قضايا

الثقافة الشعبيّة الشفاهيّة وأبعَادُها الكونيَّة

محمّد محمّد الخطّابي*

على هامش مهرجانات ومواسم الفلكلور التي تُنظّم في المغرب على مدار السّنة

لكلّ أمة عادات، وتقاليد، وموروثات، ومأثورات، وطقوس، وأغانٍ شعبية، ورقص، وأهازيج وغيرها. ويطلق على هذه الأشكال الفنية جميعها اسم "الفولكلور"، أطلقه في القرن الثامن عشر العالم الإنجليزي "وليم جيمس توماس". ولقد استحبّ العلماء بعده هذا الاسم، فصار عِلماً تُعرف به كافة هذه الألوان المختلفة من الفنون الشعبية الشفاهية المتوارثة. وهذه الكلمة في الأصل هي كلمة جرمانية قديمة تَعني معارف الشعب، أو مأثورات، أو موروثات الشعب، وكلّ ما يصدر عن الشعب من غناء، ورقص، وأدب، وحِكم، وأمثال، وأزجال وغير ذلك، وبمعنى إجمالي هو روح الشعب النابضة، أو ضميره الحيّ الذي يعكس لنا أهواءَه ونوازعَه وإبداعاته على اختلاف طبقاته، وتباين شرائحه، وتعدّد فئاته وألوانه. والشعب هو صاحب هذا الذي نطلق عليه إجمالاً الفلكلور.

بداية الاهتمام بالمأثورات الشعبيّة

كانت بداية الاهتمام بهذا العِلم الجديد الذي يعالج الأدب الشعبي الشفاهي في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر في كنف الثورة الصناعية الكبرى، حيث بدأت الدول تشعر بالقوميات، والرّغبة في الانتماء، بعد أن تفتّح الذهن البشري على الاكتشافات العلمية في البحوث التاريخية، والأدبية، والانثروبولوجية وغيرها، فاتّجهت من ثمّ إلى العناية بالمأثورات الشعبية بصفتها أحد مظاهر الشعوب، ومقوّماتها الأساسية، التي كانت في القديم تُرْوىَ وتتناقل متواترةً من جيل إلى آخر، إلى أن جاء عصر التدوين والتوثيق والدراسة والتعليق، فزادت العناية بهذا العلم بعد انحسار النفوذ الأجنبي، وبعد أن قلّت أهوال الحروب، وهدأت الفتن والقلاقل، واتجاه الشعوب إلى البحث عن مقوّماتها الحضارية، والتنقيب عن تراثها الشعبي، والعناية به وإحيائه، كلّ ذلك كان له الأثر الكبير في الاهتمام بهذا العلم.

ومن الطبيعي أن تقيم كل أمّة من الأمم مهرجانات وتظاهرات فولكلورية احتفاءً بهذه الفنون الشعبية التي هي في الواقع الصّورة الحيّة النابضة لروح شعبها، وانعكاسٌ واضحٌ لما في بواطنها من أهواء، وغرائز، وطموح. كلّ هذه النفائس الشعبية تحتوي على تاريخ هذه الأمّة ومعتقداتها، وتُعبّر خيرَ تعبير عن آمالها، وآلامها، حاضراً وماضياً ومستقبلاً. وكما هو معلوم لا حاضرَ ينشأ من فراغ أو عدم، بل لا بدّ أن يقوم على دعائم وأسس، والفولكلور أحدُ هذه الأسس والدعامات بدون شك، لأنه من الشعب وإليه، وتربطه به صلات وثقىَ نابعة منه.

دراساتنا للفلكلور كشفت لنا النقاب عن حقائق تاريخية مُذهلة لم تكن في الحسبان. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، بعد العثور على ملحمة "غلغامش" البابلية الشهيرة القديمة اعتبرها الكاتب العراقي الرّاحل عبد الحق فاضل ثامنة أعاجيب العالم القديم، لما فيها من دهاء فنّي عجيب، ولما تتوفّر عليه من مضمون إنساني عميق، من أشهر مترجميها "ساندرز" الإنجليزي، و"سبايزر" الأمريكي، وطه باقر، ثمّ أخيراً عبد الحق فاضل، وهي أوفى الترجمات الثلاث. ولقد كشفت هذه الملحمة عن حقائق مثيرة لعالم ما بين الرّافدين في العصر البابلي، وأزاحت الحُجب عن كثير من الحقائق المجهولة، والأسرار المثيرة، مثلما كان عليه الشأن مع سواها من الملاحم الشعبية والتراثية الأخرى في مختلف أنحاء العالم التي تُؤؤّل تأويلاً رمزياً فتعطينا نماذجَ من صور الشعوب، وأنماط حياتها، وعوائدها، ومعتقداتها، وعباداتها، وعلومها، ومعارفها، وفنونها، وخرافاتها، ومعايشاتها في القديم.

الفلكلور ليس رقصاً فقط !

ولا ينبغي أن يقتصر دور الدّولة على الاحتفال بهذه الفنون، وإقامة المهرجانات لها التي يغلب عليها الطابع السياحي المرتجل، بل ينبغي أن تَرصُد لهذه الفنون والموروثات في الوقت ذاته إمكاناتٍ ماديةً وعلمية شتّى لتسليط الأضواء الكاشفة عليها، ودراستها، وتقييمها، والعمل على تطويرها وإنمائها.

يحفل المغرب بالعديد من المهرجانات الشعبية والفلكلورية على امتداد رقعته الجغرافية المترامية الأطراف، حيث تُقدّم على امتداد الحوْل لوحات رائعة تعكس هذه الفنون الإبداعية الفطرية والفنية على اختلافها، وتنوّعها، وتعدّدها بشكل جليٍّ غنىٍّ ثريٍّ ومتنوّع. هذا التراث الزّاخر يكس بدوره مدى عراقة شعبنا وتعدّد إثنيياته وأجناسه. وينبغي ألا تظلّ هذه الفِرَق الفلكلورية فرقاً قائمة هائمةً على وجهها تعتمد على اجتهادها الشخصي وحسب، بل ينبغي أن توفّر لها جميع إمكانيات، وفرص التطوّر، والرّعاية والعناية والتشجيع، كما ينبغي أن توفّر لها وسائل التدريب والمران والممارسة والاحترافية، وأخذها على مناهج الدراسات الأكاديمية الحديثة في الحركة، والإيقاع، والصّوت، والتجديد، وتلقين هذه الفِرَق مختلف أنواع الفنون الموسيقية، وضروب الألحان، وأصول الأنغام والإيقاع؛ ولا يجب حصر نشاطاتها داخل بلادنا فقط، بل علينا أن نختار أجودَها، ونُعنيَ بها حتى تكون سفيرتنا في الإبداع الشعبي الخلاّق في الخارج، لتشاركَ في مختلف اللقاءات، والمهرجانات، والتظاهرات الفولكلورية والفنية في العديد من بلدان العالم، على غرار الفرق الفنية والشعبية العالمية الأخرى التي تمثّل مختلف دول وأمم وشعوب المعمور.

العناية بهذا التراث الثريّ والتعريف به، والمحافظة عليه، ونشره، واستمرارية إشعاعه وتألّقه أمر لا مندوحة لنا عنه.

وممّا لا ريب فيه أنّ الفلكلور المغاربي والعربي بشكلٍ عام زاخر بالمواهب، حافل بالأصالة، ولكنه يحتاج إلى توجيه سديد، وهو مطالب بالتجديد. إذا تكلّمنا عن الرّقص والغناء الشعبييْن بصفة عامة فهذان اللونان محتاجان إلى مزيد من التجديد، والتطوّر، خاصّة وأنهما يعتمدان في الغالب على النغمات والإيقاعات المتكرّرة والمتواترة والمكرّرة، أو على الإيقاعات المتشابهة المعهودة، عكس أداء العديد من الفرق الشعبية العالمية الأخرى من مختلف بقاع وأصقاع المعمور، التي تتعدّد وتتنوّع فيها النغمات، وتتلوّن الإيقاعات لتفادي التكرار والرتابة؛ فالتطوّر، والتنوّع، والتجديد، والإبداع، كلّ هذه العناصر والمُستجدّات لا مناصَ لنا عنها إذا أردنا لفنوننا الشعبية أن ترقى إلى منازل الفلكلور العالمي المنظم، الذي يسمو فوق الذوق، والرّوعة، والإعجاب، والانبهار. وما النجاح الذي أحرزته بعض فرقنا الغنائية الشعبية والفلكلورية المعاصرة الجيّدة إلاّ انعكاس لهذا التطوّر الملحوظ في التنغّم، والأداء، والحرص على الابتكار، وتفادي التكرار والرتابة، مع الحفاظ على روح المضمون الذي يقف على أرضية خصبة من التراث، والذي ينطلق ويستقي مادته الأولى، وعناصرَه الأساسية من ضمير الشعب، ونبض الجماهير، ومعاناتها، وآمالها، وآلامها، ونضالاتها، وطموحاتها وتطلعاتها.

ثراء الفلكلور وتنوّعه

لهذه الأسباب وسواها نرجو أن يولي القائمون على هذه التظاهرات والمهرجانات الشعبية، والفنون الفلكلورية التي تقام في تواريخ متباعدة في مختلف المدن، والحواضر، المناطق المغربية حقها من الدّراسة والتمعّن، والتمحيص، والتحليل، مع العناية، والاهتمام بباقي المأثورات الشعبية الأخرى التي تدخل في صلب الفولكلور بمعناه الواسع، وذلك بتنظيم أيام دراسية، وإقامة طاولات مستديرة، وإلقاء محاضرات، وعقد ندوات، وحلقات دراسية، وميدانية جادّة، وأكاديمية متخصّصة يَستقصي فيها ومن خلالها المهتمّون والمتخصّصون هذا التراث الحضاري الثريّ بقيَمِه الجمالية والفنية، التي تزخر بها فنوننا الشعبية المتنوّعة الأصيلة.

من بَدائه الأمور أنّ الأدب الشفاهي المتوارث مصطلح استعاره المثقفون للدلالة على مفهوم الكلمة الغربية فولكلور، وذلك بهدف تعريف وتحديد مفهوم الأدب الشعبي بمعناه الواسع، وهو أدب الشعب العاميّ التقليديّ الشّفاهيّ الذي غالباً ما يكون مجهولَ المؤلف، وهو أدب متواتر، ومتناقل شفويّاً، ومتوارث حِفظاً جيلاً بعد جيل. ومعروف أنّ هذا الصّنف من الأدب يُعبِّر عن أشكال إبداعية، وأنماط تعبيرية تقليدية من أساطير، وحكايات خرافية، وقصص مروية، وأمثال مأثورة، وحِكم وأقوال مشهورة، فضلاً عن الأغاني، والنكت، والمستملحات، والطرائف، والسّير، وسواها من أشكال التعابير المتوارثة التي تقوم في الغالب على الرواية الشفوية إلا أنها أصبحت في ما بعد تُكتب وتُدوّن وتُنقل عبر الذاكرة والمرويات اللسنيّة عن ظهر قلب من جيل إلى جيل. ويُعتبر الأدب الشعبي في العمق من الظواهر الاجتماعية الإبداعية التي تفصح عن أحاسيس مكنونة، في الضمير الشّعبيّ، كما أنها تعبّر عن مشاعر، وإفصاحات وإجهاشات، وحاجات الناس ورغباتهم، وطموحاتهم، وأهوائهم، وتطلّعاتهم، وشكاواهم، ومعاناتهم، وتَوْقِهم للمعرفة، ونشر الثقافة، وعناقِهِم للحرية والانعتاق.

الأدب الشعبي..سجلٌّ للوقائع والأحداث

يضطلع الأدب الشّعبي بدور هام في دراسة التطوّرات التي تطرأ على الحياة الذهنية، والفكرية، والروحية لأجدادنا الميامين وتسجيل الوقائع والأحداث والمستجدات في التاريخ البشري الاجتماعي في مراحله الأولى البعيدة الضاربة في القدم، والأدب الشعبي في الوقت الذي يعتمد أساساً على المرويات وسبر الخيال المجنّح يتضمّن رسائل ورموزاً وأبعاداً كونية عميقة الغور بتعرّضه للخرافات، والأساطير، والخوارق، والملاحم، والأخبار، والأحداث التي سجلها التاريخ ودوّنها ذهنياً وعن ظهر قلب أجداد البشرية في ماضيهم السحيق في مختلف أنحاء المعمور؛ فضلاً عن رواية المعتقدات الدينية القديمة في مختلف أشكالها، من تضحيات، وقرابين. وكانت غالباً ما تتخلل هذه الطقوس أهازيج الغناء، والصّياح، والزّغاريد، والرّقص، والسّحر، والشّعر، ولبس الأقنعة، والتحصّن بالدروع الواقية، وتمثيل الأحداث، وتجسيم الوقائع بطرق بدائية، سحرية، فطرية، عفوية بسيطة. ولقد سجل لنا الأدب الشعبي الشفاهي المتوارث صراعات الإنسان البدائي مع أمّه الأولى الطبيعة، ووصف لنا الخوارق المفزعة، والأهوال المُرعبة، والأحداث الرّهيبة التي تعرّض لها الإنسان البدائي الأوّل وكيف واجه بضراوة الزوابع، والتوابع، والعواصف، والأعاصير، والزلازل، والطوفانات، والبراكين، ومختلف أنواع القوى الغيبية، والتغييرات الطبيعيّة من كسوف وخسوف، وتبدل الليل والنهار، وتعاقب النور والظلام، وهطول الأمطار الطوفانية الغزيرة، والفيضانات المُدمّرة التي تأتي على الأخضر واليابس.

التراث الشعبي والرّواة

يقول الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام": "إن رواة القصص كانوا يستمدون مادة قصصهم من الأساطير والخرافات السائرة المتنقلة بين الأمم، ومن الأخبار والأحاديث الخرافية والتاريخية المأثورة، عن العرب وعمّن جاورهم. وعلى الرغم من أننا لا نملك أصول هذه القصص، فإن اللغويين والرواة في العصر العباسي دوّنوا ما انتهى إليهم منها، ولبعض قصص العرب عندهم أصول تاريخية، لكنها لم تحافظ على نقاوتها، بل غلب عليها الخيال والأسطورة. ولبعض القصص أصول أعجمية، دخلت إلى المجتمع العربي من منابع خارجية يونانية وفارسية ونصرانية". وأوضح د. طقوش أن "أكثر ما كان يتناقله العرب الجاهليون على ألسنتهم أيامهم وحروبهم وانتصارات أبطالهم، وما مُنيت به بعض قبائلهم من هزائم، بالإضافة إلى قصص عن ملوك المناذرة والغساسنة والحميريين. وكانت هذه القصص تخالف الواقع التاريخي أحياناً، ولا تتفق مع وثائق التاريخ الروماني". ومعروف أن هذه القصص والحكايات وصلتنا عن طريق التراث الشعب الشفاهي المروي، أيّ إنها وصلتنا عن طريق الرواة، إذ يخبرنا التاريخ أنه كان هناك رواة متخصّصون في حفظ الشعر في المرحلة الزمنية التي تُسمّى الجاهلية، من قبيل خلف الأحمر، وحمّاد الراوية وسواهما من الرواة الكبار الذين حظوا بشهرة واسعة ممّن يسمّون "حملة التراث الشعبي الشفوي". وقد جعل الجاهليون الرواية مطيّةً لحفظ أشعارهم، ومعلّقاتهم. هذا التراث غالباً ما يكون أصحابه مجهولين مثل الحكايات، والحِكم، والأمثال، والأقوال المأثورة، والأحاجي، والألغاز؛ في حين هناك مرويات يبقى أصحابها معروفين مثل (نصوص الشعر) على سبيل المثال.

ويرى الدارسون أنه ليس كلّ ما يُكتب بالفصحى يعتبر أدبا رسميا، فهناك كثير من الآثار الأدبية المشهورة رويت بالفصحى البسيطة وهي مع ذلك يتمّ تصنيفها في الآداب الشفوية أو الشعبية، وأشهرها في هذا المجال ألف ليلة وليلة والسير العربية القديمة. ويرى البعض الآخر أنه ليس كلّ ما يكتب بالعامية يعد أدبا شعبيا؛ ذلك أن ما يكتبه المثقفون من مسرحيات وروايات وشعر الغناء بالعامية لا ينضوي تحت الأدب الشعبي؛ وهو التراث التلقائي الشفاهي المتوارث، جيلاً بعد جيل المرتبط بالعادات، والأعراف، والتقاليد.

ولقد أسهم الرّواة في نقل التراث العربي الشعبي العريق، وكان القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف تتمّ روايتهما في البداية شفاهياً. ومعروف أنّ التراث العربي وصلنا عن طريق الرواية قبل أن تظهر أو تتوفّر وسائل الطباعة والنشر والتدوين. ومعروف أن الشعر الجاهلي القديم ظلّ غير مكتوب نحو قرنين من الزمان وظل الرواة يتناقله شفاهيّاً، ما جعل منه عرضةً للخطأ، والتحريف، والتغيير، ومع ذلك فهو يندرج ضمن الأدب الرسمي، حتى وإن كان أدبا مروياً ومسموعا بالتواتر.

وقد توارثت الأجيال الأدب الشعبي من أفواه الشيوخ، وأصحاب الحلقات في الساحات العمومية، أو من فم المداحين، وهم المغنون في الأسواق، حيث يتم ترسيخه في الذاكرة البشرية الجماعية. وأشهر هذه الساحات الكبرى عندنا ساحة "جامع الفنا" بمراكش التي أصبحت تراثاً ثقافياً إنسانياً لا ماديّاً معترفاً به من طرف منظمة اليونسكو العالمية. الإنتاج الشفاهي يمكن أن يتحول إلى إنتاج مكتوب والعكس صحيح. وللدلالة على هذه العلاقة الموضوعية بين الأدب الشفاهي الشعبي وبعض الأعمال الشعبية الشهيرة كالحكايات والأغاني والسّير التي انتقلت من مرحلة الأدب الشفاهي إلى مرحلة الأدب المكتوب نذكر سيرة عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي، والظاهر بيبرس، والأميرة ذات الهمة، وسواها من الحكايات.

الأدب الشعبي الشفاهي ينتمي إلى الماضي البعيد، ومع مرور الزمن يطرأ عليه التغيير والتبديل والتحريف، له احتكاك مباشر بالواقع الذي عاش في كنفه وانبثق منه، وهو يعبّر عن الوعي الفردي والجماعي للشعوب، وهو ينتقل من جيل إلى جيل شكلاً ومضموناً، وهو محمّل بمبادئ وقيم وحكم وفلسفة الأقدمين الموغلة في الأزمان السّحيقة، وهو يرسخ في الذاكرة الجماعية المشتركة كتابةً وتدويناً، وحفظاً شفويّاً. والشعوب هي التي تصنع وترصّع النصوص التي تعكس وجدان مختلف شرائح المجتمع.

الأدب الحَسّاني ومَحَاسِنُه

يعتبر "الأدب الشفوي" بشكل عام مكوناً أساسيًا لثقافة الأمم، ويتمّ تناقله عبر الكلمة المنطوقة أو المروية أو المُغناة. والمجتمعات القديمة لم تكن تمتلك أدباً مكتوباً حينها إلاّ أنه كان لها تراث شفهي متوارث من قبيل الأساطير، والحكايات والملاحم الشعبية، والفولكلور بشتى ضروبه، والأمثال والأغاني الشعبية. في هذا السياق يندرج الأدب الحسّاني كغرَضٍ من أغراض الإبداع، وكعِلمٍ قائمٍ الذات، من حيث موسيقاه الصادحة، وشعره العميق، وألحانه الرخيمة التي تعبّر عن روح سائر شرائح السكان في أقاصي جنوب المغرب وضواحيه وأرباضه. ويؤكد الدارسون لهذا الفن الإبداعي الشعبي المتوارث أننا واجدون فيه مقوماتٍ موضوعيةً وقواعدَ وضعية ومنهجية ونظرياتٍ دقيقة، وليس مجرد مقطوعات فنية جمالية شعراً، ولحناً، وصوتاً، وإيقاعاً، وبلاغةً، ومضمونا..فالشعر الحسّاني كما هو معروف له بُحوره، وعَرُوضه، وقواعده؛ ولهذه البحور مُحسّناتها البديعية، ومَحاسنها اللفظية، وأبعادها المعنوية الموفية والموحية التي تزيدها رونقاً وجمالاً، مثله في ذلك مثل الشعر العربي المُقفىَّ الأصيل. وللشعر الحسّاني خصائص ومميزات تاريخية، واجتماعية وسواها. ولاستيعاب الموضوع من طرف المتلقي يُفترض أن يكون من مشارب ثقافية معينة، وعلى مستويات عليا من النضج.

أمام هذا الزّخم الشعبي الإبداعي الزّاخر فإنه من الضروري للمتتبعين لهذا الجانب الثقافي الهام الحفاظ على قيم التراث الشفوي على اختلاف مشاربه، وضروبه وأنواعه باعتباره تراثاً حيّاً وشكلاً من أشكال التعبير الشفاهي في مختلف المناطق والأصقاع.

الأخَوَان جْرِيمْ

من الحكايات ذات المسحة الرومانسية التي اشتهرت في العصر الحديث في ألمانيا على وجه الخصوص كمثال لما نقول قصص الأخَوَان "غْرِيم" جاكوب، وويلهيلم، اللذان طفقا في كتابة هذه القصص عام 1806؛ كانا يتردّدان على النساء الطاعنات في السنّ، والبائعات المتجوّلات، والجنود، والفلاّحين، ويرتادان الأسواق العامّة لمدينة كاسل ومواخيرها لجمع القصص والحكايات الشعبية الشفوية المتوارثة. هذه الحكايات العجيبة رأت النور عام 1814 بمساعدة بعض أسر النبلاء، وراوية القصص الشهيرة بائعة الخضر "دوروثي فيهمان" التي كانت تبهر الأخوين غريم، إذ كان في مقدورها أن تتلو قصصهما بنفس الكلمات حفظاً عن ظهر قلب..وبدأت شهرتهما تنتشر انتشار النار في الهشيم، وكانت الغاية من وضعهما لهذه القصص هي الغوص في أعماق الجذور الجرمانية القديمة، والتطلّع نحو هويّة ألمانية وطنية موحّدة، ورسالتها هي بسط العدالة، وتعميق القيم والترهيب. هذه القصص منتشرة بصيغ متباينة في مختلف الأصقاع الأوربية-الأسيوية، بل إنّ لها صيغاً أخرى في مختلف بلدان العالم، فهي تنتقل من بلد إلى آخر مع الرحّالة والتجار والبحّارة والمحاربين والمسافرين. وهكذا أصبح الكبار والصغار في مختلف أنحاء المعمور يعرفون السّندريلاّ، وبيضاء الثلج، والحسناء النائمة إلخ. وأصبحت الحكايات التي كانت الجدات ترويها لأحفادهنّ قبيل الخلود إلى النوم تحتلّ حيّزاً مهمّاً في مختلف بلدان العالم.

وتحظى القصص والحكايات المستوحاة من التراث العربي الزاخر، مثل "ألف ليلة وليلة"، باهتمام القرّاء في مختلف أنحاء المعمور، مثل "مصباح علاء الدين" الذي أصبح عندهم "ألادينو"، و"صلاح الدّين" الذي أصبح عندهم "صلادينو"، أو "علي بابا والأربعون حرامي"، أو قصص مستوحاة من "كليلة ودمنة" لعبد الله ابن المقفّع وسواها. كلّ هذه العناوين أو ما هو مقتبس أو مستوحىً أو مستعار منها لا نجدها في الكتب وحسب في حلل قشيبة رائعة، بل إنّنا نجدها كذلك على الشاشة الكبيرة والتلفزيون. وما فتئت هذه الأعمال تستحوذ على قلوب الصّغار والكبار على حدّ سواء وتُسحِر ألبابهم، وتنتقل من لسان إلى آخر.

إشكالية الثابت والمُتحوّل

وتواجهنا في الأدب الشفاهي الشعبي إشكالية الثابت والمتحوّل، أو الأثيل والدخيل، وهو موضوع سال من أجله مداد غزير، فهناك من يتشبّث بالأصول لا يرضى بها أو لها بديلاً تحت ذريعة حفظ الهويّة والجذور، وهناك من يعانق كلّ جديدٍ وافدٍ كَسِمَةٍ من سمات الانفتاح، والتطوّر، والتحديث، والعصرنة، وهناك من يحاول الجمع، أو التقريب بين هاذين التيارين اللذين يبدوان للوهلة الأولى وكأنّهما يقومان على طرفيْ نقيض. وينطبق هذا على مختلف مجالات الفكر، والثقافة، والآداب، والعلوم، والشعر، والشريعة، والتاريخ. فالثابت معناه الرّسخ أو الرّاسخ، ومعناه الديمومة، والاستمرارية، والبقاء، وأمّا المتحوّل، أو المتحرّك، أو المتنقّل فمعناه التبدّل، أو التغيّر.. ويؤكّد الناقدان الإنجليزيان "ريتشاردز وأوغدن" في كتابيْهما المعروف 'في معنى المعنى' أنّ الأدب "مخلوق حيّ يدبّ على قدمين"، وهو ليس جامداً، أو هامداً بل إنه في تبدّل وتطوّر دائميْن، وهو في نموّ مطّرد، وتغيّر متواصل. وإلقاء نظرة على تاريخنا وثقافتنا ولغتنا في مختلف العصور يؤكّد لنا مصداق هذا القول. فالانفتاح الذي طبع ثقافتنا هو الذي كفل لها الغِنىَ والثراء، والتنوّع والتعدّدية، وبشكلٍ خاص التطوّر والاستمرارية اللذين تتميّز بهما اليوم متشبّثة بماضيها التليد.

*كاتب وباحث من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا