رأي

عبد الرحيم الفارسي: من وحي المقهى في الطريق إلى (ست الشاي)

 

أتقلب في مكاني بالمكتب، صوت جهاز التكييف مزعج، وشاشة التلفزيون تتحلى فجأة باللون الأصفر . يقول الخبر العاجل: ترامب ينفي في تغريدة له أي سعي من واشنطن للتفاوض مع طهران.

لازال الوقت نهارا في أمريكا، أما هنا فقد تناولنا طعام إفطار رمضان قبل نحو ساعتين. كان إفطارا باذخا مع مجموعة من الأصدقاء بمطعم أحد الفنادق الفخمة. لقد شربت الكثير من السوائل حتى أصبحت أجد بعض الصعوبة في الحركة.

أعدِّل جلستي بالمكتب، ثم أخبر الزملاء بأنني مغادر إلى الفندق الذي يبعد عنا بنحو كيلومترين. لقد قررت أن أقطع المسافة سيرا على القدمين.

في الحقيقة أريد أن أحرق بعضا من السعرات الحرارية التي تراكمت في الآونة الأخيرة بفعل الخمول الاضطراري مع الصوم وشدة الحرارة.

صوت بداخلي يدفعني إلى شرب كأس قهوة عند (ست الشاي).

أمر بمجموعة من العساكر في أقرب نقطة مراقبة. أحدهم يصب الماء على قدميه منهيا الوضوء. الثاني يجلس على كرسي وقد رفع قدميه الحافيتين في الهواء، وكفاه ممسكتان بهاتف محمول. أمر  خلفه ملقيا نظرة خاطفة. إنه منهمك في لعبة فيديو. لعله يخوض حربا افتراضية تلهيه عن واقعه العنيد. أمرُّ وحيدا بجانب العربة العسكرية، فيكاد كتفي الأيسر يحتك برزمة من قذائف الآر بي جي. هذا خطأ جسيم في العرف العسكري. لا تدع عينيك تغمضان أبدا على قذائفك أو أسلحتك الرشاشة. هذه مقولة سمعتها تتكرر أثناء تغطياتي في مواقع الجيش البريطاني.

والآن ما لنا ومال بريطانيا بنا، ألستَ في الخرطوم؟.

أجل معك حق. أرد على الصوت الداخلي. لكنني أحب أن أجادله: ألم يكن السودان جزءا من الامبراطورية البريطانية؟. تجيب ذاكرتي: أجل هذا صحيح، بل حتى جيشها استعار في تشكيلته وعقيدته الكثيرَ من المدرسة العسكرية البريطانية.

أجتاز وسط الطريق المكتظ بالعربات. أتلطَّف السائقين ليتركوني أمر دون دهسي. يفرج أحدهم عن ابتسامة عريضة وسريعة، لمحتها من أسنانه الناصعة التي ظهرت فجأة واختفت بسرعة.

تمر شاحنة كبيرة، ثم أخرى أقل حجما، فتتركان خلفهما نسمة خفيفة ممزوجة بغبار، تستقر إحدى حباته في عيني اليسرى.

أتذكر حديثا جرى بيني وبين إعلامي شاب زارني في المكتب قبل ساعة.

لقد وجد هذا الشاب نفسه محشورا مع عشرات من المعتقلين داخل شاحنة لنقل السلع. يقول إن أفرادت من قوات الأمن اعتلوا سطح الشاحنة موجهين بنادقهم نحو المحشورين بداخلها، وصاح أحد الأمنيين: إنه إعلامي ينقل أخبارنا إلى العالم.

تلقى جسد الشاب ضربة بقضيب طويل على رأسه، وأخرى حطت على عظم كتفه.

كان ذلك في السابع عشر من يناير الماضي. يتذكر محدثي ذلك بمرارة. فبينما كان خارجا للتو من مبنى الصحيفة التي يعمل فيها، كان بانتظاره عدد من عناصر المخابرات والأمن. قالوا له تفضل معنا، وما هي إلا فترة قصيرة حتى وجد نفسه مع مئات من المعتقلين. لم يكن له مكان يؤويه، إذ إن عدد المعتقلين بلغ نحو ألف وخمسمائة، فتقرر نقله إلى مكان تجميع آخر، ليكتشف أن محل الاعتقال ذاك يكاد ينفجر لكثرة "الضيوف". فتقرر مرة أخرى نقله إلى أم درمان على متن الشاحنة، وهناك انهالت عليه العصي. يقول محدثي إنه كان بين أيدي عناصر من "هيئة العمليات" التابعة لإدارة الأمن، يعاونهم في ذلك عناصر من ميليشيات موازية سهر الرئيس الذي سيخلع لاحقا، عمر حسن البشير ، على تشكيلها لعلها تقيه "شر" التمرد حين يقوم الشعب من غفوته.

آه منك يا مؤسسات الدولة حين تأتمرين بأوامر الأشخاص الفانين.

منذ شهرين توجهت عضو في البرلمان البريطاني في لندن نحو حديقة مجاورة نستخدمها نحن معشر الصحفيين في رسائلنا التلفزيونية المباشرة.

وما إن وصلت السيدة إلى نقطة عمل القناة التي استضافتها وهمَّت بالعودة، حتى طوقها عدد من أنصار البريكسيت، وظلوا يلاحقونها بشكل لصيق إلى أن دخلت مبنى مجلس العموم. كل ذلك جرى بمرأى من عناصر شرطة حماية البرلمان الذين وقفوا على الحياد. وما إن علم النواب بالبرلمان بذلك حتى ثارت ثائرتهم. لكن عناصر أمن البرلمان الذين كانوا يحملون أسلحة رشاشة، تحججوا بأنه ليس من صلاحيتهم التدخل. مضت بضع ساعات فصدر الأمر، ومنح عناصر الشرطة صلاحية التدخل لحماية البرلمانيين من مضايقات المحتجين.

إنها دولة المؤسسات يا سادة.

تنقطع حركة المرور. أسمع وقع حذائي على الأرض. في ركن مظلم تقف عربة عسكرية أخرى. يتحلق أربعة جنود حول سيدة تبيع القهوة والشاي. الحديث بينهم خافت. يا لروعتك يا ست الشاي. لا يهم سن المرأة. قد تكون في بداية العشرينات من العمر، وقد تتجاوز السبعين. هذه المرأة تتميز بالهدوء. لا يتحرك منها سوى اليدان. إحداهما تحرك الجمر وتُغلي الماء والقهوة أو الشاي، والأخرى تحمل ملعقة السكر. ولا تقوم من مكانها إلا لتوصل الكأس الساخن إلى الزبون. حركة جسدها بطيئة.

إنها صيغة محلية من سلسلة (Starbucks) و(Caffè Nero). لكن طعم ما يقدمنه ألذ على لساني من السلسلتين العالميتين.

أمر بمجموعة من الرجال يلعبون الورق. يفسح أحدهم الطريق لي. يبتسم وقد امتدت يده نحو فمه حاملة قطعة حلوى.

بالصحة والعافية.

تفضل معنا، يقول وقد امتلأ فمه.

أشكره وأمضي شاقا طريقي.

تختفي الأنوار والسيارات.

 عن يساري القنصلية العامة لجمهورية مصر العربية. آه يا سلام يا مصر.

يقفز الماضي العنيد أمام عيني.

في أحد أيام أواخر يوليو عام 1952 تقوم مجموعة غير معروفة لدى العامة من عساكر مصر الشبان، باقتحام القصر الملكي. يعلنون عن قيام "ثورة" في البلاد.

يطاح بالملك فاروق الثاني. فتنتهي الملكية إلى غير رجعة.

كان فاروق يحمل صفة ملك مصر والسودان.

يمضي أقل من أربع سنوات، فيكون فاروق قد فقد الملكية، ومصر فقدت السودان. نحن أمام بلدين مستقلين ذوي سيادة. ولو سارت الأمور في اتجاه آخر لما كانت هنا قنصلية.

قبالة هذا المبنى أقرأ لوحة كتب عليها: المجلس التشريعي لولاية الخرطوم (البرلمان سابقا).

أضحك ساخرا. قصتنا مع البرلمانات ممتعة. حين وصل البشير الى القصر الرئاسي في انقلاب عام 1989 بادر إلى إسقاط حكومة انتخبها الشعب بشكل ديمقراطي، وكان ممثلو الشعب يجلسون هنا.

آه كم من المياه جرت في النيل القريب، منذ ذلك الحين. وكم من مهازل مرت بالبرلمان الذي قال البشير وجبهة الانقاذ والمؤتمر وغيرهما من المسميات، إنهم جاءوا ليجعلوه يطبق شرع الله وتشريع القوانين عبره.

قبل ثلاثة أيام خرج من بضعة مساجد مئات من المتظاهرين بعد صلاة الجمعة، وصدحت حناجرهم مطالبة بتطبيق الشريعة. كم هو جميل تطبيق شرع الله. لكن كيف ذلك؟. أوليس أحب الناس إلى الله أنفعهم لعباده. يتساءل ناشط التقيت به في ميدان الاعتصام منذ أسبوع.

أوَلمْ يبقوا في السلطة ثلاثين عاما لم ينفذىا فيها الشريعة؟. يضيف هذا الشاب المتعلم الذي كان قد عاد للتو من صلاة التراويح.

ويردف قائلا: ثم دعنا نشرع في تطبيق الشريعة وتطبيق الحد على عناصر النظام السابق. ألمْ يسرقوا أموال الشعب؟ فلنقطع أيديهم من هلاف. ألم يعمَّ الفساد بر  السودان وبحره وحتى أجواءه؟ فلنجعلهم يحظون بتلك التشريعات التي اتخذوها شعارات.

ألتفت يمينا ويسارا، فأكتشف أنني تهت. أدنو من مراهق ملامحه عربية، لعله من إحدى القبائل اليمنية التي هاجرت إلى  البر الافريقي منذ قرون. أسأله: هلاَّ دللتني على الميدان المقابل ل(مول الواحة)؟. يقف بجسده النحيف، ويقول : لقد تجاوزته كثيرا. عد أدراجك "طوّالي"، ثم استدر يمينا.

أشكره، وأحث الخطو، لكي أصل إلى المكان الذي أبتغيه. في زاوية تحت عمودٍ إنارتِه قوية، يتمدد رجل ستيني فوق قطعة كرتون. أبادره بالسلام، فينظر إلي بعينين تفيضان سعادة: وعليكم السلام يا مولانا.

يا مولانا؟!. إنني في أرض الصوفية. وهذا يلقى في نفسي حبورا. أنا أيضا ولدت لأسرة يسري التصوف الفطري في شرايينها.

أنظر إلى لوحة أعلانية ضخمة، تعلوها جملة بالعامية: حلم اتحقق.

إنها تقوم بالدعاية لتجهيزات منزلية. لكن لعلها بشير خير.

أخيرا يظهر ميدان "ستات الشاي". الظلام دامس. الجمهور كثيف. وهنا عشر ستات شاي أو أكثر.

الزبائن لا يكفون عن الثرثرة. أصوات ذكورية وأخرى أنثوية تختلط في الفضاء. فوقنا بدر توسط السماء ويكاد يكتمل.

ووسط كل مجموعة، تلمع الوجوه بضوء الهواتف المحمولة.

أطلب كأس قهوة بالزنجبيل، وأتذكر أنه في هذه اللحظات يستضيف القصر الرئاسي جلسة مفاوضات جديدة يتوقع أن تنتهي باتفاق (المجلس العسكري الانتقالي) ووفد قوى (إعلان الحرية والتغيير) على تشكيل مجلس السيادة ونِسَب تمثيل الجانبين فيه وعلى من يترأسه.

وفي سجن كوبر، على بعد بصعة كيلومترات، يفترض أن البشير والكثير من رجالاته يقبعون خلف الجدران التي أرسلوا إليها آلافا من المعارضين لما كان الزمن زمنهم وهم أصحابه.

أنتظر نتيجة جلسة المفاوضات، أتذكر اللوحة الإعلانية. على بركة الله، لعل "ثورة" السودان الجديدة تحقن دماء السودانيين.