رأي

ياسين عدنان: بيروت لا تكتمل دون بحر

من شرفتي في الطابق الحادي عشر من فندق الكومودور أطلُّ على البحر. بيروت لا تكتمل دون بحر. لهذا فقط حين أصعد إلى الغرفة وأتطلّع باتجاه البحر أحسُّ أنني عدت إلى بيروت. عدت إلى بيروت من شارع الحمرا. فالحمرا مدينةٌ لوحدها. الظهيرة حارة والشمس عمودية في الشارع الذي يكاد يختزل المدينة. لهذا احتميت لبعض الوقت بمكيّف الغرفة من حرّ الشارع والمدينة معًا.

هذا الصباح شربت قهوة مع بول شاوول في مقهاه المفضل: مقهى "كاريبو" جنب مقهى "باريس" وسينما "الحمرا". قدرة بول على الانتقال السلس من حديث الشعر إلى حديث السياسة لا تُضاهى. كنا مستغرقين في الحكي بسطيحة المقهى "ع الشارع" تقريبا، على الناصية، حين وقف علينا غسان زقطان. ياه، غسان في بيروت ومعه أخبار رام الله وأخبار الأحبة في فلسطين. انضمّ غسان إلى مجلسنا فاتّسعت دائرة النقاش، إنما بالمراوحة العذبة ذاتها ما بين الشعر والسياسة. طبعًا مع قدوم غسان كان يجب أن نتوقف مع محمود درويش وقصص بول الطريفة الممتعة معه بما فيها من شدٍّ وجذبٍ ومحبةٍ تَلَتْ عداوةَ بيروت زمن البدايات..

حديث الشعراء ممتع، وقهوة هذه الصبيحة كانت منعشة للروح والذاكرة والوجدان، ليس كقهوة الأمس. عشيّة أمس، ذهبتُ مع الصديقين الشاعر مراد القادري ومراد الصقلي وزير الثقافة التونسي السابق إلى مقهى علاء الدين، بـ"الحمرا" دائمًا. اتّخذنا مجلسنا في "علاء الدين" ليس انبهارًا بمصباحه الذي في الحكاية ولا طلبًا للشيشة التي يقدّمها المحل. وإنما بعد طول تَطوافٍ على مقاهي الحمرا، كان المقهى الوحيد الذي يتوفّر على "الكود السحري" الذي سيتيح لنا متابعة مباراة المغرب ضدّ ناميبيا. كان رواد المقهى اللبنانيون يشربون الشيشة ويسترقون النظر بريبةٍ إلى كتيبة المغاربة التي أغارت على مقهاهم الأثير فاحتلّته بتعليقاتها الصاخبة. كان مراد القادري ينفلت من حين لآخر متفاعلا مع أطوار المباراة - وكأنّني كنتُ أكثر منه هدوءًا (: ومع ذلك، لا أعتقد أننا أزعجنا رواد المقهى، فالمقابلة لحسن حظّهم كانت مملّة خالية من التشويق. طبعًا في غياب الهدّافين الذين تركهم الثعلب الفرنسي خلفه، كان بلوغ مرمى الخصم شبه مستحيل. وكان يجب أن يُسجّل مدافعٌ ناميبيٌّ ضدّ مرماه ليكسب المنتخب المغربي انتصارًا قد يكون ثمينًا لكنه فاترٌ وغيرُ مبهج. بعد الماتش، غادرتُ مع المرادَيْن، الأول والثاني، باتجاه مسرح المدينة حيث نزلنا أسفل البناية باتجاه دهليز يفتحك على مسرح المترو المدفون مثل كهفٍ سرّيٍّ في بطن بناية "مسرح المدينة"، هناك حضرنا عرضا غنائيا بديعا لأطفال من سوريا. في المسرح / الكهف الكثير من روح بيروت التي نفتقدها في مدائننا العربية. تشرب كأسا وتأكل شيئا وأنت تتابع العرض. كانت مقابلة المغرب ناميبيا أشبه بجملة اعتراضية سرعان ما أنْسَتْنا إياها المواويل الشامية فاستعَدْنا بيروت أو استعادَتْنا، سيّان.

الحرُّ شديدٌ هذه الظهيرة. أطلُّ من الشرفة على البحر وأفكّر في التوجه إلى الكورنيش. لكن ليس الآن. في انتظار أن يبرد الطقس قليلا. كأنه أذان العصر. إذن، سيلطُفُ الجوُّ خلال ساعة فأغادر باتجاه الكورنيش.