تحليل

كماشة التطرف تطبق على المجتمع

سعيد الكحل

نشر عدد من أصحاب المخابز على واجهة محلاتهم إعلانات يخبرون فيها المواطنين بقرار امتناعهم عن توفير الحلوى للاحتفال برأس السنة الميلادية. هذا الموقف له أبعاد خطيرة على الدولة والمجتمع والمواطنين؛ فهو لا يدخل في حرية التعبير أو حرية المبادرة حتى يمكن التساهل معه أو التغاضي عنه، بل هو تحريض خطير على الكراهية. ويمكن التنبيه إلى الأبعاد الخطيرة التالية على سبيل التذكير:

1ــ البعد الأول يعكس مدى تغلغل عقائد التحريم والتكفير واختراقها لبنيات المجتمع الدينية والثقافية وذهنيات المواطنين. وهذا نتيجة مباشرة لاستراتيجية أسلمة المجتمع التي تعتمدها التنظيمات الإسلامية منذ نشأتها. نعلم جميعا أن هذه التنظيمات على اختلاف أطيافها تعتبر المجتمع "جاهليا" منحرفا عن الدين وخارجا عن تعاليمه وتشريعاته. من هنا ركزت وتركز على تغيير أفكار المواطنين وتصوراتهم ومفهومهم للدين وللآخر وللدولة وللاحتفال بالمناسبات، خاصة العالمية.

ومن مظاهر هذا الاختراق تحريم الاحتفال برأس السنة الميلادية، لكن أن ينتقل التحريم إلى الامتناع عن صناعة حلوى رأس السنة وتقديمها للمواطنين، فهذا تطور خطير على مستوى السلوك وخرق القوانين؛ إذ لم يعد التحريم قناعة شخصية تلزم صاحبها، بل صار اعتداء على القانون وعلى حقوق وحريات الآخرين وحرمانهم من الخدمات التي تسمح لهم بالحصول على عناصر الاحتفال وشروطه.

أكيد أن التنظيمات الإسلامية تتغلغل وسط الحرفيين والتجار أساسا لما توفره هذه الفئات من عناصر تكوين قوة سياسية ضاربة (خزان انتخابي مهم، جيش احتياطي تستعرض به قوتها في المظاهرات والمسيرات...)، ومصدر مالي مهم (التجار يوفرون موارد مالية قارة لدعم وتمويل التنظيمات الإسلامية)؛ وقد يتحول التجار، في مرحلة ما، إلى أداة اقتصادية لابتزاز الدولة سياسيا عبر شن سلسلة من الإضرابات خدمة لأجندات سياسية محدد.

2 ــ البعد الثاني يمس خطره هيبة الدولة وسلطة القانون؛ ذلك أن الامتناع عن تقديم الحلوى للمواطنين بدافع عقدي هو إخلال بالتزامات صاحب المخبزة وبمسؤوليته تجاه المواطنين والدولة معا. فالرخصة التي سلمتها له السلطات المحلية لم تسلمها له على أساس عقدي، بل طبقا للقانون الجاري به العمل وهو قانون مدني لا يسمح بخرقه. وإذا تسامحت الدولة مع هذه الخروقات القائمة على أساس عقدي، فإنها تشجع أطرافا أخرى على اعتماد النهج نفسه.

هكذا سنجد مثلا أصحاب مقاهي يعلنون للعموم أنهم لا يقدمون خدمات للنساء غير المحجبات مثلا، كما سنجد صيدليات تمتنع عن بيع أنواع من الأدوية المصنوعة من حيوانات محرمة. وستتسع الموجة لتشمل وسائل النقل العمومي بحيث يمتنع سائق التاكسي من تقديم الخدمة لفئة من المواطنات، وكذلك الشأن بالنسبة لأصحاب المهن والأنشطة المختلفة الأخرى إلى أن تستفحل في المجتمع ظاهرة التمييز بين الزبناء والمواطنين على أساس إيديولوجي.

إن الدولة مسؤولة عن تطبيق القانون وفرض الالتزام به، ومن أخلّ بالقانون تتم معاقبته، وليس أقلها في حالة أصحاب المخابز إياها سحب الرخصة.

إننا في مجتمع متشبع بثقافة التسامح عبر تاريخه، ويشهد تجاور المساجد والكنائس في المدن عن قيم التعايش والتسامح بين المغاربة من مختلف الديانات، وبينهم وبين الأجانب. وكل تساهل مع هذه الانحرافات القائمة على الكراهية والتطرف سيفتح أبواب الفتن الطائفية والمذهبية على المجتمع المغربي، مما سيؤدي إلى تفتيت وحدته وتمزيق نسيجه، وتلك هي غاية التنظيمات الإسلامية.

3 ــ البعد الثالث لهذا الخطر يتمثل في تحريم مظاهر الاحتفال وإدخال الفرحة إلى البيوت وتأثيرها على نفسية الأفراد، خاصة الأطفال الذين سيتربون في جو أسري يغشوه النكد والكراهية وتهجره الفرحة ومشاعر الابتهاج. فالمواطن الذي يربي أبناءه على الكراهية سيزرع فيهم ميول العنف سرعان ما تتحول إلى سلوكات عدوانية ضد المجتمع والدولة، وأقصاها الانخراط في الأنشطة الإرهابية. فكلما اتسعت دائرة التحريم (تحريم الفنون، الاحتفالات، الترفيه...) أطبق الانغلاق والتعصب على الأفراد والأسر.

لا شك أن إعلان عدد من أصحاب المخابز امتناعهم عن توفير حلوى رأس السنة ليس أمرا عاديا وبسيطا يمكن التغاضي عنه، بل هو الشجرة التي تخفي مخاطر التطرف التي تنخر المجتمع. فهو مقدمة لمخاطر شتى إن لم تتصد لها الدولة في مهدها ستكون لها تبعات تهدد وجود الدولة نفسها. ولتستحضر الدولة أن المخطط يبدأ من الامتناع عن بيع حلوى رأس السنة إلى تهديد من سيبيعها. وكم سيكفي الدولة من رجال الأمن لتوفير الحراسة للمخابز والحماية لأصحابها؛ فالذي تسهل عليه التضحية بالأرباح المهمة التي يجنيها من صنع وبيع حلويات رأس السنة، يسهل عليه التضحية بأمور أخرى. فحتى القرآن الكريم جعل التضحية/الجهاد بالمال سابق عن الجهاد/التضحية بالنفس. وأصحاب المخابز هؤلاء يعتبرون أنفسهم "مجاهدين".