حكيم وردي: خفة السياسة وثقل القوانين

يستمد القضاة حقهم في التعبير من المادة 111 من الدستور والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ولا سيما مبادئ بانغالور، التي أضعها بالمناسبة رهن إشارة زميلنا المحامي عبد الصمد الإدريسي للاطلاع على متنها وشروحاتها كما صاغها رؤساء المحاكم العليا وكبار قضاة العالم الحر، عساها ترفع عنه الجهالة وتخرجه من الضلالة هو وصحبه ليراجع أسلوب "تشكامت" الرخيص وتكرار اتهامي بممارسة السياسة (مثلما كان يُتهم الوطنيون زمن الحماية) الذي دأب على استعماله مؤخرا في الرد على ما أتداوله من أفكار كمواطن أولا، وكجمعوي مهتم بمنظومة العدالة باعتباري جزء منها ثانيا.

أما صفتي القضائية كنائب للوكيل العام، فلا علاقة لها بما أبديه من آراء وتبقى منحصرة في قاعة المحكمة وأشغال المكتب المنوطة بي إداريا، فبالأحرى أن أنوب في الكلام عن النيابة العامة كسلطة قضائية لها من يتحدث باسمها، ولها رجالاتها المبرزون والمفوهون المترفعون عن الجدال السياسوي الضيق.

لذلك، أقول لزميلي عبد الصمد الإدريسي ولغيره إنه لا يليق بنا كحقوقيين أن نصادر حق القضاة في التعبير مهما كان صوتهم مزعجا، وإنني قبل أن أكون قاضيا فأنا مواطن تخنقه الوصاية ولا تنال منه الوشاية، يغرد حرا في السماء مثلما كان قبل أن يرتدي جبة القضاء، ولي مقالات منشورة منذ أكثر من ربع قرن؛ لذلك أترفع عن الرد على ذ. الإدريسي عندما يستصغرني أمام ملفاته الكبرى، ويستخف بي كقلم مأجور لجهة رسمها في مخيلته واستأثر بعلمها لوحده، وأكتفي بشكره لأنه دعاني إلى الجواب عندما اعتبر أن ردي فج ومبتذل على إشكالية قانونية تورط فيها قاضي التحقيق بفاس.

علما أن الاهتداء في هذا الرد السريع بمقتضيات القانون وأحكام القضاء، غايته الرفع من مستوى النقاش القانوني الرصين، والابتعاد عن خفة رجل السياسة التي طمست هوية ذ. الإدريسي كمحام جدير به أن يناقش القانون، دون أن يعد ذلك تعليقا على قضية معروضة أمام القضاء حسبما حسم ذلك شراح مبادئ بانغالور الذين ألحوا على وجوب مشاركة القضاة في النقاش العمومي حول قضايا قانونية بشكل أكاديمي، مع الاقتصار في النقاش على الجانب الإجرائي الصرف دون المساس بقرينة البراءة.

أولا: شرود قانوني وتقصير إجرائي

من المعلوم في القانون بالضرورة أن قاضي التحقيق ليس محكمة موضوع لتلقي الطلبات والدفوع، وأن دوره ينحصر في جمع الأدلة عن الجرائم وليس له أن يعمل على تقدير قيمتها، لأن ذلك من صميم سلطة قضاء الحكم (قرارات محكمة النقض، المجلس الأعلى سابقا، غير منشورة تحت عدد 51 بتاريخ 13/01/2011 في الملف عدد 13310/6/9/2010، وعدد 2425/7 بتاريخ 27/10/2010 في الملف عدد 01/2010، وعدد عدد 962/5 بتاريخ 20/05/2009 في الملف عدد 19634/6/5/2007)، وأن أمره بالإحالة على غرفة الجنايات لا يقبل سوى الطعن بالنقض مع الحكم الفاصل في الجوهر (المادة 524 من قانون المسطرة الجنائية).

لذلك، يبدو مستغربا التعبير عن الاستنكار في مواجهة القرار بالإحالة في قضية آيت الجيد (الذي للإشارة أصبح متاحا بعدما رفعت السرية عن ملف التحقيق) والحال أن الدفوع المؤسسة على المادتين 4 و369 من ق م ج وغيرها من الأسانيد (بعضها جاء في تدوينة معالي السيد وزير الدولة في حقوق الإنسان ذ. مصطفى الرميد، والبعض الآخر جاء في بيان الأمانة العامة للحزب، ولفريقه البرلماني...) قدمها دفاع المتهم بمقتضى مذكرة أمام قاضي التحقيق ملتمسا منه عدم قبول الشكاية المباشرة، فأصدر قاضي التحقيق أمره بقبول الشكاية المباشرة اعتمادا على المادة 95 ق م ج، وبلغه إلى دفاع المتهم الذي استأنفه خارج الأجل القانوني المنصوص عليه في المادة 223 من ق م ج (الثلاثة أيام الموالية ليوم تبليغ الأمر للمتهم طبقا للمادة 220 ق م ج)، فلم تجد الغرفة الجنحية بدا من الحكم بعدم قبول الاستئناف.

وإذا كان لا يعنيني التساؤل حول كيف لقضية بهذه الأهمية عند أصحابها أن يرتكب فيها هذا الإهمال الإجرائي الخطير ويستأنف أمر قاضي التحقيق خارج الأجل القانوني، فإن الإشكالية القانونية المهمة والجديرة بالمناقشة من طرف المتخصصين هي مدى جواز التقدم بالملتمسات ذاتها بالأسانيد القانونية والواقعية ذاتها أمام غرفة الجنايات في شكل دفوع شكلية، والحال أنه صدر قرار بخصوصها عن قاضي التحقيق وقالت الغرفة الجنحية كلمتها في شأنه بمقتضى قرار هو الآخر لا يقبل الطعن بالنقض منفصلا عن الحكم الصادر في الجوهر. علما أن نتيجة الطعن تبدو معروفة لكون الاستئناف كان خارج الأجل.

وبمعنى آخر، هل يمكن استحضار مقتضيات المادة 227 من قانون المسطرة الجنائية على سبيل القياس الجائز بالنسبة لقانون الشكل للقول بعدم قبول إثارة ما سبق إثارته أمام قاضي التحقيق وشمله قرار الغرفة الجنحية؟

ولضيق المقام عن تفصيل الكلام في الإشكال، ولكون منتقدي قرار قاضي التحقيق بفاس، زميلنا الأستاذ الطويلب، جزء منهم أعضاء في الحكومة وجزء في البرلمان، أكتفي في الجواب بالإحالة على الأعمال التحضيرية للمسطرة الجنائية التي تضمنت رد الحكومة بمناسبة مناقشة المادة 227 ق م ج في البرلمان، عندما أوضح ممثلها أنه لا مجال لمناقشة أعمال قاضي التحقيق أمام هيئة الحكم، والحال أن القضية عرضت على الغرفة الجنحية، وكان هناك المجال الواسع للطعن ببطلان إجراءات التحقيق، وأنه يتعين أن تنصب المناقشات أمام هيئة الحكم بعد الإحالة على جوهر القضية، لا على إجراءات التحقيق (تقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب، الجزء الأول ص 185 وما بعدها). وهو نفسه موقف المشرع الفرنسي (ميلود الحمدوشي: بطلان إجراءات التحقيق).

وعلى هذا الأساس، فإن التعبير عن الاستياء والاندهاش يبقى مجرد حالة شرود قانونية في تتبع المتذمرين لملفهم واستيعاب إجراءاته القانونية الصرفة التي لا النيابة العامة ولا قاضي التحقيق يعدان طرفا فيها، مادام أنه انطلق بشكاية مباشرة تقدمت بها عائلة الضحية في إطار المواد 92 وما يليها من قانون المسطرة الجنائية، وأن الذي يقيم الدعوى العمومية في الشكاية المباشرة ليست النيابة العامة ولكن الطرف المتضرر (الفقرة 3 من المادة 3 ق م ج).

ومادام الأستاذ عبد الصمد الإدريسي وصحبه اختاروا التقييم والقدح في عمل قاضي التحقيق خارج أسوار المحكمة، فلا بأس أن نذكرهم بأن قراءة سريعة للجانب الشكلي لملف القضية الذي لم يعد سريا بعد الإحالة على غرفة الجنايات تثبت أن هناك تقصيرا جسيما من جانبهم في تتبع إجراءاتها مسطريا وربما كانوا يعولون على الضغط والثقل الحزبيين لمعالجتها، بدليل استئنافهم لقرار قاضي التحقيق في ما يعتبرونه دفوعا جدية خارج الأجل القانوني، وهي واقعة يعرف الأستاذان المحترمان مصطفى الرميد وعبد الصمد الإدريسي، بصفتهما محاميين، أنها تشكل خطأ موجبا للمساءلة التأديبية مهنيا وللتعويض عن التقصير مدنيا.

فماذا إذن عن الدفع بقوة الشيء المقضي والتقادم طبقا للمادة 4 من قانون المسطرة الجنائية وعدم جواز المحاكمة عن فعل واحد مرتين طبقا للمادة 369 من قانون المسطرة الجنائية؟

ثانيا: حجية الأمر المقضي: ضعف القراءة القانونية والقفز على مستجدات القضية

تسمح قراءة الأمر بالإحالة باستنتاج عدم جدية الدفع بالتقادم تأسيسا على المادة 6 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على انقطاعه بكل إجراء من إجراءات التحقيق أو المحاكمة، ويسري هذا الانقطاع كذلك حتى بالنسبة للأشخاص الذين لم يشملهم إجراء التحقيق أو المتابعة أو المحاكمة. وعليه، فحتى ولئن ارتكبت الأفعال في سنة 1993، إلا أن إجراءات المحاكمة عنها بالنسبة لمجموعة من المساهمين مازالت رائجة إلى حد اليوم أمام غرفة الجنايات بفاس؛ لذلك قد يصلح ترديد الدفع بالتقادم شعارا للاحتجاج في البيانات الصحافية والبلاغات الحزبية، ولكنه أهون من أن يسقط الدعوى العمومية.

وإذا كان من المعروف أن مناط حجية الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي كسبب مسقط للدعوى العمومية عملا بالمادة 4 من قانون المسطرة الجنائية تشترط وحدة في الخصوم والموضوع والسب، فإنه للقول باتحاد السبب ينبغي أن تكون الواقعة الإجرامية المعروضة على المحكمة من جديد اليوم هي نفسها بأركانها المادية وتكييفاتها القانونية كما سبق أن عرضت بالأمس على محكمة أصدرت فيها حكما اكتسب قوة الشيء المقضي به باستنفاد طرق الطعن العادية.

ومع التسليم بضيق المجال عن تفصيل الكلام في النقاش الذي دار بين الفقه الجنائي بخصوص المقصود بعبارة "نفس الأفعال"، فإن الأمر في نازلة الحال محسوم، فما فصل فيه الحكم الجنائي سنة 1993 هو وقائع تتعلق بجنحة المشاجرة نتج عنها وفاة طبقا للفصل 405 من القانون الجنائي، وأطرافها النيابة العامة والمتهم. أما الوقائع موضوع الشكاية المباشرة ومعها الأمر بالإحالة، فتتعلق بالمساهمة في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد طبقا للفصول 128-392-393-394 من القانون الجنائي، والخصوم فيها هما الطرف المدني كمحرك الدعوى العمومية والمتهم. واضح إذن أن شروط الدفع بقوة الشيء المقضي غير مستجمعة على الأقل بالنسبة للوقائع والأطراف. أما الموضوع، فدائما متوفر مادام أن الغاية كما يقول الفقه هي العقاب.

وبصرف النظر عن كون قرار الحفظ المتخذ من طرف السيد الوكيل العام للملك لدى استئنافية فاس سنة 2012 وقرار قاضي التحقيق بعدم فتح تحقيق سنة 2013 لا يعتبران حكما حائزا لقوة الشيء المقضي ولا سببا ماسا بالدعوى العمومية كمانع من فتح تحقيق طبقا للمادة 93 فق3 من قانون المسطرة الجنائية، فإن ذلك لا ينفي أن مشروعية تعليلهما آنذاك كانت مؤسسة قانونا، ولا أحد قال بتدخل الأستاذ مصطفى الرميد من موقعه كوزير للعدل فيما انتهت إليه، ولست أدري كيف اختلط الأمر على الزميل عبد الصمد الإدريسي عندما ملأ الغل قلبه وانطمست بصيرته فواصل حملته الاستعدائية ضدي محرفا الكلم عن مواضعه، وناسبا إلي تهمة القذف في حق ذ. مصطفى الرميد الذي لا خلاف لنا مع شخصه المحترم ولكن مع تدوينته التي أضحت بنشرها في الفضاء الأزرق مشرعة على النقاش العمومي الحر والمسؤول.

ولا أعتقد أن مناضلا حقوقيا ووزيرا سابقا للعدل والحريات ووزيرا حاليا للدولة في حقوق الإنسان سيشرفه ما يشيعه زميله ذ. عبد الصمد الإدريسي من ترهيب وتهديد بالإحالة على مقاصل التأديب، ومصادرة الحق في الاختلاف. مع التذكير، كشهادة للتاريخ، أنه وفي عز التجاذب مع الأستاذ الرميد كوزير للعدل والحريات، كتبت مقالات عديدة أنتقد بعضا من قراراته في صفحة نادي قضاة المغرب على فيسبوك تحت عنوان وحي القلم، ولم يصلني منه كوزير أي تهديد أو عتاب، وعندما جرى تهديده من طرف قوى إرهابية ورغم الاختلاف كتبت مقالا تحت عنوان (مع الرميد ضد الإرهاب)؛ لذلك يجدر بزميلنا عبد الصمد الإدريسي أن يتحلى بالنزاهة الفكرية عند التعقيب، وأن يرقى إلى مستوى مناقشة الأفكار في حد ذاتها بدل التفتيش عن خلفياتها.

أرجع للقول إن قرار الحفظ سنة 2012 وعدم فتح تحقيق سنة 2013 مبرران قانونيا وواقعيا، لكون شهادة السيد الخمار المؤداة بعد يمين قانونية أمام جهة قضائية لم تكن مطروحة على القضاء سنة 1993 بتفاصيلها، ولم يقع الإدلاء بها حسب الأمر بالإحالة إلا سنة 2016 بمناسبة قضية ما زالت رائجة أما غرفة الجنايات، مثلما جرى تأكيد الشهادة نفسها عند الاستماع إليه من جديد من طرف قاضي التحقيق وأثناء مواجهته مع المشتكى به، فكانت شهادته دليلا كافيا على الإحالة، ولا يمكن لأي قاض للتحقيق في العالم أن يستبعدها كدليل أو يقيمها كوسيلة إثبات (انظر قرارات محكمة النقض أعلاه)، ولو كتب لزميلنا ذ. الإدريسي شرف ارتداء جبة القضاء وعرض عليه الملف بوقائعه ووسائل الإثبات التي ضمنت به، لما كان قراره غير الإحالة على غرفة الجنايات.

وقد يقول قائل إنه رغم ذلك، لا يجوز محاكمته من جديد تأسيسا على المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية.

نبادر بداية إلى التعبير عن الاندهاش من استشهاد أنصار سبقية البت في ملف الحال بمقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية، علما أنها لا تنطبق على المشتكى به الذي لم يسبق له أن استصدر حكما بالبراءة أو الإعفاء. في حين إنها وبمفهوم المخالفة تسمح بمتابعته وإحالته، وهو ما استدل عليه بمهنية عالية زميلنا ذ. الطويلب في حيثيات أمره بالإحالة.

والواقع أن قرار السيد قاضي التحقيق الذي اتهمه السطحيون بالاجتهاد الأخرق، يبقى مؤيدا بالعديد من قرارات محكمة النقض الفرنسية المنشورة لمن أن أراد أن يطلع أو يلقي السمع وهو شهيد، من بينها على الأقل ثلاث قرارات أكدت أن ليس هناك ما يمنع من المتابعة من جديد عن القتل العمد رغم سبقية الحكم من أجل القتل الخطأ متى ظهرت أسباب وأدلة جديدة لاحقة تثبت أن موت الضحية ناتج عن فعل عمدي للمتهم دون أن يشكل ذلك ضربا لمبدأ عدم جواز المحاكمة عن الفعل الواحد مرتين (قرارات الغرفة الجنائية لمحكم النقض الفرنسية منشورة بالمجلة الجنائية ومجموعة داولوز تحت المراجع التالية: Cass.crim.25 mars 1954.Bull.121/ cass.crim.19 mai1983.Bull.121/ d 1984.51).

وتبقى قضية الدم الملوث (affaire du sang contaminé) التي عرفتها المحاكم الفرنسية أبرز مثال على الاستدلال بإمكانية المتابعة، بل والاعتقال من جديد عن فعل سبق أن صدر فيه حكم نهائي، ولكن بوصف جديد منسجم والمعطيات الجديدة التي ظهرت بعد صدور سابق الحكم بالإدانة، دون أن يلقي لا قاضي التحقيق الفرنسي ولا غرفة المحكمة النقض الفرنسية بالا للدفع بسبقية البت وحجية الأمر المقضي وعدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل مرتين، بل وعرض الدكتور Michel GARRETTA (الذي حوكم بداية وأدين بقرار نهائي من أجل الغش تم تقدم الضحايا من جديد بشكاية مباشرة أمام قاضي التحقيق من أجل التسميم، فاعتقل على إثرها وظل متشبثا طيلة مرحلة التقاضي التي دامت حوالي عشرين سنة، يوليوز 1994 يونيو 2003، بسيقية البت، وقوة الحكم المقضي، وعدم جواز المحاكمة مرتين) قضيته على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في مواجهة القضاء الفرنسي الذي خرق المادة 4 من البروتكول السابع التي تنص على مبدأ عدم جواز الحكم عن فعل واحد مرتين، فأصدرت المحكمة الأوروبية قرارها المنشور على موقعها في الأنترنيت في القضية عدد 2529/04 بتاريخ 04 مارس 2008، برفض الطعن بعدما شرحت بتفصيل المبدأ المعروف لاتينيا بـ non bis in idem والمقصود بعبارة الوقائع التي سبق البت فيها، وأوجه الاختلاف بين الجنحة الصادر فيها حكم سابق والجناية موضوع المتابعة الجديدة، والمصالح القانونية المحمية من خلال كلا المتابعتين.

وأنصح زميلنا عبد الصمد الإدريسي وصحبه بالاطلاع على هذا القرار للاستفادة من ثرائه القانوني وسخائه المعرفي. علما أن محكمة النقض المغربية (المجلس الأعلى سابقا) سبق أن اعتبرت في قرار لها أن المحكمة لما قضت بعدم قبول المتابعة بناء على كون المتهم سبق أن توبع من أجل الوقائع نفسها كما هو ثابت من الحكم القضائي، دون أن تبين أن نوع الجريمة يكون قضاؤها ناقص التعليل (قرار رقم 6816 بتاريخ بتاريخ 26/07/1990، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 46 ص 273).

وأكيد أن فقه المسطرة الجنائية المغربي، وهو يناقش الدفع بقوة الشيء المقضي ومقتضيات المادة 369 من ق م ج، سيقف على القرار المؤسس لزميلنا ذ. الطويلب الذي رسخ المبدأ المعروف في القضاء المقارن من أن ظهور أدلة جديدة للإثبات عن واقعة جرمية لم يحاكم المتهم من أجلها بالبراءة أو الإعفاء، لا يمكن الدفع للإفلات من العقاب عنها بالمادة 4 أو 369 من قانون المسطرة الجنائية.

ومن جامع ما سبق، نهمس في أذن كل من هب للنفير في مواجهة قرار قضائي في ملف كباقي الملفات بالقول إن الدفاع عن استقلال القضاء واحترام قراراته عقيدة وجدانية راسخة ينبغي أن يعكسها سلوك متمدن وتسندها ممارسة فعلية،... فما من شخص يحق له أن يكون قاضيا في دعواه الخاصة.

كما لا يفوتني في الأخير أن أوجه التحية لزميلي الأستاذ عبد الصمد الإدريسي الذي أخرجتني تدويناته بعدوانيتها المستفزة من روتين عطلة قصيرة أقضيها كالعادة مستمتعا بتفاهتي تارة في البيت بين صغاري، وتارة أخرى على رصيف المقاهي صحبة أصدقائي، ودفعتني إلى خوض نقاش قانوني صرف بصفتي مواطنا، جمعويا، وقبل ذلك باحثا في صف الدكتوراه. أما صفتي القضائية كنائب للوكيل العام، فسرعان ما أنساها بمجرد أن تتخطى قدماي عتبة المحكمة.

وإن عدتم عدنا.

*عضو المكتب الجهوي لنادي قضاة المغرب بالدار البيضاء رئيس تحرير مجلته القانونية باحث في صف الدكتوراه