تحليل

الحُلمُ يشتَعلُ في الرأس أو الوعيُ المُلوَّن لمحمد شَبْعة

بوجمعة العوفي (*)

( تحية مُستعادة إلى روح الفنان التشكيلي المغربي " محمد شَبْعة " )

قَطْعا، لا تكفي قراءة واحدة للحديث عن تجربة فنان شامل كـ " محمد شبعة ". ولا أدري إن كان من الممكن فعلا القبض على بعض ملامح الرجل أو حتى على جزء من تجربته الفنية وسيرته الملوَّنة الشاسعة والمتعددة في مساحة ضيقة كهذه ؟ ليس بسبب تنوع انشغالات هذه التجربة وتعدد أضلاعها فحسب، بل لكون الحديث عن " شبعة " ( الإنسان والفنان ) يقتضي الحديث عن جزء هام من تاريخ الممارسة التشكيلية في المغرب ( إبداعا ورؤية وتنظيرا ).

ثم إن ذِكْر التاريخ ــ هنا ــ لا يعني أن " شبعة " أصبح ينتمي للتاريخ فقط، وأن تجربته الفنية لم تَعُدْ فاعلة في مُنجَز وأفق الممارسة التشكيلية المغربية، التي بقدر ما عرفتْ العديد من التحققات الوطنية والعربية والدولية في شقها الصباغي أو التصويري ــ على الخصوص ــ ظلت تحفل بشتى أنواع البياضات وأشكال التضليل الفني كذلك، بل يعني التاريخ هنا أحقية " شبعة " ــ إلى جانب العديد ممن سبقوه وممن جايلوه أيضا من التشكيلين المغاربة مثل : (  " المليحي " و " بلكاهية و " محمد الحميدي " و " مصطفى حفيظ " و " محمد أطاع الله " وغيرهم .. ) ـ في الانخراط ، كل حسب تصوره ورغبته وإمكانات وعيه الذاتية، في طرح المشروع التأصيلي والتأسيسي لتجربة التشكيل المغربي.

مع ذلك تظل إمكانية انتساب التجارب الفنية ــ بمختلف تعبيراتها ودرجة تحققها ــ إلى التاريخ والمستقبل قائمة ومطروحة للفحص والمناقشة. أي بما يجعلها ترسخ حضورها في التاريخ وتواصل في نفس الوقت تأثيرها وفعلها في الحاضر والمستقبل. تماما مثل حاجة التجربة التشكيلية المغربية إلى أشكال أخرى من القراءات الغائبة كذلك في حقل النقد الفني المغربي والعربي بشكل عام : كالقراءات الجمالية التي تنطلق من مفاهيم وأشكال وإمكانات التلقي La réception ، ورصد مدى استمرار أو توقف تأثير تجربة فنية ما في الأعمال والتجارب الفنية الأخرى المُجايلة لها والآتية، ثم مدى استجابة هذا العمل أو هذه التجربة الفنية ــ ضمن سياقات التداول والتلقي ـ لآفاق تَوقُّع متلقيها وجمهورها أو معاكستها لهذه الآفاق، وبالتالي خلق أشكال وأساليب قوية ومؤثرة في الإبداع والقراءة الجمالية والتأسيس لذائقة فنية جديدة. هذا أيضا من طموحات هذه القراءة أو الإضاءة المركزة التي نرنو إلى تحقيقها مستقبلا. وهي مناسبة أيضا للدعوة إلى تجريب قراءات من هذا النوع في حقل النقد الفني والقراءة الجمالية المغربية بشكل عام.

ولأن المَقام هنا ــ فيما أعتقد ــ هو الحديث عن تجربة الفنان " محمد شبعة "، انطلاقا من كوني فقط عاشقا للفن ولمتعته المعلقة في الهواء : فحديثي لن يلوذ بالكثير من البلاغة والتكرار الكامل لما قاله " محمد شبعة " في كتابه الأساسي والتدشيني ( الوعي البصري بالمغرب ) (*)، وفي العديد من كتاباته وحواراته حول الفن، بقدر ما سوف تسعى هذه المحاولة إلى إعادة تشغيل بعض الأسئلة والأفكار الواردة في نفس كتاب " شبعة "، وتركيبها ضمن غاية استقرائية تعيد تأكيد وتركيب العديد من تصوراته حول الفن وحول الممارسة التشكيلية المغربية على وجه التحديد. ولو أن عملية من هذا النوع ستكون من باب " تحصيل الحاصل " كما يقال، ما دامت التجربة الفنية المتميزة والفارقة لـ " محمد شبعة " قد ترسختْ وطنيا وعربيا ودوليا، وتجاوزتْ كل محاولات التعريف بها. ثم ما دام بوسع القارئ والمهتم دائما الرجوع إلى كتابه ( الوعي البصري بالمغرب ) وإلى كتاباته الأخرى المنشورة هنا وهناك، باعتبارها أثرا موجودا في الزمان والمكان وفي الذاكرة الملونة للتشكيل المغربي الذي يشكو كثيرا أيضا من غياب مثل هذا الأثر.                                                 

نقترح ــ هنا ــ أيضا لاقترابنا من التجربة أو المشروع الفني - النظري لـ " محمد شبعة " صيغة ما يمكن أن ننعته بـ " البورتريه Le portrait الفني " والمحاورة والاستقصاء النظري : بالمعنى الذي يجعل هذا الاقتراب يقوم بتوصيف بعض ملامح الرجل في الكتابة والفن، ويعرض لأهم القضايا والتصورات والطروحات الجمالية التي صاغها  " محمد شبعة " حول الممارسة التشكيلية المغربية من خلال كتابه المذكور من جهة، ثم لاستفزاز أسئلة أخرى تتعلق بالانشغال الجمالي العام لـ " شبعة "، كي تشتغل كذلك في المُنجَز الملون للتشكيل المغربي وفي مساحة هذه الإضاءة - القراءة من جهة ثانية . أملا في أن يكون الإسهام النظري الهام لـ " محمد شبعة " حول الفن : بداية تأسيس أيضا لطموح ينبغي أن يتحقق أو يراود باستمرار اهتمامات البحث الجمالي والممارسة الإبداعية المغربية، كي يتحقق لها أيضا وعيها الحقيقي والرصين بشروط وقضايا وأسئلة الممارسة الإبداعية والقراءة. هذا الوعي - البحث الذي لم يحصل بعد بالشكل المطلوب والضروري في ممارستنا التشكيلية، والذي ما زال من الممكن إنجازه داخل الفلسفة وعلم الجمال وعلوم الإنسان وغيرها من الحقول المعرفية المهتمة بسؤال الفن وتعبيراته وشروط تحققه ووظيفته في المجتمع، أو ضمن الممارسة الإبداعية نفسها، التي لم تَعرف في المغرب كذلك سوى القليل من نماذج هذا الوعي الذي حاولتْ تجذيره في تطبيقاتها الفنية ضمن تجاذبات الحداثة ومختبراتها، ثم ضمن خصوصيات الهوية وثقافة الأصل.

إذِ القليل من الفنانين من يسأل اليوم : هل الحاضر مختلف بالفعل ؟ بهذا المعنى أيضا تكون التجربة الفنية لـ " محمد شبعة " من التجارب القليلة الواعية بالقضايا النظرية والجمالية للفن وبالشروط التي قد تقود ــ في آخر المطاف ــ إلى تأسيس ممارسة تشكيلية مغربية واعية، تستوعب في تحققها ثقافة الكون، وتُدمِج في رحمها ــ في نفس الوقت ــ روح الحداثة الفنية وكل العناصر والنماذج والرموز والعلامات النابعة من صميم ثقافتنا الأصلية، المنتسبة بشكل أساس إلى جذورها الأمازيغية والإسلامية والإفريقية.

 محمد شبعة وتأصيل التجربة التشكيلية المغربية:   

ينطلق مشروع " محمد شبعة " التأصيلي للتجربة التشكيلية المغربية ــ ضمن " مجموعة الدار البيضاء " على الخصوص : ( " شبعة "، " المليحي " و" بلكاهية " ) أو ما يُعرَف في بعض الكتابات النقدية والتاريخية بـ " مجموعة  65 " ــ من نقدهم للمواد المقرَّرة في مدارس الفنون الجميلة بالمغرب، حيث " وجدتْ هذه المجموعة نفسها، كما يقول شبعة، أمام إشكالية هامة من الناحية الأكاديمية، إذ لاحظتْ أن النماذج التي تُلقَّن للطلبة في هذه المدارس هي نماذج إغريقية ولاتينية بشكل عام، ولذلك فهي ليست بريئة وتحمل في عمقها فكرا ".

من ثَم، ستعمل هذه المجموعة من الفنانين ذوي التكوين الأكاديمي على طرح أهم مبادرة أو مشروع تأصيلي للممارسة التشكيلية المغربية ضمن مسعى جمالي وبيداغوجي طموح، تَمثَّل بشكل أساس في محاولة تعويض النماذج الإغريقية واللاتينية التي يتم تدريسها لطلبة الفن بنماذج من التراث المحلي مثل الحلي البربري والأدوات المصبوغة والمنقوشة. ومِنْ منطلق هذه المحاولة، ستكون " مجموعة الدار البيضاء " قد أشَّرتْ إلى امتلاك وعيها الخاص والأولي في التعامل مع الممارسة التشكيلية في المغرب من منطلق الثقافة المحلية والمخزون البصري المغربي وفتحه على الآفاق الرحبة للتجريد.

نفْسُ الوعي الذي سيضعه " محمد شبعة " ــ في المرحلة الأولى من عمله الجماعي على مستوى التصورات المشتركة والإنجاز والمعارض مع " مجموعة الدار البيضاء " ـ شرطا أساسيا ومقدمة ضرورية لتأصيل وتحديث التشكيل المغربي. لكون شبعة ــ وخصوصا بعد عودته من تكوينه الأكاديمي بإيطاليا  سنة 1964 ــ كان قد اختار صحبة الفنان " محمد المليحي " بشكل خاص خوض مغامرة تأصيل الممارسة التشكيلية المغربية من خلال أفق الحداثة نفسه.

هذا الأفق الذي لم تكن غاياته الظاهرة والمُضْمَرة سوى الوصول بالتجربة التشكيلية المغربية إلى نوع من التحول والتحقق المحلي والعالمي، انطلاقا من المقومات التشكيلية المغربية ومخزون الفن الشعبي القروي والحضري المتمثل في زخارف السجاد الأطلسي ورموز الحلي البربري، ونقوش الخشب، والجبص، وتشكيلات الفسيفساء، والزليج المغربي. لكن برؤى ومواد ومدلول بصري مُستَمَد فعلا من ثقافة الجذور.

بذلك أيضا سيُحْدِث " شبعة " من جانبه قطيعته التاريخية مع ما كان سائدا من " الالتزام الفني " في التصوير. وجاءت لوحاته ضمن هذه المرحلة مُحمَّلَة بتصميمية واضحة، ذات زوايا حادة وخطوط هندسية ثابتة وأشكال متينة وحدود صارمة وألوان صارخة غير خاضعة للمزج، تصل إلى القماشة أو البياض مباشرة كما هي من جعبة الألوان. وكانت الغاية هي " ربط العلاقة مع الفن القروي الذي تتميز ألوانه ( كالأحمر والأصفر ) بنوع من الصفاء " والاشتعال في التوهج الواضح لضوء الفضاء الطبيعي المغربي.

مِنْ ثَم، سيعمل الفنان " محمد شبعة " كذلك ــ صحبة مجموعة الدار البيضاء بالخصوص ــ على إدخال العديد من الإجراءات الجمالية وصيغ العرض الجديدة إلى التجربة التشكيلية المغربية، كطرح لوحة للعرض بحجم مترين على مترين ( 2x  2 ) لأول مرة في المغرب، بالإضافة إلى أن الفنان " محمد شبعة " كان له السبق في إخراج فن الرسم من اللوحة إلى المحيط المعماري، وكان أول فنان مغربي يُدْخِلُ الرسم على الجدار. بموازاة مع ذلك ــ وفي أفق التهييئ لشروط ملائمة تُسَهل تلقي وفهم تجربته التحديثية للفن المغربي ــ عمل " شبعة " كذلك على إنتاج خطاب نظري مواز لممارسته الإبداعية حول الجمالية والفن والحداثة، كتنظيراته المنشورة بعدد خاص من مجلة " أنفاس Souffle " بالفرنسية، وبالعديد من المنابر الأخرى ( " الأقلام العراقية "، جريدة " العلَم " المغربية، مجلة " الثقافة الجديدة "، مجلة " أنتيكرال intégral ".. ) وغيرها من المنابر العربية والدولية. إضافة إلى انخراط " شبعة " الفعلي ـــ ضمن شروط النقد الذاتي ومبدأ المراجعة، وانطلاقا من معرض ( لاتولييه L’atelier  ) بالرباط سنة 1983 ــ في مراجعة شاملة لتجربته الصباغية على مستوى الشكل والعناصر اللونية للوحة بالخصوص.      

إذ دشن شبعة أيضا هذه المرة على مستوى تجربته الصباغية الشخصية نقلته التاريخية الأخرى أو مغامرة التحول الصعبة والجسورة، باعتبارها شرطا من شروط الحداثة ودليل عافية وديناميكية لكل حركة وحياة فنية.  إذ ظل " محمد شبعة " ــ  في تنظيراته وكتاباته وحواراته ــ يطالب الفنانين والحركة الفنية في المغرب على حد سواء باقتراف مغامرة التحول وإنجازها في التصور الجمالي وفي التطبيق الفني.  هذا التحول - الخطوة أو الفعل المجازف الذي طالما تجنبه كذلك العديد من الفنانين المغاربة المكرسين، على الخصوص، في الحياة الثقافية الوطنية وفي السوق، خوفا من فقدان موقع أو جمهور أو زبون تجاري. 

بنفس الوعي النظري واليد المُلوَّنة - المُلوِّنة، سيُقْدم " شبعة " على تحقيق تحوله الثاني، وسيدفع تجربته الفنية هذه المرة ــ خلافا للمرحلة السابقة المحكومة بالغموض والقلق والخوف وربما رغبة عارمة، على غرار الرسامين " البنائيين  constructivistes "، في جعل أعماله الصباغية بمساحات مُفرَغة من التلاوين والمادة وبتشابك واضح بين الخطوط والسطوح ـــ إلى مداها  الآخر من الغنائية والحركات المتموجة والألوان الشفافة الحالمة.

سينتقل الفنان " محمد شبعة " من " تجريديته الهندسية abstraction géométrique " إلى تجربة " التجريد اللاشكلي   abstraction informelle". أي ما يعني تخليه النهائي عن تصميميته الهندسية الصارمة وألوانه الناصعة في اللوحة لصالح شاعرية الإيقاع وتموج الخطوط وتحرر الأشكال من متانتها، للتدليل على ولوج ضفة الحلم وعودة اللون إلى صباه، والطفل إلى دهشته الأولى أمام التكوينات الطينية الباذخة للمغرب العميق، وأمام الشمس التي كانت تبدو دائما شمسا أخرى، متجددة وكأنها تشرق لأول مرة في العين التي ظلت ترمقها بنفس الدهشة كل صباح.

بنفس الإحساس ونفس النسيان الجميل لشمس البارحة وللشموس الأخرى، ظل " محمد شبعة " يرسم ويقف أمام لوحاته أو أعماله الفنية الآتية " ses œuvres à venir " بنفس الإحساس، ونفس الدهشة، ونفس عنفوان البدايات، وكأنه يرسم لأول مرة أول لوحة له.

وإذا كان من الجائز، هنا، اعتبار التجربة الفنية لـ " محمد شبعة " ــ سواء في مرحلة العمل الجماعي ضمن مجموعة " مدرسة الدار البيضاء " أو في مرحلة العمل الفردي ومعرض المراجعة ( سنوات 1982 – 1983 ) : مرحلة " استرجاع أنانية الفنان في وحدته وعزلته الإبداعية "، أو مرحلة التمرد على " طغيان الفنان الجماعي الذي كنتُه، والذي غمَر لفترة الفنان الذاتي "، يقول " محمد شبعة "، في نفس كتابه المذكور ( الوعي البصري بالمغرب ) ـــ بجميع مراحلها كشكل أو كصيغة من صيغ التطبيق الجمالي للمشروع التأصيلي / التحديثي للتشكيل المغربي، باعتبارها قد مارست ــ ضمن وعيها النظري والإبداعي الخاص ــ التحول المتتالي الذي لم تجرؤ ربما العديد من التجارب الفنية الأخرى المُجايِلة لها على تحقيقه، لاعتبارات غياب الوعي الذاتي أو الطمس المقصود لهذا الوعي لدى هذه التجارب وخوفها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، من فقدان موقع أو جمهور أو زبون تجاري.

من ثَم، قام " محمد شبعة " بطرح أهم القضايا والأسئلة الجمالية الخاصة بالتشكيل والمعمار المغربيين، سواء ضمن منحى نقدي، يكشف زيف الممارسات وابتذال التصورات المرتبطة بالفن في المغرب، أو ضمن منحى اقتراحي، قدم " شبعة " من جانبه ومن خلاله العديد من البدائل والإجراءات الجمالية  وصيغ التطبيق الفني للوصول إلى ممارسة تشكيلية مغربية أصيلة وحداثية.

إذ يمكن في النهاية إجمال هذه الانتقادات والاقتراحات والقضايا التي طرحها " محمد شبعة " فيما يلي :

       ـــ طرح السبل والتصورات الكفيلة بتحقيق هوية وخصوصية التشكيل المغربي.

      ـــ الرفض الواضح لمجمل تجارب الفن " الساذج " أو التعبيرات الفنية الفِطرية في المغرب، والتي شجعَتْها النظرة الغرائبية للاستعمار الغربي. 

      ـــ الدعوة إلى تأصيل التجربة الفنية من داخل الحداثة.

      ـــ الدفاع عن أصالة " الصنائع " أو الحرف التقليدية وعلاقتها بالفن " الرومي ".

      ـــ إعادة النظر في التشخيصية في الفن، والتخلي عن وضع التمثيل في التصوير المغربي لفائدة التجريد، باعتبار حضارة المغرب هي، على حد قول " محمد شبعة "، ذات عمق تجريدي : ( رموز السجاد الأطلسي، والحلي البربري، ونقوش الجبص، وزخارف الفسيفساء والزليج المغربي ).

      ـــ الدفاع عن الفن والثقافة الوطنية ضد الغزو الاستعماري، انطلاقا من الخلفية الإيديولوجية لمرحلة السبعينيات، المطبوعة بالقمع السياسي والطرح التقدمي، وكتابات " فرانز فانون "، والدعوات المتكررة بالعودة إلى ثقافة الشعب عوض الثقافة الشعبية ( الانخراط في هذا الطرح أدى كما هو معروف بـ " شبعة " إلى الاعتقال، وبذلك طرح " شبعة " في المغرب مسألة " النضال الفني " ).

       ـــ الدفاع عن ملامح المدن المغربية العتيقة لتوفرها على مخزون تشكيلي مغربي أصيل ـ لوحة الحامل ومسألة إخراج الفن من الأروقة والصالات والفضاءات المغلقة إلى الشارع وربطه بالجمهور العريض ـ توظيف المخزون البصري التراثي المغربي في التعبيرات التشكيلية والتصميمات المعمارية ـ  انتقاد النزعة التحديثية القريبة من المدرسة الفرنسية والتي كان ينخرط فيها رواد الجيل الأول من التشكيليين المغاربة ( " الغرباوي " و" الشرقاوي " بدرجة أقل ).

        ـــ لا جدوى من تنظيم " البيينالات  biennaux" الفنية في المغرب نظرا لغياب حياة فنية ديناميكية، متفاعلة ومُنتِجة.

        ـــ انتقاد فن الاستشراق و " الكارطبوسطال " أو ما يسمى جزافا بالواقعية التي تغالي في رسم مشاهد البؤس في الحياة اليومية المغربية.

       ـــ رفض وانتقاد تضمين اللوحة أو العمل الفني قصة أو حكاية على غرار العمل الأدبي.

       ـــ انتقاد التوجه الفولكلوري لبعض الفنانين الذين يُدخِلون في لوحاتهم بعض المفردات التراثية مثل المَشْربية وغيرها ليدَّعوا بأن أعمالهم لها صلة بالتراث.

         ـــ الدعوة إلى دمج الصناعة التقليدية في الفن التشكيلي من جهة، ثم الجمع بين الفن التشكيلي والهندسة المعمارية والصنائع والحرف التقليدية من جهة ثانية.

        ـــ الدعوة إلى إحداث معهد لـ " الديزاين    design " أو التصميم التصنيعي.

        ـــ ضرورة امتلاك الفنان التشكيلي لقدْر معين من الوعي والتكوين الفني.

        ـــ ضرورة تأسيس نقد فني متخصص وقريب من اللغة التشكيلية والممارسة الإبداعية ومتخلص من بصمة الأدبي.

هذه جُل وأهم القضايا التي شكَّلَتِ العمقَ المحوري لطرح أو لمشروع " محمد شبعة " في تصوره وتأصيله للممارسة التشكيلية المغربية. ولو أن " شبعة " نفسه سيعيد النظر فيما بعد، بشكل جزئي أو كلي ــ ضمن مسارات المراجعة ــ في بعض مواقفه من هذه القضايا، وخصوصا فيما يخص " التوجه المخالف "  أو ما يشبه الوضعية الثابتة التي أدركتْها أو وقفتْ عندها طروحات " مدرسة مجموعة الدار البيضاء "، حين " كان توجيهها مخالفا تماما ـــ يقول " محمد شبعة " ــ لكل المقومات الأكاديمية العالمية والغربية على الخصوص. إلا أن ردة الفعل هذه ــ يضيف " شبعة " ــ أدت في نظري إلى الانحراف والانزلاق في الشكلية والهندسية على مستوى اللوحة. أقول هذا حتى بالنسبة لعملي ولعمل الآخرين ممن تميزوا بهذا الأسلوب : " المليحي "، " بلكاهية "، " أطاع الله " .. وغيرهم. ". ( 1 )

هكذا يبدو " محمد شبعة " : فنان التحول والمراجعة بامتياز، فنان التعدد والانشغال الفني والمعرفي. ثم إن حركيته ورغبته المُلِحة والعميقة في التحول والتجديد، وامتلاكه لثقافة جمالية ووعي فني أساسي، قد مكنَاه من طرح قضايا أخرى ذات منحى جمالي وفكري صرف في الساحة الفنية المغربية، بعيدا عن قضايا الانتساب والالتزام والإيديولوجيا، مثل : " جدلية الفن والفكر " و الانتساب إلى " ما بعد الحداثة " من خلال إدراك " متعة التصوير " و " شاعرية الصورة "، والعلاقة بين الموضوع الحقيقي والموضوع المرسوم في اللوحة.

إذ ربما تكون القيمة التعبيرية والجمالية الحقيقية ــ في نظرنا ــ  لتجربة " شبعة "، هنا، كامنة ليس فقط في المميزات الفيزيقية والبصرية لأعماله الفنية وألوانها وأشكالها، بل في رؤيتها وتصورها وفكرتها الخاصة عن الجمالية والفن.

 الخلاصة والأسئلة:

مِنْ ثَم، تنطرح لدَيَّ أو تنفتح أمامي ــ وأنا أقرأ التجربة الشاسعة والمتعددة لـ " محمد شبعة " بفروض الذهن وفروض العين كذلك، على الأقل من خلال كتابه الهام ( الوعي البصري بالمغرب ) ــ أسئلة أخرى أضيفها إلى كاهل " شبعة " نفسه وإلى الإمكانات الحاضرة والغائبة والممكنة في مشهد النقد الفني المغربي، علَّه يجد لها في زحمة الحياة أو البياض أجوبة بأسئلة أخرى :

 ــ حين يكون الفن بالنسبة إلى " شبعة " قضية بالدرجة الأولى ( وإلا لما كان " شبعة " قد اعتُقِل من أجل الفن ) : هل جعل هذا الفنان ــ عبر مساراته المُضنية من تلوين وتجميل الثقافة المغربية ــ من الفن التشكيل المغربي قضية شكل ؟ أم قضية لغة ؟ أم قضية تعبير ووظيفة ؟ حتى إذا كان من الأجدى الآن أن نسأل " شبعة " عما تحقق ؟ وما معنى أن يكون المرء رساما أو فنانا تشكيليا في المغرب ؟ وفي القرن الواحد والعشرين ؟ وهل كل شيء على ما يرام ؟ ( كما سبق أن تساءل " عبد الطيف اللعبي " ذات مساء مُلوَّن ) ؟ ماذا تفعل الخذاريف   Les Toupiesبالتحديد في أعمال رجل ظل يرقُب وطنا مُلوَّنا حتى اشتعل الرأس شيبا وحُلما ؟

وحين لم يلتصق ــ ربما ــ أي فنان مغربي آخر بالمغرب أكثر مما التصق به " شبعة "، هل التقى هذا الرجل حقيقة بفنه ؟ بذاته ؟ وبالبلد الذي ظل يحلم به ؟ هذه أسئلة يمكن وضعها داخل الإيديولوجيا وخارجها. لكن ما أنا متأكد منه ــ راهنا على الأقل ــ هو أن الحلم والوطن ما زالا يشتغلان ويشتعلان في البياض وفي الرأس، وأن " شبعة " من الرسامين أو المُلوِّنين الذين لا يُضَمِّنون لوحاتهم أو أعمالهم الفنية قصة أو حكاية. لكنك قد لا تفهم أعماله إلا بفهم حكايته الخاصة وسيرته المُلوَّنة. هي السيرة التي اشتبكتْ كثيرا بشتى أشكال وألوان هموم الوطن : بما فيها الهموم الفنية والجمالية، إن جاز لنا الإقرار ــ طبعا ــ بوجود هموم جمالية وفنية للمغرب، لا تقل أهمية وتعقيدا عن باقي الهموم المشتعلة والمشتغلة والمتغلغلة في المَشاهد المغربية الأخرى ؟

ومثلما كانت للرسام " سيزان " طريقته الخاصة في تحوير الأشكال ( قلب الطاولة بصحونها وأوانيها لتختفي أبعاد المنظور الكلاسيكي من مساحة اللوحة )، فـ " لشبعة " كذلك طريقته الخاصة في تحوير الممارسة التشكيلية المغربية وعناصرها. إذ جعلها تمتلك جسارة السعي إلى تحقيق قفزتها التاريخية نحو التجريد من خلال وعيها بإمكانية القلب البصري ذاته الذي صنعه الوعي العَمْد أو المتعمَّد ــ هنا ــ وليس الصدفة كما حدث مع " كاندنسكي " حين اكتشافه للتجريدية في الفن. 

 ثُم، ألا يكون " محمد شبعة " ــ في النهاية سوى ذلك الـ " كاندنسكي " المغربي الذي تَعمَّد النظر بالمقلوب ــ من داخل وعيه التجريدي الحاد ــ إلى تجربته ثم إلى المُنجَز التشكيلي المغربي المُتخم حينها بواقعية فجَّة ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشــــارات :

(*)شاعر وناقد فني مغربي ( أستاذ جامعي )

1 ــ محمد شبعة ــ " الوعي البصري بالمغرب " ــ منشورات " اتحاد كتاب المغرب " - الرباط ــ 2001 ــ ص 97.

_ الصورة أعلاه من أعمال الفنان محمد شيعة.