تحليل

"جنيف 2".. نحو طي ملف نزاع الصحراء

شرقي خطري

منذ وقف إطلاق النار في 6 شتنبر 1991 ودخول مسلسل التسوية السلمية، توالت الوسائل التفاوضية بين أطراف نزاع الصحراء والمتدخلين فيه بشكل مباشر أو غير مباشر، التي تعددت صورها ومخرجاتها تماشيا مع السياقات الدولية والإقليمية وما يتم تقديمه من مبادرات للبحث عن تسوية، سواء من الهيئات أو الوسطاء والمبعوثين.

برزت العديد من الجولات التفاوضية، منها المشروطة والغير مشروطة، والقرارات والتوصيات التي تحث وتطلب وتدعو وتهيب بضرورة إيجاد حل عملي وواقعي للنزاع. هذه الصيغة حضرت بقوة مع قرار 690 سنة 1991 أثناء وقف إطلاق النار وبداية الانخراط في مسلسل تحديد الهوية، ومع قرار 1754 سنة 2007 بعد تقديم مبادرة الحكم الذاتي من قبل المغرب، ومؤخرا في قرار 2440 الذي أكد ضرورة تجاوز مسألة استمرارية الوضع القائم.

واتخذ مسار خطة التسوية في إطار المفاوضات المباشرة مراحل عدة، بداية بلندن 19/20 يوليوز ولشبونة 29 غشت 1997، وتوقيع اتفاق هيوستن خلال جولة من المفاوضات امتدت من 14 إلى 16 سبتمبر 1997، الذي اعتبر أول اتفاق بين طرفي النزاع وتم التأشير عليه في القرار الأممي 742، وجولات مانهاست الأربع منذ بدايتها في 2007 إلى نهايتها في مارس 2008، وصولا إلى الطاولة المستديرة الأولى بجنيف التي انعقدت 5 و6 دجنبر 2018.

وهذه الجولة الأخيرة حاولت مخرجاتها إعطاء دينامية جديدة لمسار الجهود المبذولة لحل النزاع في إطار مقاربات إقليمية ودولية، مع تنامي الأحداث والقضايا التي تهدد السلم والأمن الدوليين بالمنطقة وتزايد أهمية التكتلات، بما فيها المجال المغاربي.

وشهدت الجولة حضور الجزائر لأول مرة كطرف مباشر معني بإيجاد حل لتسوية النزاع، فمقاربات التعاطي مع طي النزاع بعد القرار الأممي 2420 تحمل في طياتها إرهاصات بوادر بلورة حل يتوافق ويتماشى مع السياقات الإقليمية والدولية، وتصريحات العديد من صناع القرار الغربيين تكشف عن هذا الإطار.

إن الجولة الجديدة الثانية في إطار المائدة المستديرة للمشاورات تأتي في سياقات جديدة مغايرة لمرحلة وقف إطلاق النار ومسلسل تهديد الهوية، وكذلك في الخيارات الاستراتيجية لأطراف النزاع ومستوى حضورهم في المجال الإقليمي والدولي.

فهناك تحول جذري في موقع ونفوذ المغرب بالاتحاد الإفريقي وتزايد حجم التشديد على أهمية العلاقات بين المغرب والاتحاد الأوروبي بعد توقيع الاتفاق الفلاحي والتنسيق الأمني عالي المستوى، ووجود ضبابية في مقومات الانتقال السياسي بالجزائر مع تضارب رغبات مطالب المحتجين والنخبة الحاكمة باعتبارها الداعم الرئيسي لجبهة البوليساريو، وارتفاع ضغط أعضاء مجلس الأمن، وخاصة الطرف الأمريكي الذي أصر على تقليص مدة تواجد المينورسو في القرار الأخير من سنة إلى ستة أشهر، وشمول المساعدات الأمريكية جهات الصحراء بعد إثارة النقاش حولها بالكونغرس، بالإضافة إلى التلويح باستخدام القوة من قبل المغرب بسب وجود خروقات لوقف إطلاق النار بين الفينة والأخرى على مستوى خط التماس بالمنطقة العازلة، ووجود صراعات داخلية بالنسبة لجبهة البوليساريو ناتجة عن غياب تصور واضح لمسلسل التسوية لديها بسب رهن مسار النزاع بالجزائر، مع التضييق على أي طرف مخالف لهذا التوجه.

إن المائدة المستديرة جنيف 2 تحاول تقديم حلول لبواعث تتجاوز طرفي النزاع، وأضحت تشكل خطرا على المجال الإقليمي والدولي، أساسها مخاطر الإرهاب الممتد إلى تخوم الصحراء الكبرى، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة النزاع على الاستقرار الداخلي والخارجي للمجال المغاربي، وخاصة بعد انهيار الدولة في ليبيا وتقويض التكامل والتعاون الاقتصادي والاجتماعي والأمني، والأزمة الداخلية الجزائرية المرتبطة بالوضع السياسي الداخلي وعدم وضوح مسارات حلها التي نأى المغرب عن أي تدخل فيها عكس الجزائر التي حاول وزير خارجيتها الجديد لعمامرة إثارة نزاع الصحراء في آخر لقاء مع وزير الخارجية الروسي لافروف.

فمسار جنيف 2 بناءً على مسلسل التسوية التفاوضية، يشمل مقاربتين أساسيتين للحل، الأولى استشرافية تتمثل في عدم فرض شروط مسبقة على طريقة تقديم المقترحات والطريقة التي تسري بها أثارها على أطراف النزاع، مع محاولة البحث عن صيغ تتماشى مع طبيعة التحولات الإقليمية والدولية. وفي ذلك، يرى المغرب أن مبادرة الحكم الذاتي أقصى ما يمكن تقديمه، في حين تصر جبهة البوليساريو على مبدأ تقرير المصير، وهنا المبعوث الأممي مطالب بوضع تقاطعات المواقف في إطار رؤية شاملة استشرافية واستباقية، وتتفادى تكرار أخطاء المبعوثين السابقين على غرار روس، لكن رفض المغرب التوجه إلى برلين واقتراح باريس قبل عقد الطاولة المستديرة إشارة ضمنية إلى نوعية برنامج توجه هورست كوهلر.

أما المقاربة الثانية، فهي إجرائية تتعلق بالتركيز على مستوى انخراط الطرف الجزائري في مسار التسوية باعتباره الطرف الرئيسي والمباشر الداعم لجبهة البوليساريو، وقدرة تجمع أصدقاء الصحراء على الضغط عليها بعد تنامي التعاون المغربي مع العديد من هذه الدول، وخصوصا بريطانيا التي لها حضور قوي في الجزائر عبر شركاتها واستثماراتها في قطاع الطاقة. والعمل على تقديم صيغ بديلة تجعل التنمية الاقتصادية والاستقرار الأمني أساسا ومرتكزا مهما في فهم وإدراك منطلقات التوجه لطي ملف تسوية نزاع الصحراء، وعدم إدخال أي آليات تفاوضية بموازاة مع الأمم المتحدة على غرار الآلية الإفريقية، التي تحاول بعض الأطراف تقديمها كأساس جديد في ملف نزاع الصحراء الذي بإمكانه التأثير سلبيا على مساره، وذلك خدمة لنزوات سياسية لا تعير أي أهمية للأزمة الإنسانية بمخيمات الحمادة التي تفرض على المبعوث الأممي استحضارها كبعد أساسي أثناء البحث عن تسوية النزاع.

عموما طاولة جنيف 2 بإمكانها تقديم مقاربات وتطبيق مخرجات قرار 2420 الداعية إلى حل عملي وواقعي. كما أن فهم مسار ظروف تخصيص 4 جلسات خلال شهر أبريل خاصة بنزاع الصحراء 2019 تتقاطع مع ظروف قرار 742، والأمر نفسه ينطبق على مفاوضات جنيف 2 وهيوستن 1997، مع اختلاف في السياقات الإقليمية والدولية الجديدة. وإعطاء صيغ تتجاوز التكلفة الباهضة للنزاع الذي عمل على تأجيل وتأخير الاندماج والتكامل الاقتصادي المغاربي وإيقاف عجلة التنمية في المنطقة.

والشيء الذي قد يشكل أكثر خطورة في هذا الصدد هو تحول المنطقة التي تغطي الصحراء وشمال موريتانيا وجنوب غرب الجزائر إلى فضاء غير متحكم فيه أمنيا ومفتوح على جميع الاحتمالات، بحيث أمام استمرارية النزاع، أصبحت المنطقة تعرف مظاهر تهريب المخدرات والأفراد وتجارة السلاح. وخير دليل ما وقع سابقا في شمال مالي وبعين مرداس جنوب الجزائر وشمال موريتانيا، وهذا بالإضافة إلى التهديدات والعمليات التي تقع جنوب ليبيا وعلى الحدود الجزائرية التونسية.

فطاولة جنيف 2 تتوخى الانسلاخ من براثن مثالية الأطروحات والمواقف المتشنجة، والبحث عن قواعد عملية وواقعية واستشرافية إجرائية، وتستحضر ضمن أولوياتها استقرار المجال وتنمية الإنسان بالصحراء.

*باحث في العلوم السياسية والإعلام