قضايا

تقدم القضاء عن الإدارة في التعاطي مع حق الأم في الدفتر العائلي

الحسين بوخرطة

لقد تتبعنا إعلاميا وميدانيا كيف أفرز الواقع المغربي أمهات بأبناء بدون المرور من المسطرة الوضعية الحديثة الخاصة بتوثيق الزواج بعقد رسمي، منهن أمهات عازبات، ومنهن أمهات تملص الزوج من إقرار أبوته للمولود الذي تم إنجابه في إطار زواج تقليدي على أساس قراءة سورة "الفاتحة". كما أبرز الواقع كذلك مقاومة إدارية (على مستوى السلطة التنفيذية) في شأن الاعتراف بكون الأم وابنها يشكلان "عائلة" في غياب الزوج أو عدم وجوده.

وهنا، فبالرغم مما سجله المغرب من تقدم ملحوظ في مجال اختيار الاسم العائلي للمولود مجهول الأب، وتجاوز ترك خانة اسم أمه وأبيه فارغا كما كان معمولا به في السابق، سجلت التطورات تقدما في التحليل والتأويل والفهم على المستوى القضائي مقارنة مع المستوى الإداري. لقد رفعت عدة أمهات مغربيات عازبات مقيمات بالخارج دعاوى إلى المحاكم الابتدائية بالمملكة طالبين تمكينهم من الدفاتر العائلية لإتمام المساطر المتعلقة بالتجمعات العائلية ببلدان الإقامة. لقد استجاب لهم القضاء المستعجل على مستوى رئاسة المحاكم الابتدائية ببلادنا في عدة مدن، لكن مواجهتهم بالرفض الإداري من طرف الساهرين محليا على مؤسسة الحالة المدنية (ضباط الحالة المدنية)، التي يشرف عليها بالمباشر ممثلي المجتمعات المحلية، أي المجالس الجماعية، جعلهم يصابون بالخيبة والاستياء. فباسم جلالة الملك، تم إصدار أحكام رسمية قضت بتسليمهم الدفتر العائلي، ليجدوا أنفسهم أمام رفض إداري شفاهي صارم، رفض حاولت من خلاله الإدارات المحلية التهرب من إلزامية التعبير عن ذلك بقرارات إدارية رسمية تمكن المتضررات من اللجوء إلى المحاكم الإدارية للمطالبة بحقهم في العيش مع أبنائهم تحت سقف واحد ببلدان الإقامة (الخارج). إن استحضار مثل هذه الحالات المقلقة هو الذي دفعني في مقال سابق في شأن تذييل الأحكام الأجنبية المتعلقة بإثبات النسب إلى ترجيح فرضية وجود نوع من التباين الواضح في التقدم القضائي على الإداري. لقد فضلنا هنا الحديث عن التقدم بدلا من طرح فرضية "رجعية الإدارة"، خصوصا والكل يعلم أن هذه الأخيرة كانت في السابق، أي قبل إصدارها للقانون الجديد الخاص بالحالة المدنية سنة 2002، لا ترى مانعا في تسليم الأمهات العازبات كنانيش التعريف والحالة المدنية.

إن المقاومة الإدارية واضحة، والقراءة التي تقدمها مؤسساتها لقانون الحالة المدنية في هذا المجال لا يمت بصلة بالهدف النبيل لقرار المشرع في استبدال اسم "كناش التعريف والحالة المدنية" باسم "الدفتر العائلي". فمفهوم العائلية، حسب ما يسمى ب"الانهاءات" عرف تطورا كبيرا بسبب تطور الحياة المعاصرة للأفراد والجماعات وتوسع مجالات الحقوق والواجبات والأحوال والوقائع. فالعائلة تعني كل من يعيش في بيت واحد وتربطهم القرابة، وتطور هذا المفهوم ليصبح بعد ذلك مرادفا للإعانة التي تعني القيام بما يحتاجه الغير من طعام وكساء تدريس وترفيه وغير ذلك من التحملات المادية المختلفة والمتنوعة. فعلاقة الأمومة، بالنسبة للأم التي أنجبت مولودا خارج التوثيق الرسمي للزواج، قارة وثابتة بمقتضى شهادة الولادة، وكونها (المنهية)، تصرف من مالها الخاص على ابنها (المنهى) وتراعي شؤونه أمر ثابت بحكم الطبيعة البشرية. وبهذا الفهم، بأصوله العربية، والذي أقرت من خلاله الدول المتقدمة تمتيع الأمهات العازبات بكل حقوق ما يسمى بالعائلة، تم حصر الإعالة في الإعانة الدائمة والإنفاق. في نفس الموضوع، أعطى الدين الإسلامي مكانة مرموقة للعائل في الدنيا والآخرة لما لهذه المسؤولية من فضائل على المجتمعات. وفي هذا الباب، نستشهد بقول الحبيب الرسول محمد (ص): "من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو".

إن حرمان الطفل من الالتحاق بأمه بالخارج هو اعتداء واضح على حقه كطفل أولا، وكمسار حياة يحتاج إلى العناية (الإعالة) للاستعداد ليصبح أبا في المستقبل من خلال حقه في تأسيس أسرة جديدة يكون اسمه العائلي انطلاقة لشجرتها. فماذا سيكسب الوطن من طفل سيحرم من أمه ومن عنايتها؟، وما الغاية من حرمانه من الوثائق التي ستساعده على التقدم في مسار حياته المادية بالخارج بدون معاناة؟. إن حقوق الطفل، كما هو معترف بها دينيا وفي كل المواثيق الحقوقية الدولية، جعلت من توفير الظروف والشروط المواتية لبناء مستقبله المادي والمعنوي من أولويات الدول والمجتمعات. إن الحرص على ترسيخ حقوقه، وعلى رأسها العيش تحت الرعاية الكاملة لمن له حق الولاية عليه، سيجعل منه مستقبلا مواطنا كامل المواطنة ومشبعا بالروح الوطنية، ومعترفا بشكل دائم بما أسداه له الوطن من خدمات ومساعدة.

لقد اعتمدت الأحكام القضائية على مقتضيات مدونة الأسرة التي تجعل من الأم نائبة شرعية عن أبنائها في حالة غياب الأب. وطبقت الهيئات القضائية بمختلف المحاكم هذا المقتضى على حالة الأم العازبة التي أغفل قانون الحالة المدنية التنصيص على حقها في تسلم الدفتر العائلي.

خاتمة

إن تعاطي الدولة المغربية مع هذه الحالة أبان تفوقا واضحا للقضاء على الإدارة في مجال الاجتهاد والكفاءة في الفهم والتحليل والتقدير والتأويل. لقد اعتمد هذا الاجتهاد القضائي الحديث على مقتضيات مدونة الأسرة التي تعتبر أمانة حماية الطفولة وضمان حقوقها من مسؤولية الدولة.

لقد بادرت إلى كتابة هذا المقال لأضم صوتي إلى صوت الجمعيات الحقوقية النسائية موضحا حاجة بلادنا إلى اتخاذ قرار استعجالي لمراجعة مدونة الأسرة لسنة 2003. لقد ارتبطت قرارات الإدارة بالقراءة الحرفية للنص القانوني المتعلق بالحالة المدنية (يسلم الدفتر العائلي للزوج كما تسلم نسخة منه للزوجة المطلقة أو الأرملة أو النائب الشرعي). فالقراءة التقليدية المعتمدة فرضت الوقوف عند العبارة "يسلم الدفتر العائلي للزوج" بدون إتاحة الفرصة لأي اجتهاد من خلال التمعن في باقي عبارات المادة المعتمدة. في حين نجد أن القضاء قد اعتبر الأم، حسب مدونة الأسرة، نائبة شرعية عن أبنائها في حالة غياب الأب، وأن لها الحق في الولاية على أبنائها على قدم المساواة مع الرجل. لقد حددت مدونة الأسرة النائب الشرعي في الولي وهو الأب والأم والقاضي، والوصي وهو وصيي الأب أو وصي الأم، والمقدم وهو الشخص الذي يعنه القضاء. كما اعتبرت نفس المدونة أن صاحب النيابة الشرعية" هو الأب الراشد والأم الراشدة في حالة عدم وجود الأب أو فقدانه للأهلية.