بوجمعة العوفي: تِلكَ المكَاسِبُ أو الفُرصُ الضّائِعَة !

ولو أن الخسارة والربح هُمَا قيمتان أو نتيجتان متلازمتان دائما، سواء في مجالات التجارة والرياضة، أو في كل الأفعال والرهانات التي يقوم بها الإنسان من أجل مكسب أو مكاسب معينة في الحياة، إلا أن الرهان على المكسب وربح القضايا التي يضعها الإنسان نُصب عينيه، يقتضي منه أن يتمتع، في الغالب، ببعض الذكاء، بل الكثير منه إن صح التعبير، والتخطيط وبَذْلَ الكثير من الجهد كذلك من أجل تحقيق الهدف، مع العلم بأن هناك خسارات يمكن أن تكون مبررة، ويمكن القبول بها عن طيب خاطر، كنتيجة منطقية، لطبيعة مجال الفعل واللعب والرهان ( الرياضة على سبيل المثال )، لكن النتائج يمكن دائما تغييرها، كما يكون من الممكن دائما أيضا تفادي الكثير من الخسارات، بل تحويلها إلى ربح ومكاسب مُبهرة.

من هنا، ينتصب أمامنا دائما هذا السؤال الجارح: لماذا يخسر المغرب كل مرة، وبشكل متواتر ومجاني أحيانا، العديد من الرهانات والاستحقاقات في الداخل والخارج على حد سواء، ويتقهقر بل يفقد كذلك مكانته التي يستحقها والكثير من المواقع وأشكال الحضور في العديد من المحافل والتظاهرات والمنظمات والهيئات الإقليمية والعربية والدولية ؟    

طبعا، قد يبدو هذا السؤال، بالنسبة للبعض، فيه الكثير من الإجحاف والمبالغة وحتى المزايدة في حق المغرب كبلد يجر وراءه تاريخا حافلا أيضا بالكثير من الأمجاد والانتصارات، تاريخ يتجاوز اثنى عشر ( 12 ) قرنا من التواجد في الزمن وفي الجغرافيا، لكن مبررات هذا السؤال تأتي كذلك من قوة هذا التواجد، ومن العديد من الانكسارات التي عرفها المغرب عبر تاريخه الحديث والمعاصر، في الداخل والخارج، أو أن المغاربة راهنا، على الأصح، ملٌوا من الهزائم وأصبحوا مشتاقين، بل في أمس الحاجة، إلى انتصارات حقيقية على الفقر والجهل والظلم والفساد في الداخل، وإلى مواقع ومكاسب متقدمة يستحقونها في الخارج كذلك، بالنظر إلى مؤهلاتهم الجغرافية والبشرية والثقافية والعلمية وغيرها، وانخراط أجياله الجديدة، تحديدا، في إنجازات المشروع الحضاري والثقافي الكوني، إن توفرتْ لهم سبُل الدعم وبعض الإمكانات والظروف المناسبة ؟

وحتى نَفهم جيدا ضرورة وحُرقة هذا السؤال وتداعياته على الزمن المغربي بكل مَشاهده ومكوناته، لا بد من استحضار بعض الأمثلة، على الأقل عن خسارات المغرب الكبرى، كي نكون على بَيِّنة من أمرنا كمغاربة، ونعمل مستقبلا على إيجاد جواب مقنع وموضوعي لهذا السؤال، ثم تفادي تكرار هاته الهزائم والخيبات والانكسارات:

في الداخل لم نربح بَعْدُ رهان التنزيل السليم والفعال لمقتضيات وبنود الدستور الجديد للمملكة، والتأسيس لتحول أو لنموذج ديمقراطي حقيقي وفعّال ( قبل ما سُمّي بـ " الحراك السياسي " العربي " وبعده ).

 تَحَوّلٌ يُفضي إلى فرز نُخب سياسية حقيقية، وحكومات حقيقية، وسياسات حقيقية تضمن للمواطن المغربي العدالة الاجتماعية والاقتصادية والحق في العيش الكريم والمساواة في الواجبات وفي الحقوق .. وأمام هذا الوضع القاسي الذي لا يستحقه المغاربة، ما زالت الكثير من مظاهر الفساد قائمة، بل تفاقمت أكثر في ظل أغلب الحكومات والأحزاب التي وعدتْ بالإصلاح وبَشّرتْ به  في " برامجها " وحملاتها الدعائية في كل انتخابات، ومازالت " دارُ لُقمان على حالها "، والأزمة في أوجها، والحال كما كان .. سوى أن جَرِت دماء النعمة في عروق الكثير من الوجوه، والواصلين الجُدد إلى مقاعد الوزارة والبرلمان والمسئوليات، وتضخمتْ أجور الكبار من القوم وإخوتِهم في الرضاعة من الوزراء والمُدراء، كما تضاعفتْ تعويضاتهم ومعاشاتهم وأرصدتهم في البنوك، بينما تعددت وتكاثرت، بل تناسلتْ بشكل مهول مظاهر الفقر والحاجَة وأشكال الضرائب والرسوم المقتطعة من الأجور الهزيلة مقابل الرغيف المُر والقليل من الخدمات.

وحتى لا نكون مُجانِبين للصواب في هذا السياق وفي خسارات المغرب الداخلية، بما يجعل كلامنا نوعا من التجني على حكومات المغرب السابقة واللاحقة، مع استثناءات قليلة جِدّا بالطبع، فالوقائع والأرقام الخاصة بأجور وتعويضات وامتيازات كبار موظفي المغرب تفضح المستور، وتؤكد الحقائق الفاضحة والصارخة، إذ يمكن لنا، من خلال عملية حسابية بسيطة، قراءة الأرقام الصادمة والمستفِزة التي أوردتها المجلة الأسبوعية الناطقة باللغة الفرنسية " Tel   Quel  " في ملف خاص، كانت قد  نشرَتْه في يونيو من سنة 2011، حيث نجد أن مجموع الأجور الشهرية لـ 25 مدير مؤسسة عمومية مغربية يصل إلى 207 مليون درهم شهريا، أي ما يقارب 2.1 مليار سنتيم كل شهر، وهو ما يعادل أيضا  25 مليار سنتيم سنويا من ميزانية الدولة، هذا دون احتساب الامتيازات والمنح السنوية والتعويضات على المهام والتكاليف الخيالية لتجهيز المكاتب واقتناء السيارات الفارهة الخاصة بهؤلاء الموظفين السامين والوزراء والمدراء. إنها أرقام توضح، وبشكل ملموس، حجم النفقات على الوزرء والمدراء المحظوظين، إذ " لا نستغرب في بلاد المغرب " كما يقال، إن وجدنا بأن أصغر مدير عام لمؤسسة عمومية مغربية يتقاضى أجرا قد  يفوق بكثير ما يتقاضاه رئيس أكبر دولة من الدول الديمقراطية في العالم.

في الخارج ارتفعتْ بشكل مهول نسبة المديونية، وخسِرنا رهان استضافة وتنظيم تظاهرة " كأس العالم " لكرة القدم لأربع مرات، وخسرنا كذلك أو ما زلنا نخسر بسبب ارتباك وقُصور اشتغال وطبيعة آلة دبلوماسية مغربية تكاد تكون " معطوبة " أو " معطلة "، العديد من المواقف والمواقع التي تخص قضيتنا الوطنية الأولى ( الصحراء المغربية )، أو أخرناها لسنوات طويلة على الأقل، بما ضيع على المغرب ملفات ومصالح جد ثمينة وحيوية وما زال يكلفه الكثير من الأموال والنفقات والميزانيات الباهضة، مع ما يصاحب ذلك من تنازلات مكلفة أحيانا هنا وهناك، والقبول مرغما بصفقات في التجارة والصناعة والخدمات، هي الصفقات التي تقوي اقتصاد الآخر وتنعشه، فيما تنهك اقتصادنا الوطني وتثقل كاهله بالمزيد من الاقتراض الخارجي واشكال المديونية ..  خسر المغرب، وهذا هو الأهم كذلك، الترويج لصورته وتسويقها كما ينبغي في المحافل والأروقة السياسية والدبلوماسية الدولية، في مواجهة اللوبيات والنزعات والتيارات الانفصالية والمعادية لمصالح المغرب هنا وهناك ..

وللتدليل فقط على ما كان المغرب قد خسره بسبب قصور اشتغال آلته الديبلوماسية في الخارج، وعدم فعالية وخبرة وزراء حكوماته في الداخل، يكفي أن نتوقف قليلا عند مثال واحد فقط، ولو أن وقائعه قد مضت عليها ما يقارب الست سنوات، إذ يجسد هذا المثال جزءا من المعضلة أو من خسارات المغرب المتكررة: كانت المملكة قد فقدتْ أو فوتتْ على نفسها فرصة حصولها في ظروف مريبة على موقع مهم في " المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم " ( الألكسو )، من خلال منصب مدير " إدارة الثقافة "، هو المنصب الذي رَشّحتْ له " اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم " الدكتور " مراد الريفي " ( الباحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية )، والذي انتُدِب لولايتين لشغل مهمة مقرر اللجنة الدائمة للثقافة العربية التابعة للألكسو، وباعتبار أن الأستاذ " الريفي " كان هو المرشح الوحيد الذي أجرى مقابلة مع المدير العام للمنظمة، وانتهتْ هذه الخيرة بإخباره بالاستعداد للالتحاق بالمنصب، حتى فوجئ الجميع بمصادقة المجلس التنفيذي للألكسو المنعقد بالبحرين بتاريخ 26 و 27 نونبر 2013 على تعيين سيدة تونسية متعاقدة مع الألكسو في المنصب المذكور، ولعل المثير في الأمر هو خرق مبدأ المحاصصة الذي ينص على توزيع المناصب الإدارية الأولى بين الدول، إذ بالإضافة إلى مدير أول تونسي بالمنظمة، صادق المجلس التنفيذي على مدير أول تونسي آخر في منصب مدير الاتصال والمعلومات، ومديرة أولى تونسية كذلك في منصب مدير الثقافة، في الوقت الذي كان فيه الجميع ينتظر حصول المملكة المغربية على هذا المنصب، مما رفع عدد المدراء بهاته المنظمة إلى ثلاثة مدراء من تونس وحدها، هذا دون احتساب احتضان دولة تونس لمقر المنظمة.

وعِوَض انتظار الجواب من تونس أو البحرين، يكون الأمر كما السؤال، هنا، في حاجة إلى توضيح وإلى جواب مقْنِع من طرف الجهاز أو القطاع المعني بهذا الملف في الدولة المغربية عن سبب هاته الخسارة ؟ انطلاقا من وزيرنا في الثقافة إلى " رفيقه " في الخارجية ؟ وذلك فقط من أجل فهم تعامل المملكة المغربية مع غياب الاعتبار الواضح لمكانتها داخل هاته المنظمة الحيوية وغيرها في آخر المطاف ؟  

هذا غيضٌ من فَيض، وأملنا كبير في أن يتدارك المغرب فعلا وبشكل جدي، حاليا ومستقبلا، في الداخل والخارج على حد سواء، ومن خلال التأسيس لسياسات حقيقية، ولديموقراطية حقيقية، ولعدالة حقيقية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولمساواة حقيقية في الحقوق والواجبات، ولآليات حقيقية في ربط المسئولية بالمحاسبة، ووضع المسئول المناسب في المنصب المناسب، على أساس أو قاعدة الكفاءة والنزاهة لا غير، وليس بمنطق الحزب أو القبيلة، كما يكون على المغرب ( كل المغرب )، اليوم قبل الغد، وأكثر من أي وقت مضى، تجويد آليات اشتغاله الديبلوماسي حتى لا يتكبد المزيد من الخسارات ويربح، بالتالي، رهاناته واستحقاقات الكبرى الداخلية والخارجية، وهذا مطلب ليس بعزيز أبدا ولا بمستحيل على المغاربة.