جمال المحافظ: حرب بالتلفزيون زمن التناوب

لاشك أن غالبية من حضر، الاربعاء الماضي بالقاعة الكبرى للمكتبة الوطنية للمملكة بالرباط،  في لحظات تأبين عبد الرحمن عشور، صاحب كتاب " رجل سلطة في الاذاعة"  مدير الإذاعة الوطنية الأسبق، سيسترجع"المعارك" المعلنة والمضمرة بين رجال الداخلية ومحمد العربي المساري ( 1936- 1915) وزير الاعلام في حكومة "التناوب التوافقي" عام 1998  برئاسة عبد الرحمان اليوسفي الكاتب الاول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

وليس سرا القول بأن من أولويات المساري، الذى كان نقيبا  كاتب عام للصحافيين المغاربة، محاولته اعادة رجال السلطة الذين عينوا منذ 1986، على رأس المؤسستين العموميتين، الاذاعة والتلفزة، الى ادارتهم الأصلية وزارة الداخلية" أم الوزارات" على عهد الوزير القوي ادريس البصري، ورغبته الجامحة، في تحقيق فك الارتباط، بين سلطة الداخلية والاعلام(السلطة الرابعة)، باعتبارها علاقة " زواج غير شرعي ".

واذا كان الراحل عشور، قد استطاع طيلة وجوده بالإذاعة الوطنية، لأزيد من عقدين من الزمن، "التعايش" مع " سياسات" أربع وزراء، واستمر يمارس عمله على رأس هذا المرفق العمومي، ويوسع دائرة علاقاته بمكوناته وبمحيطه، الى ما بعد قرار فصل الإعلام عن الداخلية، فإنه أفرد في مذكراته للوزير الراحل محمد العربي المساري،مساحات مهمة، على خلاف الحيز الذى خص به زملائه الوزراء الآخرين الذين جاورهم خلال سنوات مروره بالإذاعة.

ف" رجل السلطة في الاذاعة"، في ظل حديثه عن مرحلة " زمن التناوب" الأولى، عاب على وزير  حزب الاستقلال،عدم استطاعته "الانسلاخ عن جلباب النقابي، وهذا ما جعله يقع في مواقف حرجة"، خلال الفترة القصيرة التي قضاها على رأس الوزارة (من 1998 الى 2000).

ومع مرور "الزمن الوزاري للمساري" - يضيف عاشور- تشجنت العلاقة بين وزير حزب علال الفاسي، ورجال السلطة بالإذاعة والتلفزة، خاصة بعدما شاع الطلب الذى وجهه إلى الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي القاضي بإبعادهم عن المؤسستين الاعلاميتين.

وبعدما لم ينجح مسعى المساري سفير المغرب الاسبق بالبرازيل، هذا، الذى عزاه عشور في مذكراته الى "رفض اليوسفي،بدعوى أن الظرفية السياسية لا تسمح" بذلك ، وأن رغبته لم تلق استجابة من صاحب القرار"،زادها " رفض التلفزة تقديم نبذة عن تقرير أصدرته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان"بادر الى تقديم استقالته.

فمن المفيد جدا، في هذا الصدد التوقف عند مبادرة العربي المساري أياما قليلة على توليه وزارة الاتصال المتمثلة  في عقده اجتماعا مع مسؤولي النشرات الإخبارية بالإذاعة والتلفزة المغربية( القناة الأولى)، وبالقناة التلفزية الثانية ( دوزيم)،ل"فتح حوار معهم حول سبل تحسين المنتوج الاخباري، وحول ضرورة استحداث برامج النقاش".

ورغم أن كتاب " رجل سلطة في الاذاعة"، قد "مر مرور الكرام" على هذا الاجتماع الذى احتضنه مقر المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، فانه يشكل- في نظري-  مناسبة مهمة، للوقوف على"النضال" المساري من أجل مهننة الاعلام السمعي البصري العمومي، وضمان استقلاليته التحريرية.

وهكذا نجد، في وثيقة نادرة عن اجتماع 21 مارس 1998، الذى تحول الى ندوة الداخلية،بعنوان "وقفة تأملية في أمر مهني.. يتعلق بكيفية تدبير نشرة الأخبار"، وهو اللقاء الذى استهله المساري الذى كان معروفا عليه بأنه يتولى تحرير خطاباته بمفرده، بأن ممارسة العمل الصحفي، تتميز(في تلك المرحلة) ب" العرض الكبير في المشهد الإعلامي، مما أتاح للجمهور المتلقي، أن يختار مما يفضله من عشرات الاذاعات والتلفزيونات، ويضرب عن القنوات التي لا تقدم له المادة المرغوب فيه"

فالحاجة التي أعرب عنها الجمهور دائما، هي اعلام ديناميكي، يتجاوب مع متطلباته في الاخبار والتثقيف والترفيه، وأنه إذا لم يتم الانتقال الى المستوى المهني المطلوب، فانه سيأتي وقت يكون المذيع يخاطب أهل بيته وهم ينتظرون عودته الي المنزل–يوضح  المساري-  الذى شدد على أنه "ولاشك ان نشرة الأخبار في الاذاعة والتلفزيون العموميتين، في حاجة الى مراجعة جذرية. ومن أجل هذا نحن مجتمعون اليوم".

وفي تقديره للتغيير المنشود،اعتبر الراحل المساري، أنه هو ذاك الذى لا يتأتى بقرارات فوقية وبقرارات ادارية. ان التغيير يجب أن يحدث عبر مناهج بيداغوجية، وان يتم بواسطة الاقناع. وأكثر من ذلك ان التغيير- مخاطبا الحاضرين في الاجتماع - يجب أن تقوموا به أنتم أنفسكم. اولا لأنكم قادرون على التطور. ثانيا لأني جئت ليس لتغيير الأشخاص ولكن لتغيير السياسة، يؤكد وزير اتصال النسخة الأولى لحكومة التناوب ( 1989- 2000).

الأهداف التي يجب أن تحققها السلطة الرابعة، تتلخص - حسب الكاتب العام لنقابة الصحافة خلال الفترة المتراوحة ما بين 1993 و1998، في أن قطاع الاعلام يجب أن يكون في نسق واحد مع التطور الحاصل في البلاد موضحا أن الشعار الذى يلخص السياسة التي يقوم عليها برنامج الحكومة (التناوب)، في القطاع الذى ننتمى اليه "اعلام الحقيقة".

وفي جرأة واضحة، ونادرة،  من وزير الاعلام المغربي قال في هذا الصدد إن ،"اعلام الحقيقة"، هو ذاك الذى نكف فيه عن التنويم والتعتيم، ولسان الخشب، أي أن التلفزيون للنشاط الحكومي؟

وهذا ما يجعل أن أول ما يطرح علي الاعلاميين ،"كحراس بوابة" التأمل في مفهوم المادة الخبرية، التي هي كل معطى يساعد الجمهور على التفاعل بكيفية واعية مع محيطه ويطرح التمييز بين حدين: كيف لا نقع في طمس الواقع؟، وكيف نتجنب التهويل".

ولم يكتف المساري بذلك بل زاد موضحا، بأن " الطمس هو أن لا نتحدث عن مشكل جرادة في حين هو موضوع تقارير ضخمة، تعقد بشأنه اجتماعات على أعلى المستويات، والتهويل هو أن تأخذ الامور أكثر من شأنها عن طريق الاشاعة، أو أن يكون الغرض هو الاستغلال السياسي بمعناه الفئوي الضيق".

وهذا ما يتطلب من الصحفيين بالسمعي البصري العمومي التسلح " بالحرفية أي بدقة واتقان"خلال القيام بمهامهم، وامتلاك ناصية المهنة ليتعرضوا بكفاءة للموضوعات التي يتصدون لها ، مما يقتضى اعتماد نظام التخصص والاحتكاك بالدوائر القريبة من مصدر المعلومات، وعقد الصحفي لجلسات مع المصادر المعنية، ليزداد الماما بمواضيع تخصصه.

وبخصوص أسلوب العمل يرى الوزير صاحب مقولة "أنا لن أغير الأشخاص، وإنما أحاول تغيير العقلية" في حوار خص به جريدة "الشرق الأوسط"، بعيد تعيينه  عضوا بالحكومة، أنه يجب أن اشراك المحررين في اجتماع هيئة التحرير، لكي يساهم الجميع بالأفكار والمقترحات، ولكي يشعر الكل بانه يشارك بالرأي وبالعمل، ولا تبقى الخلايا، جزرا معزولة بعضها عن بعض.اضافة الى ذلك لابد أن تتدعم الثقة بالنفس لدى المحرر لكي تتحرر طاقته الابداعية، وان نشرة الاخبار لا ينبغي أن تظل مجرد ترديد صدى تحركات أنشطة الوزراء بل يجب أن تترجم انشغالات المواطن، وتوسع قدرته على التفاعل، بما يعتمل بمحيطه.

ألا  يصلح هذا التصور حول الاعلام ، للتدريس في معاهد ومؤسسات الصحافة والاعلام في الزمن الراهن والاقتداء بها من لدن المنابر الاعلامية، إنها مجرد أسئلة مفتوحة  ومطروحة على مشهدنا الاعلامي، "زمن تلفزة " كيف كنتي كيف وليتي" وبرامج " الشو" ها.. واعتماد لغة ساقطة وحاطة في بعض الاحيان من الكرامة الانسانية، في  خرق سافر  لمقتضيات دستور 2011 و اللائحة طويلة والقصص معروفة في هذا المجال.

لقد ظل المسؤولين عن ادارة الاعلام العمومي السمعي البصري- في زمن المساري-بحكم انتمائهم الى وزارة الداخلية، "خارج دينامية التغيير"، كما جاء في اطروحة دكتوراه ا بعنوان "علاقة الدولة بالإعلام: دينامية الصراع والتحول" للإعلامي عبد الجبار الراشيدي،الذى كان مقربا من المساري سواء في نقابة الصحافة، أو بوزارة الاتصال وحزب الاستقلال أيضا. لقد اصطدمت استراتيجية الاصلاح في قطاع الاعلام، بواقع أخر مضاد، وحلبة للصراع حول من له صلاحية اتخاد القرار في السمعي البصري.

في شتنبر سنة 2000 سيترجل المساري من سفينة "حكومة التناوب"، حينما استعصى عليه، الاصلاح والتغيير،وبعد ان قضى بها سنتين، طرح فيها كثيرا من الأسئلة، وطرح فيها  أيضا كثيرا من الحلول، ظلت لحد الآن حبيسة رفوف خاصة دفتر  تحيين توصيات المناظرة الأولى للإعلام والاتصال سنة 1993،منها  تحرير السمعي البصري، من القبضة الحديدية والقوة الناعمة.

وكانت مناسبة التعديل الحكومي سنة 2000، فرصة سانحة أمام المسارى ، "لفرض استقالته فرضاعلى اليوسفي والتخلص من عبء منصب ووزارة، أيقن أنها مستعصية على الإصلاح" وفق ما جاء من كتاب" التناوب المجهض"للصحفي محمد الطائع، وفي هذا التعديل - يضيف المصدر ذاته- " رضخ اليوسفي لطلب المساري الذى لم تكن له أية سلطة تذكر على قطاع الاتصال، لذا رفض أن يتحول إلى وزير بلا وزارة ، مسئول بلا سلطة".

ليس المساري وحده الذى استعصى عليه " تحقيق حلم التغيير في السمعى البصري، في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب، بل حكومة التناوب برمتها، "فشلت في الاعلام" بوسائله المتعددة، "فشلا ذريعا"، خاصة على مستوى تسويق منجزاتها وعملها الإصلاحي، "فكلما كان اليوسفي إلى جانب المساري يبديان مقاومة وإصرار في المربع الضيق للسلطة، متمسكا بتحرير الإعلام العمومي"، كان بالمقابل "يجلد" في الصحافة، بمناسبة وبدونها" حسب الطائع دائما.

وبصفة عامة، من الملاحظ أن الاعلام العمومي المغربي بأصنافه "سار دائما وأبدا، على ايقاع تقلبات الوضع السياسي، محكوما بعدم الاحتكام الى المنطق والقوانين والمفاهيم التي تسيرهذا المرفق" العمومي، وهي الخلاصة التي استنتجها الراحل محمد العربي المساري بعد تجربته في الوزارة والتي خطها بنفسه في تقديمه لكتاب" رحلتي مع الميكرفون" للإعلامي المخضرم محمد بن ددوش.

ويجدر التساؤل، هل تغيرت أمور ووضعية اعلامنا العمومي السمعي البصري، منذ "إبعاد رجال السلطة" من التلفزيون والاذاعة؟، وهل تمكن تحرير الفضاء السمعي البصري ودستور 2011، من احداث التغيير المنشود بالإعلام العمومي؟.

 وأيضا هل تحققت مصالحة المواطنات والمواطنين مع اعلامهم الوطني؟ أسئلة كثيرة مؤجلة، من بمقدوره فكك طلاسمها؟،هل رافق تغيير الاشخاص تغيير العقليات والسياسة في "قطبنا المتجمد"، كما كان حلم المسارى زمن التناوب؟ العلم في حكم الغيب !!.

فواقع اعلامنا في القرن 21، قرن مجتمع الاعلام والمعرفة، لا يسر أحدا، وهو ما جعل الاعلاميين المخضرمين في شهاداتهم ، بمناسبة تأبين" رجل سلطة في الداخلية"، بحضور رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، "يتأسفون" على وصفوه، ب" الزمن الجميل خلال مرحلة رجل السلطة في الاذاعة"، والذى تمكن بتوافقاته والملائمة بين انتماءه المهني لأم الوزارات (الداخلية)وخصوصية الاعلام، أن يظل "صامدا"في منصبه الى ما بعد زمن التناوب، ومغادرته " الطوعية" الى ادارته الاصلية ويظل في البداية والنهاية، السمعي البصري، متحكما في مساره، رغم قرار تحريره، ومع ذلك مازال فإنه عند جمهور المشاهدين والمستمعين الحالمين، سؤالا مؤجلا الى حين!! الى متى..؟