قضايا

الحوار الاجتماعي والحماية الاجتماعية

عبد الرحيم الرماح

بعد نضالات وتضحيات كبيرة تم إقرار القانون الاجتماعي بهدف تحقيق التوازنات الاجتماعية والاقتصادية والسلم الاجتماعي، والذي يتكون من قانون الشغل الذي ينظم العلاقات بين الأجراء والمشغلين، والحماية الاجتماعية التي تهتم باستكمال الحاجيات الأساسية والضرورية للأجراء، دون أن ننسى التذكير بأن هذه النضالات والتضحيات ساهمت بقدر كبير بل كان لها الدور الحاسم فيما تحقق من مكتسبات في مجالات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

وقد تطرقت في المقالات السابقة حول الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية إلى ست قضايا تتمثل في حماية ممارسة الحق النقابي - حق المفاوضة الجماعية - تطبيق تشريع الشغل - الملاءمة بين الأجور والأسعار - حق الشغل – والحق في الحماية الاجتماعية.

موضوع هذا المقال اعتمدت فيه هذه المنهجية نظراً للأزمة التي دخلها الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية منذ 2011 إلى الآن بعد أن تراكمت هذه القضايا دون أن يتم إيجاد الحلول لها، وهو ما يتطلب الوقوف على كل واحدة منها على حدة من جوانبها المختلفة، ولكون الحماية الاجتماعية تشكل نصف المعادلة من القانون الاجتماعي.

فقد نصت المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في فقرتها الأولى على أنه لكل شخص "الحق في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة أو غير ذلك نتيجة الظروف الخارجة عن إرادته التي تفقده أسباب عيشه". كما نصت المادة 22 من الإعلان نفسه على أنه "لكل شخص بوصفه عضوا في المجتمع الحق في الضمان الاجتماعي"، ونصت المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أن الدول الأطراف في هذا العهد تقر "بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي، بما في ذلك التأمينات الاجتماعية".

وقد صدرت عن منظمة العمل الدولية العديد من القوانين والاتفاقيات الدولية في الموضوع، منها الاتفاقية الدولية رقم 102 بشأن المعايير الدنيا للضمان الاجتماعي التي صدرت في سنة 1952.

كما صدرت عن منظمة العمل العربية الاتفاقية رقم 3 سنة 1971 بشأن المستوى الأدنى للتأمينات الاجتماعية.

وينص الفصل 31 من الدستور المغربي على أن: "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في:

- العلاج والعناية الصحية.

- الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة.

- الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة.

- التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة.

- التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية.

- السكن اللائق.

- الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي.

- ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق.

- الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة.

- التنمية المستدامة".

ولتنظيم هذا الحق، تم إصدار العديد من القوانين ذات العلاقة بالموضوع حسب كل مجال من المجالات.

وخلال المراحل الأخيرة، تم القيام بعدة مبادرات حول الحماية الاجتماعية، منها:

- خطاب العرش الذي يعد بمثابة خارطة طريق لكونه تطرق إلى الموضوع من مختلف جوانبه.

- تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي رقم 34 الصادر سنة 2018.

- تقرير المناظرة الوطنية الأولى للحماية الاجتماعية التي نظمت من طرف الوزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالشؤون العامة والحكامة بالصخيرات يومي 12 و13 نونبر 2018.

- المنتدى البرلماني الرابع للحماية الاجتماعية بالمغرب المنظم من طرف مجلس المستشارين بشراكة مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وبتعاون مع مؤسسة وستمنستر للديمقراطية ومؤسسة كونراد أديناور، تحت شعار: "الحماية الاجتماعية بالمغرب: الحكامة ورهانات الاستدامة والتعميم"، يوم 20 فبراير 2019.

ويمكن الرجوع إلى هذه التقارير والتوصيات لما لها من أهمية فيما يمكن أن يتم القيام به مستقبلا من خطوات وتدابير.

كما يمكن من خلال الحوار الاجتماعي والمفاوضة وضع خارطة طريق يتضمنها الاتفاق الاجتماعي الخامس تشمل كل القضايا الست التي أشرنا إليها في المقالات السابقة مع تكوين لجان ثلاثية تتابع هذه المواضيع مع الجهات الإدارية المسؤولة، ومنها لجنة خاصة بالحماية الاجتماعية، على أن يتضمن هذا البرنامج فيما يخص الحماية الاجتماعية التدابير والإجراءات التالية:

- دمقرطة جميع المؤسسات الاجتماعية وتوسيعها لتشمل جميع المجالات.

- إصلاح القطاع التعاضدي.

- إيجاد حل لصناديق التقاعد.

- إصلاح الصندوق الخاص للتعويض عن فقدان الشغل.

- إصلاح القانون رقم 12-18 المتعلق بحوادث الشغل بما يحمي حقوق العمال، وإصلاح ظهير 31 ماي 1943 حول الأمراض المهنية حماية لحقوق العمال، مع الأخذ بعين الاعتبار الرأي الاستشاري للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في الموضوعين معا.

- تطبيق القانون المتعلق بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

وأهم ما يجب القيام به يتمثل في تعميم التصريحات لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وإزالة التلاعبات التي تعرفها حيث أصبحت ثلث التصريحات فقط سليمة والثلثان الآخران غير سليمين، مما يشكل خطورة على الاستقرار في العمل، فنسبة كبيرة من المشغلين يصرحون فقط ما بين 16 إلى 18 يوما في الشهر، وكل عامل طالب بسلامة التصريحات يكون مصيره الطرد من العمل.

وكخطوة أولى يجب القيام بتشخيص الأوضاع بمختلف القطاعات المهنية ومن خلال ذلك يتبين حجم الاختلالات والتجاوزات التي يعرفها هذا المجال. وفي هذا الإطار، سأستعرض قائمة لعدة قطاعات على سبيل المثال لا الحصر مع إبداء ملاحظات حولها على الشكل التالي:

القطاع غير المهيكل:

يلعب هذا القطاع دورا خطيرا في هضم حقوق الأجراء ويضر بالمقاولات التي تطبق القانون وجل مؤسساته تحقق أرباحا كبيرة وإن كان هناك نسبة كبيرة من مؤسساته تعرف ظروفاً اقتصادية صعبة، غير أن تطبيق القانون يخدم مصلحة الجميع وليس العكس.

القطاع الفلاحي:

يشغل هذا القطاع عدداً كبيراً من الأجراء غير أن نسبة كبيرة من المشغلين يتهربون من تطبيق قانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي رغم أهمية الحماية الاجتماعية بالنسبة لهذا القطاع لأن العمال يتقاضون أجوراً هزيلة لا تكفي لتغطية حاجيات العيش، وما زال لم يتم تنفيذ ما ينص عليه اتفاق 26 أبريل 2011 بتوحيد الحد الأدنى القانوني للأجر بين القطاعين الفلاحي والصناعي.

قطاع النقل:

يشغل نسبة كبيرة من المواطنين، بما في ذلك الأجراء أو المهنيون العاملون لحسابهم الخاص الذين يقدرون بحوالي 600.000، ومنذ التوقيع على اتفاق شراكة بتاريخ 21 فبراير 2011 بين وزارة الداخلية ووزارة التجهيز والنقل ووزارة التشغيل والتكوين المهني والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والهيئات المهنية والنقابية، تضمن الالتزام بإحداث نظام خاص للتغطية الاجتماعية تشمل جميع مهنيي النقل الطرقي غير الأجراء، إلا أن الوضعية ظلت على ما هي عليه، وبعد الدراسة التي تم إنجازها من طرف وزارة الشغل والإدماج المهني لهذه الغاية، غير أن الوضعية ما زالت على ما هي عليه رغم مرور ثماني سنوات على توقيع هذا الاتفاق؛ إذ ما زال جل العاملين بهذا القطاع، أجراء أو مهنيين غير أجراء، لا يستفيدون من التغطية الاجتماعية.

قطاع التعليم الخصوصي:

يعرف هذا القطاع توسعا كبيرا غير أن نسبة كبيرة من مؤسساته لا تطبق تشريع الشغل على الوجه المطلوب، وهو أمر غير مقبول وليس من الصعوبة إيجاد الحلول لهذه الوضعية لكون هذا القطاع يتوفر على المؤهلات التي تجعله قادرا على تعميم الحماية الاجتماعية على جميع العاملين به إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية لدى الجهات المسؤولة والوصية على هذا القطاع.

قطاع المقاهي والمطاعم:

رغم التوسع والتقدم اللذين يعرفهما قطاع المقاهي والمطاعم كمّا وكيفا، إلا أن جل العاملين به لا يستفيدون من التغطية الاجتماعية على الوجه المطلوب، ويمكن إذا ما تم تطبيق القانون، وهو أمر ممكن وقابل للتحقيق دون أية صعوبة، تحقيق استفادة جميع العاملين به من جميع الخدمات التي يقدمها ص. و. ض. ج. بما في ذلك التغطية الصحية والتعويضات العائلية والتقاعد.

قطاع الصناعة التقليدية:

يلعب قطاع الصناعة التقليدية دورا أساسيا في الاقتصاد الوطني، سواء من حيث عدد العاملين به أو من حيث علاقته بهويتنا الوطنية وبالموروث الثقافي، وهو ما يتطلب أن تعطى له أهمية خاصة، علما أن نسبة كبيرة من الحرفيين لا يستطيعون أداء مستحقات الضمان الاجتماعي، وهو ما يستدعي التعامل معهم بنوع خاص يختلف عن باقي فئات العاملين، وبالأخص الذين ينتمون لقطاع الصناعة التقليدية ذات الحمولة الفنية والثقافية (مثل الدرازة والخرازة والنجارة التقليدية والزليج البلدي ومن يماثلهم).

قطاع البناء:

هذا القطاع الذي رغم اتساعه ورغم أن نسبة كبيرة من مقاولاته تحقق أرباحا محترمة، فإن جل العاملين به لا يستفيدون من الحماية الاجتماعية؛ إذ إن غالبيتهم لا يصرح بهم لدى ص. و. ض. ج. وحتى الذين يصرح بهم لا يستفيدون من التقاعد لكون التصريحات لا تصل إلى المستوى الذي يمكنهم من الاستفادة من هذا الحق.

قطاع الصيادلة:

هذا القطاع يشغل حوالي 44.000 مساعد ومساعدة موزعين على أزيد من 10.000 صيدلية غير أن نسبة كبيرة منهم لا تطبق عليهم قوانين الحماية الاجتماعية على الوجه المطلوب، خاصة وأن الأجور التي يتقاضونها في غالب الأحيان لا ترقى إلى مستوى تغطية حاجيات العيش رغم أن جلهم يتوفرون على شواهد عليا ومؤهلات كبيرة.

قطاع الصناعات الغذائية:

يعاني هذا القطاع هو الآخر من مشكل انعدام توحيد التكلفة بين جميع مؤسساته، فهناك من يحترم قانون ص. و. ض. ج. وهناك ومن لا يحترمه مما يخلق صعوبات كبيرة بالنسبة للمؤسسات التي تطبق القانون.

قطاع المقاولات الكبيرة والمتوسطة:

مع الأسف، بدأت عملية التلاعب في التصريحات تمتد إلى المقاولات الكبيرة والمتوسطة، وهو مؤشر خطير على ما أصبح يعرفه هذا المجال من سلوكات مجانبة للصواب، ويعود سبب ذلك إلى استفحال واتساع ظاهرة عدم تطبيق القوانين الاجتماعية، ويبرر ذلك بعض من يقومون بهذه الممارسات بحدة المنافسة بين الذين يطبقون القانون والذين لا يطبقونه.

تمديد الحماية الاجتماعية إلى المهنيين والعاملين لحسابهم الخاص:

ومن أجل الإسراع بتمديد الحماية الاجتماعية إلى المهنيين والعاملين لحسابهم الخاص يتطلب تعميم الحماية الاجتماعية على الأجراء لما لذلك من علاقة تبدو واضحة خاصة في بعض القطاعات، ومنها قطاع النقل وقطاع الصناعة التقليدية والقطاع التجاري وغيرها بشكل متفاوت، كما يتطلب الإسراع بعقد اجتماعات وتنظيم لقاءات مع ممثلين عن مختلف القطاعات المهنية والعاملين لحسابهم الخاص حتى لا يتكرر ما وقع بالنسبة لقطاع النقل حيث ظلت الوضعية متوقفة على ما هي عليه منذ ما يفوق ثماني سنوات.

وبالعودة إلى الفئة النشيطة المأخوذة عن ص. و. ض. ج. التي يعود مصدرها إلى المندوبية السامية للتخطيط، نجد عدد الساكنة النشيطة 11.830.000.

عدد العاطلين 1.150.000.

الفئة النشيطة العاملة 10.680.000.

عدد الأجراء منها 4.940.000، ضمنهم 3.760.000 في القطاع الخاص، بنسبة 79%، و1.030.000 في القطاع العام، بنسبة 21%، نسبة التغطية 80%.

العاملون غير الأجراء 5.740.000 بنسبة 54% (بدون تغطية).

أهمية تعميم الحماية الاجتماعية على الأجراء والمهنيين:

يتبين من خلال الأرقام التي أشرنا إليها أنه إذا تم تعميم التصريحات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مع ضمان سلامتها من العيوب وتمديد التغطية إلى العاملين لحسابهم الخاص، واعتمدنا القاعدة التقريبية المعتمدة لدى الصندوق عند إدخال ذوي الحقوق باحتساب الفئة النشيطة العاملة 10.680.000 يضاف إليها عضوان من ذوي الحقوق، يصبح عدد الأفراد الذين ستشملهم التغطية الاجتماعية هو 32.040.000، وهو ما يتطلب القيام بالخطوات التالية:

- تكثيف اجتماعات المجلس الإداري للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي نظرا لتركيبته الثلاثية ولما يتوفر عليه من صلاحيات يمكنه أن يوظفها في هذا المجال.

- تفعيل ما تنص عليه المادة 511 من مدونة الشغل بأن يتم الإدلاء بلوائح العاملين الجدد لدى مصالح وزارة التشغيل في المكان الذي وقعت فيه عملية التشغيل.

- إصدار مذكرات توضيحية حسب خصوصية كل قطاع، ومنها على سبيل المثال قطاع المقاهي والمطاعم وقطاع النقل، وكلما اقتضت الضرورة ذلك.

- التنسيق بين مفتشي الشغل ومراقبي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مع وضع برنامج يتضمن التدابير الواجب اتخاذها على كافة المستويات بدءاً بما يمكن القيام به في مجال المراقبة.

- وضع برنامج تحسيسي.

استعمال وسائل الإعلام المرئي والمكتوب والإلكتروني.

إعطاء تفسيرات حول موقف الدين الإسلامي من العمل التضامني ومراميه وأهدافه السامية.

الخلاصة:

كل ما أشرنا إليه إذا ما تم سيمكن من تحقيق الأهداف المطلوبة المتمثلة في:

- إنقاذ عشرات الآلاف من العمال الذين يصلون إلى سن التقاعد ويحرمون منه بسبب انعدام التصريحات أو التلاعب فيها.

- الاستفادة من التعويضات العائلية بالنسبة لجميع العمال المستحقين.

- تخفيض حدة الضغط للمطالبة بالزيادة في الحد الأدنى للأجر مستقبلا خلافا لما هو عليه الحال حاليا.

- تعميم التغطية الصحية على جميع المواطنين المستحقين.

- المساهمة في توفير السلم الاجتماعي والتقليل من نسبة نزاعات الشغل وحماية المقاولات التي تطبق القانون وتقوية الاقتصاد الوطني.

- إعطاء مصداقية للسجل الاجتماعي الموحد المزمع إحداثه.

- بالإضافة إلى ذلك يجب دعم المدرسة العمومية وقطاع الصحة العمومي وقطاع التشغيل، سواء من طرف الدولة بتقوية قطاع الوظيفة العمومية والحفاظ على دورها كمشغل وإلغاء العمل بالعقود، أو القطاع الخاص بأن تقوم المقاولة بمسؤوليتها الاجتماعية.

- كل ما أشرنا إليه يتطلب إنجازه في زمن معقول لما لعامل الزمن من أهمية لكون ذلك قابلا للتطبيق دون صعوبة.