فن وإعلام

مقاربة نقدية “العيطة المقاومة في الغناء الشعبي”

ميراني الناجي

تندرج مقاربتنا النقدية ” العيطة المقاومة في الغناء الشعبي ” من خلال قراءة الخطاب العيطوي المقاوم الذي تحمل عبء المواجهة ضد بنيات مخزنية استبدادية ، وأخرى استعمارية غازية ، خطاب يمكن وصفه ب ” العاق ” ، لكن هذا التوصيف لا ينبغي أن يحشرنا في مثلث الزاوية الضيقة للفهم التقليدي للمصطلح ، بل هو نوع من التمرد الواعي على قواعد العنف ولعبة السلطة بعيدا عن متاهة خطاب ” الطاعة ” الذي ساهمت في انتشاره بعض العوامل التاريخية والسياسية ، حيث عملت هذه الأخيرة على تخريب الذوق الفني للجماهير ، وتحييد تراثها الشعبي الأصيل عن قضاياها السياسية والاجتماعية ، وتغريبه عن بيئته ، وبالتالي تحويل المنتوج الغنائي إلى وسيلة للاسترزاق حتى أضحى فن العيطة ” جسدا جنسانيا ” ، ونمطا رخيصا يستلهم مواضيعه من فن الكباريه ، مستهدفا جمهورا ” هائجا ” غُيِّب فكره ، ومختزلا العيطة وطقوسها من خلال مهرجانات موسمية تتسم ، بحكم الزمان والمكان ، بطابع غالبا ما يوصف بأغاني السياحة الصيفية المختزلة لفن العيطة في متعة الجسد وتفاصيله ..
من هذا المنظور ، إذن ، أضحت العيطة مجرد خطاب إيروسي ، أضحت معه ” الشيخة ” في ذهن عامة الجمهور مجرد صورة نمطية لجسد شهواني همه إمتاع الأبصار واستنفار الغرائز ، بينما صنفها تيار تقليداني مسيس ” بالخطيئة الفنية ” التي تنشر الفواحش ، كما صنف الشيخة أيضا امرأة منحرفة وساقطة لا فرق بينها وبين إبليس ..
تلك صناعة رأي احتاجت إلى وقت طويل ، تنافس فيها تياران لترسيخ المفهوم السالف الذكر من خلال خطابات متنافرة شاركت في تأجيجها بعض ” النجوم ”
المفبركة التي لا علاقة لها إطلاقا بالعيطة ، ومضامينها المتنوعة ..
في هذا الإطار استحضرنا مجموعة من النماذج التي تركت بصماتها في الذاكرة الشعبية رغم التشويش والحصار المضروبين على هذا النمط المشاكس ، وسعينا قدر المستطاع إلى النبش في هذا المنتوج المغيب خلف سراب تاريخ مغلف بعنف العبارات الثاوية في وجدان الشعب المغربي ..
تعتبر العيطة عموما نداء وليست ” عياطا ” أو بكاء كما يذهب البعض ، وبالتالي فهي دعوة تصدر من عراقة التقاليد ، إما على لسان شاعر معروف أو مجهول ، لتصاغ في نهاية المطاف على شكل غناء شعبي يحرك وجدان الناس .
فالعيطة كتعبير وجداني وجدت أصلا لتلبي حاجيات الناس البيولوجية عن طريق اختيار صعب ونعني به الغناء . وهذا الأخير هو منظومة فكرية تمتزج مع مجموعة من المحددات التي تعد جزء أساسيا من مكونات ثقافة الشعوب .
ورغم تناولها لمختلف المواضيع التي تنبع من خصوصيات المجال الذي تنتمي إليه فإنها ظلت وفية لقيم المجتمع باعتبارها جزء من توابثه . لقد أدرك صناع العيطة بحكم حسهم العفوي ، وانتمائهم الاجتماعي أن الغناء يعتبر من أهم الوسائل المؤطرة للوجدان الشعبي لسرعة تأثيره وانتشاره .
من هنا التصقت العيطة بالمقاومة في مرحلة تعتبر من أحلك مراحلها على الإطلاق .
ارتباط العيطة بالمقاومة ، إذن ، هدفه حشد الدعم المعنوي وتأكيد الالتفاف الشعبي حول غاية فلسفية واحدة يلخصها الخطاب المباشر للغناء الشعبي كشحنة وجدانية وفكرية سرعان ما تتحول إلى قوة فعلية ومادية لإذكاء مشاعر الجماهير …
لن ندخل هنا في تفاصيل هذه الفلسفة باعتبارها قاعدة أساسية لنبذ أشكال الخوف ولن نتوغل في مسارات التاريخ السياسي للأفراد والجماعات لإبراز الأدوار والغايات التي قامت عليها مرتكزات العيطة لتمرير خطاب المقاومة الشعبية سواء ضد الاستعمار وفلوله أو ضد الاستبداد ورموزه .
المقاومة صفة تختزل سلطة التخفي وراء يافطة السياسة . والسياسة ليست فكرا مجردا ، بل هي فن الكائن والممكن لتحقيق التوازن المطلوب أو للحفاظ على مصلحة ما …
لا نغالي إذا سلمنا بأن المقاومة هي تدبير للسياسة على أرض الواقع ، وترجمتها بشكل من الأشكال .
فإذا كان ذلك هو قدر العيطة ، حيث سلك هذا النمط مسلكا صعبا في مرحلة ما ، اختار فيه توظيف الغناء بالمقاومة ، فهل من الضروري أن نطالب بتعميم هذا المسلك على هذا الفن الشعبي ؟
هذا السؤال وغيره فرضته ضرورة قادتنا إلى مفترق الطرق ، هل نتقدم أم نعود ؟
هل نفرض على العيطة وجهة نظرنا ، ثم نطالب من روادها أن يكونوا مجرد تابعين ، وبالتالي نسلب منهم حق الحرية والاختيار ؟
هل نضع بيد المبدع قيدا نسميه ” الالتزام ” ، ونجعله يعيش داخل معتقل السياسة والحزبية الضيقة أم ندعه كالنسر الكاسر يحلق في الأعالي وكل ما يراه في الأسفل فهو له ؟ ..
ثم ألا نخشى أن نحول فنا عفويا إلى ” بيان ” عقائدي جاف ، ونطالب من ” شيوخ ”
و” شيخات ” ولجوا فن العيطة من باب الاسترزاق أن يلتقطوا اليومي من باب الالتزام السياسي مع العلم أن جلهم ليسوا مسيسين ولا مثقفين ؟ ..