراكها بمساحات تفكير اللغة الأم الحالية... والدارجة اليوم، تستخدم في الصحافة والسياسة و في ميادين شتى، لكن بطرق ارتجالية عشوائية، نظرا لأنها لم تُدرّس، ولم تُقعَّد، ولا تتوفر على بنيات متطورة، تجعل منها لغة قابلة لتحصيل العلم والمعرفة.

من منكم يا أهل المغرب يفكر بالعربية الفصحى خلال حياته اليومية؟ من منكم يفكر بالفرنسية أو حتى بالانجليزية، باستثناء زمرة من بقايا الاستعمار؟ فكلنا نفكر بالدوارج، بما في ذلك الأمازيغية، ومع الأسف نحارب تلك اللغات الأم التي نفكر بها، ونصارع من أجل بقائها في براثن الأمية والجهل؟ غريب أنت يا وطني!!

في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، لقد تم تقنين اللغات الأم وإنشاء قواعد لها لكي تصبح لغات المجتمعات وقاطرة نهضتها في جميع المجالات، والأمثلة عديدة من بلجيكا وهولندا واليابان والصين، وغيرها من الدول، وحتى إيران الشيعية، طورت الفارسية، وجعلتها لغة التفكير والعلوم، بينما يتقن علماؤها العربية، ناهيك عن ظهور تيارات فكرية في إفريقيا وأمريكا والهند تندد بلغة المستعمر، و تمنح الأولوية لتعلم اللغات الأم وتقنينها في المدارس، حتى تتخلص الشعوب المستعمرة من براثن الاستعمار اللغوي، (decolonization linguistic)، وهذا المشروع قاده كتاب أفارقة مثل نكوكي الذي رفض في وقت من الأوقات الكتابة باللغة الانجليزية ، وعاد للكتابة بلغته الأم، جيكويو الكينية، والتي أدت إلى سجنه ، وشينوا آشيبي صاحب رائعة "الأشياء تتلاشى"، والذي كتب بلغة انجليزية افريقية، تحمل استعارات ومعاني محلية منفصلة عن انجليزية المركز، وظهرت الدراسات الثقافية قي أوروبا وغيرها من الدول لتحرر الثقافات من مركزة المعرفة التي تنشرها بريطانيا وفرنسا وأمريكا، وبدأ المثقفون البحث في لغات العالم عن العلم والإبداع، ورفض العديد منهم المجانسة (homogenization) التي تطرحها ثقافة المستعمر...

تلك مفارقة عجيبة، حين ترى لغتك المنطوقة تتطور في ميادين منحرفة، بينما تظل راكدة في ميادين قد تؤدي بالمجتمع إلى نهضة فكرية؟ كيف تكتسب الدارجة يوميا مساحات جديدة في عالم الخرافة والسحر وزيارة الأولياء والجريمة والتسلية، بينما تغيب عنها البنيات العلمية التي تمكنها من فهم الظواهر الاجتماعية والقضايا السياسية والعلمية فهما صحيحا، أبهذه اللغة نسعى إلى تحقيق نهضة فكرية؟ كم من كلمة تحويها الدارجة؟ هل يمكن مقارنة معجم الدارجة بمعجم اللغات الأخرى؟ أبهذا المعجم الدارجي الهزيل، سنفكر ونشرح ونحلل،ونبدع ونخترع؟ لماذا لا تقفون وقفة تأمل في عدد التراكيب والكلمات المتاحة لكم للتواصل بهذه اللغة؟ من يغذي لغتنا الآن بابتكارات جديدة؟ هل هو محمد شكري؟...ضاعت رباعيات المجذوب وبقيت الداودية تغني "عطيني صاكي"!!

تكمن مصيبتنا اليوم في محاربة لغتنا الأم، فحتى لو تم القضاء على الأمية نهائيا بتمدرس كافة الشعب، سيظل الشعب أميا، مادام يتواصل بلغة أمية لا تتوفر على ضوابط علمية، ولا تخضع للتلقيح والتطهير والتنقية، وليست لها نسخا عالمة، تجعل منها لغة المستقبل، لهذا تجد الشباب يستهزأ منها على الانترنيت، حين يدبج نصا بالدارجة بأسلوب ساخر، أليس هذا يا أمي، دليلا قاطعا على أن لغتك رديئة، ولم تلج مختبرا ولا مدرسة، ولم تتطور، فأنت لا تسخر من لغة تتحدثها، ولكنك تسخر من نفسك، لأنها جزء من تفكيرك ومن هويتك، فأنت في النهاية أمي، مادمت تتحدث لغة أمية!

كيف يمكن أن تعيش بهوية أمازيغية وحسانية وريفية، وأنت لم تستحصِف ثقافتك وفنك وأساطيرك ودياناتك القديمة بلغتك الأم؟ ومن يعتقد أن الإسلام مهدد بتقعيد اللغات الأم، فهو واهم، لأن الدين نزل بلغة أم عالمة تحيا بها قريش، و لم ينزل باللاتينية مثلا، مما يحيلنا على أنه قادر أن يحيا بأي لغة تحيا بها الشعوب، بما في ذلك لغته الأصل، الفصحى، وانظروا كيف ينتشر في إيران وأفغانستان وباكستان وباقي دول آسيا، و يتم تفسيره والكتابة عنه باللغات العالمة التي تحيا بها هذه المجتمعات، وعلى ذكر الفصحى، هل تستقطب الجماعات الإسلامية المغاربة الأميين في القرى والمداشر بالفصحى؟ إن قوة الدارجة الدينية تكمن في تمرس معانيها على إبلاغ الرسالة، وأخيرا، نستغرب كيف ننتج اليوم أفلاما وأغاني ومرئيات صحافية بالدارجة والأمازيغية على تواضعها، بينما نرفض في الوقت نفسه إدخالها إلى المختبر، حتى لا تصبح لغة عالمة؟

ويستمر عالم المفارقات بالمغرب حول قضية اللغة الأم، فنستقي لكم مفارقة أخرى من شعب السوسيولوجيا والصحافة وغيرها من التخصصات بالمغرب، إذ تقوم بأبحاث ميدانية، تحتاج من خلالها إلى إتقان السؤال والحوار والمحادثات باللغة الأم، لكن هل يدرس الطالب بهذه التخصصات اللغة الأم، وكيفية توظيفها في الأبحاث الميدانية والمقابلات؟ هل يتم تلقينه دروسا بهذه اللغة أو حول هذه اللغة؟ هل يشارك في ورشات إعدادية حول هذه اللغة؟ طبعا لا، فهو باحث ميداني بالفطرة! هل يعقل أن تصاغ أسئلة البحث بالفصحى، بينما هي تلقى ميدانيا بالدارجة؟ وهل يستقيم وضع باحث سوسيولوجي بالمغرب، وهو لا يتكلم الأمازيغية، وما أكثرهم؟ على الأقل، يجب تعليم هؤلاء اللغة الأمازيغية في شعب السوسيولوجيا، أم هي سوسيولوجيا القسم فقط؟

يؤسفني أننا سنظل أميين إلى حين اقتناع أهل الضاد والفرنسة، بأن مستقبل القضاء على الأمية بالمغرب رهين بتأهيل الدوارج والنهوض بها إلى مستوى لغات الفكر والعلم والمعرفة، ودون ذلك لن نستطيع بثقافة ولغة أمية بناء عقل مغربي مفكر!!

*جامعة شعيب الدكالي