بنسالم حميش: مساحيق العولمة

بعد مضي بضع سنوات على اتفاقيات مؤتمر الگات (GATT مراكش 1994) وإنشاء المنظمة العالمية للتجارة (OMC) في السنة الموالية، أخذنا نرى أن الدول الموقعة على تلك الاتفاقيات ما زالت دون ترجمة التزاماتها بلغة مكاسب اقتصادية واجتماعية: تحسين مطرد للنمو، التعويض القيمي للعمل، ترقية مستوى حياة الشرائح المستضعفة، محاربة الفقر والعطالة والأمية، إصلاح القطاع العمومي وقطاعي الصحة والتربية والتعليم...

هذا وإن شكوكا ما انفكت تحوم بإصرار حول قدرات تلك الدول -كيفما كانت ألوانها السياسية- على مواجهة الأزمات الاقتصادية الحادةِ البنيوية، كما الحال مثلا داخل البلدان الأوروبية، وحتى على صعيد الاتحاد الأوروبي نفسه؛ وذلك من حيث إن هذه البلدان، المأخوذة إجمالا في نسق التقشف وتحت تهديدات النكوص، لم تستطع التغلب على المصاعب الداخلية المتعددة التي عناوينها 26 مليون عاطل (أكثر من 18 مليون في منطقة الأورو)، 118 مليونا من الفقراء والمقصيين (2016)، هشاشة الشغل، انفجار التفاوتات الاجتماعية، مشاكل المناخ والبيئة، علاوة على المديونية الضخمة التي بلغت في الاتحاد الأوروبي برسم تلك السنة 33.000 مليار أورو، وما ينجم عنها من عُجوز عمومية متنامية، وسوى ذلك.

إن ما أضفى على أزمة العولمة طابع الغور والاستدامة فيُلمس في سؤال "بريء" ألقته الملكة إليزابيت الثانية: لماذا لم تحدثونا؟ (why didn’t tell us ?). سؤال موجه بالاستغراب إلى الاقتصاديين والماليين في عز الأزمة التي لم يتوقعوها ويروا قدومها، إنها أزمة الاقتصاد الماليتي (financiariste) التي حلت بالولايات المتحدة في 2007-2008 مع قضية القروض العقارية (السوربرايم) ومفاعيلها السامة، الشبيهة من حيث خطورتها بأزمة 1929-1932، ولو أنها تفوقها سعةً ورسوخا، كما يجمع على إظهارها عدد كبير من الأخِصّائيين -وقد صرت ولعا بكتاباتهم- والذين يسمونها بالشاملة (global) والنسقية (systemic)، إذ لا تخفف من وقعها الوثبات أو الانفراجات الظرفية؛ ذلك لأن التحدي ليس في البحث عن مداواةِ، بنحو ما، الأزماتِ ذات الطابع الدوري، وإنما، بعبارات كانطية، في إقامة شروط الإمكان للارجعية أيِّ أزمة ثقيلة، مُعدية، مستميتة ومدمرة اجتماعيا.

إن التسمية التي بات أخصائيون كبار يطلقونها على الرأسمالية المعولـَمة هي "الرأسمالية القاتلة" (killer capitalism) التي في إطارها نرى أن المضاربين الماليين ووكلاء الصرف واللاعبين العالميين (global players) يمكنهم -يا لهول الأمر!- أن يربحوا في دقيقة واحدة قرابة مئة مليون دولار.

وفي غاب المالية الهوجاء والأبناك المضارِبة بلغ الوضع أوجه، كما نعلم، مع المستثمر برنار ماكوف، غول الغصب والاحتيال، الذي يقضي عقوبة السجن لــ 150 سنة منذ يونيو 2009؛ لكونه تسبب في إفلاس كثير من المذخرين، ضحايا مناوراته الإجرامية المسماة البيع الهرمي؛ هذا وإن ابنه الذي استفاد من اختلاسات الأب قد انتحر شهورا من بعد ذلك، لشد ما عاناه من شعور بالخزي وتأنيب الضمير. وإن قصة الرجلين، في تصوري، لجديرة بأن تكون موضوع رواية أو شريط سينمائي من طراز السلسلة السوداء.

ومن جهة أخرى، تكشف إحصائيات صندوق النقد الدولي عن أن الفراديس الضريبية والمناطق الحرة (offshore) تأوي حوالي 200 تريليون دولار، وتفلت كليةً من المراقبة الجبائية للدول التي تمت فيها مراكمة هذه الأموال الطائلة.

وإجمالا، فإن هذه الفراديس (لوكسومبورغ، سويسرا، موناكو، ماكاوو، سنغفورة، وحديثا باناما التي تسربت منها فضيحة الأوراق الموثقة panamapapers) لهي عبارة عن ملاجئ ضريبية لرؤوس أموال حسنة أو سيئة التحصيل ولتبييض المال الوسخ. وحسب الإحصائيات الأخيرة، تُقدر مبالغ التهرب الجبائي بألف مليار أورو، قبل الفضيحة المذكورة.

وهكذا (كما أظهرتُ في دراسة بالفرنسية نشرتُها في مجلة اليونسكو Diogène عدد 241)، يتم الانتقال من السوق كخادم حسَنٍ إلى السوق كسيد سيء، مستبد ومتجبر، علاوة على خصخصة الفوائد وتعميم المخاطر، وعلى استنقاص قيمة الديمقراطية في تركيبتها الثنوية السياسية-الاقتصادية؛ وكلها مناطق ومكامن تعبث فيها عوامل مرضية تنشر الفقر، وتعمق أكثر فأكثر هوة التفاوتات والفوارق داخل الفئات الاجتماعية وبين البلدان؛ كما أنها تغذي التطرفات الإيديولوجية والسلوكية، وتضر بالتالي بثقافة العدل والسلام في العالم.

ومن المضاعفات الضارة الأخرى لتلكم العولمة ذات الوجه اللاإنساني: انفجار الأسرة الذرية، اللاأمن الغذائي، انبعاث غازات الانحباس الحراري، فوضى التقلبات المناخية والاختلالات البيئية، الخ.

وإجمالا، يتكشف أن الرأسمالية المتشددة المعولَمة، وقد أصيبت بضعف البصر، انتهت إلى فقدانه أمام سيئي الطالع والأحوال وكل البؤساء من كل صنف، كما حيال مأجوري الخوف الجاثم والمسترسل، أي مغلوبي الأولمبياد الشرسة للإيديولوجيا التسييرية والإنتاجوية.

وبالتالي، يتوجب حقا طرح أسئلة رئيسية حول قانونية ومعقولية مثل ذلك النظام، حيث محبة الآخر تصبح عبارة باطلة وغير ذات معنى؛ إذ إن الآخر شديد البعد يتوارى خلف حجب اللامحسوس واللامدرك، ومعه مبدأ حرمة الحق في العدل والحياة الكريمة.

وأخيرا، مما أراه مندرجا في صك الإصلاح والتقويم، يمكن إيجاز القول فيه كما يلي:

- إضافة إلى ضرورة فك الارتباط بدكتاتورية السوق، يلزم وضع توازن في العلاقات بين رأس المال والشغل داخل البلدان وعلى الصعيد العالمي؛ ومؤدى هذا إقامة قوانين اقتصاد تضامني، عادل وخاضع لحكامة جيدة، اقتصاد يصاحبه ويديره مجلس أمن اقتصادي مماثل إلى حدٍّ ما للذي اقترحته "الأممية الاشتراكية" في الموزنبيق سنة 2002. ويلزم إحلال هذه القوانين محل نظام الأسواق العالمية المستبد والتنافسية السائبة والرأسمالية القاتلة، نظام يعرضه بناتُه كقدر مقدر مشخِّصٍ للنسق الاقتصادي الأوحد الذي لا بديل له.

- تبني اقتصاد أخضر وتصنيع غير ملوِّث وطاقات متجددة، للتأثير أساسيا على التنمية المشتركة والتجارة العادلة؛ وهو ما يفضي إلى ترقية حياة اليسر للأفراد والجماعات والتعايش الجيد البناء.

- انفتاح تدريس العلوم والاقتصاد ومواد التدبير والتسويق على تعليم الإنسانيات والثقافة والفنون والأخلاق...

بإنجاز هذه الشروط، ضمن أخرى، يمكن للعولمة، كنظام شمولي عقلاني متفاوض عليه، أن تكسب الانخراط الإيجابي لغالبية ساكنة الأرض وأقطارها.

إجمالا، مما يحسن تعلمه من اقتصاديين أفذاذ (أمثال جون كينس وأمرتيا سين وجوزيف ستيگليتز) هو أن سؤال الأسئلة الذي يُرجى دوما طرحه وإيلاؤه الصدارة ليس نسبة النمو كرقم أو مؤشر مكتفٍ بذاته، بل إنه: كيف هي حال الناس؟ والسؤال نفسه هو أيضا مدار اهتمامات كثير من روائيي القرنين التاسع عشر والعشرين في الغرب والبلاد العربية (فيدور دستويفسكي، إميل زولا، ڤيكتور هيگو شارل ديكنس، جون شتانبيك، نجيب محفوظ، عبد الرحمان منيف وغيرهم).

لذلك، أحسنَ برنامجُ الأمم المتحدة للتنمية صنعا حين تبنى التنمية البشرية مؤشرا أساسيا لتقييم أيِّ سياسة اقتصادية والحكم في شأنها من حيث درجة تمكين الناس من ممارسة حقوقهم في الصحة والسكن اللائق والخدمات والتعليم والثقافة، ثم جعلِ حياتهم ذات يسرٍ وجودةٍ ومعنى.