تحليل

في الحاجة إلى علم النفس

عبد القادر أزداد*

في ظل مناخ عام مشوب بالقلق والشك في مجموعة من التيارات الفكرية التي كانت إلى عهد قريب تؤطر العلاقة بين الإنسان وذاته من جهة، وبينه وبين محيطه من جهة ثانية، ظلت أسئلة عالقة تراود الإنسان مع مطلع القرن الواحد والعشرين، على الصعيد الكوني كما الإقليمي والمحلي. ولعل طابع عدم الاستقرار الذي تعرفه أغلب المجتمعات، والثورة المعلوماتية الجارفة وعجز المؤسسات التقليدية المهتمة بالتنشئة الاجتماعية والتأطير، وجل الأطر الاجتماعية للمعرفة، عن مواكبة الرغبات الجامحة لأغلب فئات المجتمع في التغيير، كلها عوامل عجلت بضرورة البحث عن مجال معرفي يفيد في الإجابة عن الأسئلة المقلقة والمحرجة أحيانا، أو يساعد على إيجاد الحلول لكثير من المشاكل والقضايا التي تهم الإنسان، واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها. ويعد علم النفس في نظرنا من الحقول المعرفية التي بإمكانها أن تلعب هذا الدور.

إن السيكولوجيا كعلم استقل عن الفلسفة في الغرب منذ القرن التاسع عشر، بينما لم يستقل عن الفلسفة عندنا في المغرب إلا في بداية القرن الواحد والعشرين، وبالضبط سنة 2003، إذ أصبحت شعبتا الرباط وفاس مستقلتين عن شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع (ليتم بعد ذلك تأسيس مسالك بإمكانيات متواضعة بكل من المحمدية 2010، والدار البيضاء 2016 والقنيطرة 2017)؛ وهذا خير دليل على أننا لم نهتم بهذا العلم مؤسساتيا إلا منذ 16 سنة فقط، رغم اجتهادات سابقة عن هذا التاريخ لبعض الكفاءات العلمية الوطنية المتميزة، بكل من جامعتي فاس والرباط، من أجل تأسيس مدراس علمية في هذا التخصص تضاهي نظيرتها في كبريات الجامعات العالمية، في ظل ظروف اشتغال متردية تساعد على الفشل أكثر مما توفر شروط النجاح.

شخصيا ما كنت سأتناول هذا الموضوع هنا وبهذا الطريقة لولا أنني تابعت تصريحين للسيد رئيس الحكومة مؤخرا، يقول في مضمونهما إنه استعان بكتب علم النفس من أجل حل كثير من القضايا الشائكة، وإن هذه الكتب ساعدته على التزام الهدوء والتصدي للمشاكل السياسية والاجتماعية التي واجهها قبل وأثناء فصول الحوار الاجتماعي.

ولست هنا في حاجة إلى توضيح علاقة علم النفس بالسياسة (سأعود إليها في مقال مستقل لاحقا)، بل فقط لأطرح سؤالا عريضا: ماذا قدمت الدولة لعلم النفس في الجامعة المغربية حتى تلجأ إليه الآن لحل مثل هكذا قضايا؟ أو بالأحرى هل وفرت الدولة في شخص القطاع الوصي على البحث العلمي والتعليم العالي منذ عقود شروطا مناسبة لنشأة ونجاح بحث سيكولوجي بالمعنى الصحيح للكلمة؟.. كممارس في التدريس الجامعي أستطيع التأكيد أن هذا العلم يعيش وضعية شاذة داخل كليات الآداب من حيث التدريس والتأطير البيداغوجي والبحث العلمي، ويدرس بالطريقة التي تدرس بها التخصصات الأدبية والعقائدية، في حين يحتاج علم النفس الحديث إلى تجهيزات ومختبرات تجريبية وبنيات تحية خاصة، وأطر وموارد بشرية قادرة على مواكبة البحث العلمي نظريا وميدانيا كما يمارس كونيا من جهة، وتكييف أساليبه واختباراته والتأصيل له في سياق علمي محظ في منأى عن كل تعسف معرفي وإقحام إيديولوجي يزيغ بالإشكاليات العلمية عن مسارها المتعارف عليه دوليا.

فلا سبيل إلى أي تقدم علمي في هذا التخصص المهم والضروري في كل المجالات المعرفية والمهنية والحياتية دون إحداث مختبرات ومراكز للبحث السيكولوجي مجهزة ماديا، علميا وتقنيا، وتوفير الإمكانات والحرية اللامشروطة وغير المقيدة للباحثين في الجامعات الوطنية وتبسيط المساطر البيروقراطية.

وأود أن أشير إلى أن التمثلات الشعبية وغير الصحيحة لعلم النفس أدت في كثير من الأحيان إلى جعله ضحية لسوء الفهم، إذ اختزل فقط في الاضطرابات النفسية والحالات الشاذة والأمراض العقلية، ما أبعده عن اهتمامات أغلبية أفراد المجتمع، وهذه صورة نمطية غير ذات مصداقية عن السيكولوجيا، أصبحت تتلاشى في السنوات الأخيرة بفعل الإقبال على دراسته من قبل مختلف الفئات العمرية. كما أنه ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي ظهرت مقاربات جديدة في علم النفس تهتم بتطوير الكفاءات الإنسانية، وتحسين المردودية والمساعدة على النجاح والمعالجة الاستباقية لمجموعة من الظواهر المشينة والسلبية، وتجويد الإنجاز في مختلف المجالات، بواسطة براديكم جديد أحدث ثورة غير مسبوقة في مقاربة الظاهرة النفسية، وأعاد النظر في المعجم السيكولوجي المتداول بصورة قدحية.

إن ما يهمنا في إثارتنا لهذا الموضوع ليس هو السياق الذي صرح فيه السيد رئيس الحكومة بمناسبة فاتح ماي، ولا تزكية مضمون وقيمة الاتفاق الاجتماعي الذي يبقى دون التطلعات والطموحات، بل التأكيد على أن لجوء السيد رئيس الحكومة إلى طلب النجدة من السيكولوجيا لحل مشكلات السياسة والمجتمع لخير دليل على بؤس السياسة، ونجاح العلم في حل القضايا العالقة؛ وهو اعتراف صريح من رجل دولة يـرأس السلطة التنفيذية بالبلد بأننا في حاجة مستعجلة إلى علم النفس أكثر من أي وقت مضى، بدل حاجتنا إلى التستر وراء انتماءات إيديولوجية وتيارات غوغائية، تهرول نحو السلطة من أجل المصلحة الشخصية بأسلوب نكوصي، دون التحرر من العقد الذاتية والطفولية.

وأملي أن تكون هناك التفاتة جدية من أجل دعم علم النفس داخل الجامعة المغربية، وفي كل مؤسسات التعليم العالي، وأن يحظى هذا العلم بما يلزم من العناية في ما يرتقب من إصلاحات بيداغوجية مقبلة، لما له من أهمية مستعجلة في تقديم الإجابات عن المشكلات الحقيقية التي تهم تنمية الإنسان والمجتمع على مختلف الأصعدة.

 

*أستاذ باحث في علم النفس -كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق -جامعة الحسن الثاني-الدار البيضاء