فن وإعلام

المسلسلات والسيتكومات الرمضانية الكوميدية... استسهال وابتذال وضحك على العقول...!

مصطفى قطبي

لا ينتظر ـ عادة ـ النقاد والصحفيون أن يضع الموسم التلفزيوني الرمضاني أوزاره حتى يباشروا تدبيج المقالات النقدية عن الأعمال الكوميدية المغربية التي تحفل بها القنوات المغربية في شهر رمضان الفضيل... فلم تعد المقالات الصحفية المدبجة تحت الطلب ومن صحفيين تحت الطلب، لمدح ذاك العمل الكوميدي أو غيره في هذا المنبر أو ذاك، لم تعد بقادرة على إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه من هرق ماء وجه بعض تلك الأعمال أمام الجمهور، وما كان يمرّ من طلاسم نقدية على القراء عن هذه الأعمال في تلك المقالات، لم يعد يمرّ، فمتفرج اليوم قراره بيده، وعندما يُجمع الجمهور على هبوط وانحدار السوية الفنية والفكرية والأخلاقية لعمل ما، فلا يكلفه الأمر إلا كبسة زر ليغير القناة، وهكذا تصبح الكوميديا بقنواتنا في أزمة عندما يهجرها حتى جمهورها.

لقد كنا نترقب أن نشاهد هذا الموسم مسلسلات وسيتكومات فكاهية محترمة، وأن تكون قنواتنا أخذت بمجمل الانتقادات التي لاحقت وتلاحق الإنتاجات الرمضانية في كل سنة، لكن الجديد الذي صعق المشاهد المغربي هو امتداد المساحات المخصصة للإشهار على طول البرامج المبثوثة. ويمكن القول أنه بالرغم من الاعتمادات المالية السمينة التي خصصت للأعمال 'الكوميدية' فإن هذه الإنتاجات  تترجم الرداءة والعجز في ترجمة قضايا وانشغالات المواطن المغربي. فلا شيء آخر في رمضان غير مسلسلات وسيتكومات الخردة والإعلانات تغتال شهرهم الفضيل بشكل مقنن و مدروس بعناية. فقد أصبح الإعلان ركيزة تجارة الإعلام وجوهرها ودجاجتها التي تبيض ذهباً، واقتحمت بيوتنا شركات متنافسة تضع عيناً على استغلال المشاهد، وقلباً على جيب المعلن، ولا شيء آخر.

لقد اختفى فن الكوميديا بالمغرب، واختفت معه الفكاهات التي تبرز عيوبنا أكثر ممّا تثير بداخلنا كوامن الضحك على أتفه الأسباب. فالمسلسلات الفكاهية والسيتكومات المغربية الرمضانية التي تقدمها قنواتنا المغربية، أصبحت تجعل الضحك هدفاً في ذاته، وتقف عند تصوير الظاهر وإثارة العواطف تهيئة للضحك حتى وإن كان منها ما يخدش الحياء، وكأنّنا أصبحنا لا نضحك إلا على الرخيص من الكلمات والحركات، ولعل الإنتاج الفكاهي الرمضاني خير شاهد على الإسفاف الذي وصلنا إليه من خلال كتابات لا ترقى لجوهر الضحك في ذاته.

وعند تناول الأعمال الفكاهية الرمضانية وفق المنظور الثقافي نجد أن السمة الغالبة لها هي التسطيح وتغييب العقل وانتفاء التفكير، فالمشاهد المغربي وجد نفسه مجبراً على مشاهدة مهازل كوميدية عوض أن تنتزع الابتسامة والضحكة منه. فالكتابة المغربية للدراما الرمضانية ما زالت بدائية وضعيفة في الجانب الفكري والثقافي، وكثير من كتاب السيناريو الذين يعتقدون أنهم أصحاب شهرة في الكتابة لم يقدموا ما هو مطلوب منهم، لأن هذا النوع من الكتابة هو علم بحد ذاته له قوانين وشروط، وبالتالي لا يمكن أن نسمي المتطفلين عليه كتاب نص، وهناك أيضاً أزمة مخرجين غير مثقفين يقدمون أعمالاً لا تحمل أي مضمون فكري حتى عندما يقدمون مشكلة اجتماعية يسعون إلى تضخيمها بشكل مثير دون التطرق إلى معالجتها وتقديم حلول لها والأمثلة كثيرة، هذا يسيء إلى الإنتاجات المغربية لأنها تقدم إلى الناس بأسلوب سلبي لا يحترم المشاهد. فالإنتاجات الرمضانية المغربية لازالت متخلفة رغم وجود جيل جديد من الفنيين من مصورين ومونتاجيين ومكساجيين ومصممي إنارة وصوت...

فقد ظل هؤلاء أسرى الحدود الصارمة التي يفرضها سيناريو مرتبك نابع من ورشة كتابة، فمثل هذا السيناريو لا يسمح بالخيارات الإبداعية، ورؤية إخراجية منفلتة تسمح للممثل بالارتجال وبلا حدود، كما أن حداثة تقنيات التصوير لم تستغل استغلالاً أمثل، حيث بقيت اللقطة أسيرة المكان، والصورة أقرب منها إلى الثبات منها إلى الحركة، بالإضافة إلى اعتماد الديكورات المبالغ فيها، وكأن الدراما ما زالت أسيرة الأماكن المغلقة، ناهيكم عن الاعتماد غير المبرر في أحوال كثيرة على الإضاءة الواسعة.

للأسف، لقد اعتدنا أن ننظر إلى الكوميديا باعتبارها فناً أقل قدراً من التراجيديا، وذلك لارتباط الكوميديا بالهزل والتراجيديا بالجد، والجدّ قطعاً أرفع شأناً من الهزل، ولكن هذا المفهوم خاطئ لأنّ فن الكوميديا ليس هزلاً وإن أثار الضحكات وليس كل الملهاوات حتى ما اقترب منها من الهزل بهازلة. ومصدر الاختلاط والبلبلة يعود إلى الضحك وما يرتبط بها من اعتباره روح الهزل، واحترام البكاء وما يرتبط به من نزعة الجد والرزانة...

أعتقد أن 'الكوميديا' في الدراما كما في الأدب، هي موقف من الحياة يقول ما لا نستطيع قوله مجاهرة وصراحة، ففي بعض جوانبها الشفاهيّة، هي حيلة الضعيف ضدّ القويّ المتجبّر، سلاحُ البسطاء ضد المتسلطين على رقابهم وأرزاقهم، في محاولة عفوية منهم للحفاظ على اتزان عقولهم ونضارة أرواحهم، وهي أيضاً في شكلها المكتوب والموثق قدرة فكرية عالية على نقد الاعوجاج الاجتماعي والنفسي والفكري، وحتى التطرف العقائدي، بل تستفيد من ذلك الجمود لتخلق المفارقات المضحكة بين الجديّ والهزليّ، بين الجافِّ الجلِف والمرِحِ خفيفِ الدم، بين العبوس والابتسامة!

إنّ ما أقدمت عليه قنواتنا الفضائية كرهان لإضحاك المشاهدين في شهر رمضان، يبدو متسرّعاً وغير محسوب، مادام ما يقدم لا يرقى إلى المشاهدة المغربية، فما يقدم هو عبارة عن إنتاجات محلية تختص جهة من المملكة وليس المغرب برمّته، حيث تمّ التعامل مع وجوه خاصة من الكوميديين، وتمّ تجاهل وتغييب فنانين لهم طاقات فنية رائعة وراقية، سواء بالشمال أو الجنوب وبمختلف المناطق المغربية. أما الفكاهة فقد غاب عنها الذوق الفني والإبداع، فقد جاءت سطحية اعتمدت بكل أسف على لون التورية اللفظية وبالذات فن 'القافية' و'الردح' وهذا الفن لا يمكن أن يندرج في فن الكوميديا.

والسواد الأعظم مما يعرض على المشاهد المغربي ليس سوى زبد لا ينفع ولا يفيد إذ يحتوي على الكثير من الإسفاف والضعف وتفاهة الأفكار، وتكرارها، ناهيك عن ترويج العديد من المبادىء التي تتعارض مع قيم المجتمع وحرمة الشهر الفضيل. فما قدم وما عايناه وتتبعناه يوحي بأن لا تغيير حدث، حيث ظلت قنواتنا على حالها، تنتج وتقدم أعمالاً فيها كثرة الكلام وصراخ صوت الفنانين والارتجال في الحوار والاعتماد على الحركات البهلوانية.

وللأسف فهذه الكتابات التي تأتي تحت الطلب، انتشرت لدى عدد كبير من كتابنا، محاولة إرضاء الجمهور بكلمات رخيصة ادّعوا أنها إبداعاً وقد ساعدهم في ذلك الشركات التي لا تنفق أموالها على الأعمال الجادة، ثم تبعها المخرجون الذين يطالبون الكتّاب بكتابة أعمال ترضي رغبات المنتجين... وهكذا اضطر الكتّاب والمخرجون إلى نفخ أي موضوع أو قضية كيما تملأ الحلقات الثلاثين، فانخفضت الجودة الفنية وبدت المشاهد باهتة وباردة لا روح فيها تكاد تبتذل مع سطحية العادي من التصرفات والحوارات، ومن جهة أخرى يهرب المؤلف والمخرج إلى زوايا عارضة وتميّع المواقف ويغلب البطء والتكرار والثرثرة وتضمحل قيمة الفن المركزة والإشارة والتي تؤكد قدرة المتلقي على التفكير والتأويل واستيعاب الاحتمالات مع كثير من جوانب الأحداث وملامح الشخصيات الدرامية.

وهكذا تدنى مستوى الكوميديا لتقترب إلى مفارقات عجيبة لأشخاص لا يتبادلون أكثر من النكات والسخرية من أنفسهم بلا مغزى لما يقولونه، حتى وصل بنا الحال إلى إنتاجات تجارية اختلط فيها مفهوم الكوميديا بالتسلية عن طريق أي وسيلة ممكنة... والغريب أننا أمام هذه العاهات الكوميدية لا نجد إلاّ جواباً مبتسراً في الزعم القائل: 'الجمهور المغربي باغي يضحك'. لقد أصبحت كلمة 'الجمهور المغربي باغي يضحك' شعاراً سهلاً ورائجاً لا يدانيه في الرواج إلا الأعمال الفنية الهابطة التافهة والهزيلة التي يتدثر أصحابها به ويتسترون في داخلها خلفه. وهذا الشعار هو الدرع الواقي الذي تحتمي به قنواتنا، ومرجع ذلك أصلاً وأساساً، أن مفهوم الثقافة لا يزال قاصراً على أنها مجرد حلية أو زينة أو مجالا للتسلية والترفيه والمتعة، وليست قوة مادية دافعة في بناء حياتنا الإنسانية... ثم لأن الثقافة بفضل هذا المفهوم وعلى مدى تطورنا بحياتنا نحو الأخذ بأسباب التطور لم تدخل في صميم تكويننا المتطور كإسمنت لبناءه.

فقضية العلاقة بين المشاهد وما يقدم له من أطباق فنية، هي قضية الساعة، وهي قضية قديمة متجددة، ولكنها قضية جوهرية يتحتم الفصل فيها بمقياس صحيح. واليوم مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، الذي خلق رجع الصدى التفاعلي بين المبدع والمتلقي، تحوّل المتلقي إلى ناقد، يستطيع متى يشاء، وبالكلمات التي يراها مناسبة، أن يُقيّم أي عمل درامي، موجهاً نقده إلى القائمين على العمل أنفسهم، فيبدي إعجابه أو سخطه، وقد يصل به الأمر إلى السخرية اللاذعة من أخطاء بعض هذه الأعمال، وتحويلها إلى 'كاريكاتور فيسبوكي' منتقدين الاستخفاف بعقول الجماهير التي اعتادت مستوى معيناً للكوميديا المغربية، ورافضة انهيار جزء من تحصيناته على يد بعض صائدي الأرباح في المياه العكرة

فالهزلية التي يشهدها الفن الكوميدي بقنواتنا المغربية تعتبر مشكلة، حيث تقدم للمشاهد هذا المستوى الهزيل ليعتادوا عليه وليترك آثاره في ركود يختفي معه التحفيز، ويتسع الإحساس المغلوط بالحياة مع إلحاح تلك الأعمال على الجمهور، وفي هذا الموقع نتذكر أن قنواتنا ببرامجها وأعمالها الكوميدية غدت النافذة المعرفية والإمكانية الثقافية لمعظم قطاعات المجتمع المغربي ممن لم يحصلوا الدراسة أو هؤلاء الذين يتراجع رصيدهم المعرفي والثقافي مع مغادرتهم للمدرسة أو الجامعة وانخراطهم في تدبر معيشتهم.