عبد الرحيم الفارسي .. لا عاصم لك اليوم

عبد الرحيم الفارسي

قبل حرب العراق الثانية كان التغيير في العالم العربي يتم وفق أسلوبين لا ثالث لهما: إما الانقلاب العسكري الذي دشن رسميا عام 1952 في مصر، أو تدخل قابض الأرواح، سيدنا عزرائيل.

لما غزا الأمريكيون وحلفاؤهم العراق وتمكنوا من جل مناطق بغداد، ظهر الرئيس صدام حسين لآخر مرة في منطقة الأعظمية قبل السقوط بيوم واحد. كان محاطا بعدد قليل من السكان الذين هرعوا للترحيب والهتاف باسمه في الوقت الضائع. تساءلتُ وأنا أشاهد تلك اللقطات على شاشات التلفزيون، أين اختفى أكثر من نصف مليون جندي، وأين اختفت تلك الهالة التي كان صدام يحاط بها ويسبغها عليه المحيطون به.

لقد تفرقت الحشود وكفت الحناجر عن  الهتاف، وما هي إلا سنتان حتى وجد الرئيس صدام حسين نفسه وحيدا أمام زمرة مقنَّعة تمسك بحبل المشنقة. لقد رحل وحيدا... 

في أواخر أكتوبر من عام 2004 نظمت في تونس انتخابات رئاسية، فاز فيها، طبعا، الرئيس زين العابدين بن علي بالنسبة المئوية التسعينية المتعارف عليها عربيا. عقد وزير الداخلية حينها الهادي مهني مؤتمرا صحفيا بالمقر الرهيب للوزارة في نهاية شارع الحبيب بورقيبة، وقبل أن يشرع في الكشف عن الأرقام، انطلق في محاضرة طويلة عدد فيها مناقب الرئيس، وخلالها فاه بالجملة التالية: "إن الحديث عن فكر وعبقرية سيدي الرئيس يتطلب مجلدات ومجلدات". وأنا إذ أسمع هذه القنبلة الصوتية، استدرت نحو زميلي الكاتب الصحفي التونسي كمال بن يونس، الذي كان جالسا بجانبي، فرمقني  بنظرة سريعة، فهمت منها أنه علي ألاّ أنسى للحظة أن تلك القاعة الكئيبة كانت ملأى بالمخبرين. لقد كانت تعج بهم.

لازالت الجملة التي تفوه بها الوزير مهنِّي محفورة في ذاكرتي،  وهي تقفز مجددا كلما وجدتُني في موقف يهطل فيه سيل من التزلف والتملق.

الآن وقد مضى 15 عاما على تلك الانتخابات، كشف الزمن أن مجلدات الوزير عن فكر وعبقرية سيده الرئيس، لم تكن في الواقع سوى أكوام من وثائق المخابرات التي تحصي أنفاس شعب ادعى بن علي أنه جاء لخدمته في انقلابه الأبيض على رئيسه الشرعي الحبيب بورقيبة عام 1987.

قبل أيام نقلت وسائل إعلام تونسية عن أحد محاميي بن علي قوله أن موكِّله، صاحب الفكر والعبقرية والأيادي البيضاء، أصبح يعاني من الفاقة وطالب الشعب التونسي بأن يدفع له راتبه التقاعدي، الذي قدره بعشرة آلاف يورو شهريا.

أما الوزير مهني فلا أعرف ما الذي حل به.

في مارس من عام 2011 تجمع داخل خيمة كبيرة في ثكنة باب العزيزية بطرابلس الغرب، عدد كبير من الليبيين الذين كانوا يضعون قطع ثوب خضراء على رؤوسهم ووجوههم وأكتافهم.

كانت المناسبة خطابا يلقيه "الأخ القائد الأممي ملك ملوك إفريقيا، أمين القومية العربية وصاحب النظرية العالمية الثالثة".

لم أجد مقعدا أجلس عليه، فافترشت الأرض غير بعيد عن معمر القذافي الذي كان يتحدث عن خروج الشباب والشيوخ في مظاهرات 17 فبراير، وكيف أنهم منقسمون ما بين متعاطين لحبوب الهلوسة و"جرذان مقملين" وعملاء للصهيونية والامبريالية.

هذا لا يهم كثيرا، فهو كلام معهود من العقيد. لكن ما كان يهمني أكثر هم أولئك المداحون المطبلون الذين كانوا يقاطعون خطاب العقيد بشعارات أحتفظ منها بهذا "حَيّْ عليهم حي، جيش معمر جاي" و"على شانك يا بَّات خْميس، نطيحو في النار كْرَاديس". خميس هذا هو أصغر أبناء القذافي وكان قائدا لكتيبة تحمل اسمه.

مضت بضعة شهور فقتل خميس في غارة للناتو، وتشتتت صفوف كتائب القذافي، وسقط العقيد أسيرا بأيدي المعارضة المسلحة، وقتل بدم بارد. ودفن في مكان لا يعلمه إلا قليل.

أما المطبلون، والفدائيون الذين كانوا يقولون إنهم مستعدون ليرموا بأنفسهم في النار أفواجا، فقد تسللوا في ليل بهيم مثلما خرج العقيد سرا من طرابلس، تاركا للماضي جماهيريته العظمى وكتابه الأخضر .

سأقف عند هذا الحد، وأتساءل: كم لدى العالم العربي من رئيس سابق غادر السلطة طوعا، ويعيش حرا طليقا، ويمشي بين الناس في أسواق بلده، وليس لاجئا في بلدان أخرى؟.

إنهم قلة. والعيب ليس فيهم وحدهم، بل في من يزينون لهم أفعالهم. أولئك الذين ينزعون عنهم طابعهم الإنساني الجميل، ليحولوهم إلى مجرد أصنام، ولا يتورعون عن تقبيل صورهم والتمسح بتماثيلهم.

بالأمس انتزع المتظاهرون صور الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من الميادين العامة والدوائر الحكومية في الجزائر. واليوم يقتلع السودانيون عمر حسن البشير الذي جثم على كرسي الحكم ثلاثة عقود، وأراد أن يزيد عليها ردحا.

إنها حلاوة السلطة وسكرة التزلف التي ما إن يصحو المعني منها، حتى يكون لسان حاله يقول: لا عاصم لك اليوم من الشعب.