رأي

بوجمعة العوفي: قُلْنَا لَكُمْ لا تُعَوّلُوا كَثِيراً علَى كُرَةِ القَدَم

هذا تحيين ممكن وضروري لمقال سابق لنا، ما زالتْ مبرراته ورسائله قائمة لحد الآن، وخصوصا بعد حزن المغاربة وسُخْطهم العارم والواسع من هزيمة منتخبهم الوطني لكرة القدم، غير المفهومة وغير المبررة تماما، أمام منتخب " البينين " في " كأس إفريقيا للأمم " بمصر هذه السنة ( 2019 ) ... السُّخْط والحزن والدموع في كل مكان .. في المقاهي .. في البيوت .. في غرف النوم والطعام وغرف الجلوس .. على أمواج الإذاعات وشاشات التلفزيون والحواسيب والهواتف الذكية الشخصية .. التذمر في الشوارع وفي الأزقة الضيقة والمُعتمة لوطن عربي قلَّتْ أو كادت تنعدم فيه مناسبات الفرح وسبُل الترويح عن النّفْس أو التعويض عن الكثير من الخيْبات والخسارات والهزائم وضيق ذات اليد .. تهتز المقاهي لصراخ المشجعين، وتصبح الهيستيريا جماعية !

الكرة، هذه " الجّلْدَةُ " المنفوخة بالهواء، هي الوحيدة التي أصبحتْ، ربما، أو كانت قادرةً على الأقل، على تشكيل الحَدَثَ في حياة الكثير من المغاربة والعرب بامتياز، سواء فازت فِرَقُهم المفضلة أو انهزمتْ في مبارياتها ودورياتها التي تحظى باهتمام واسع بمتابعة مكثفة تفوق متابعة باقي الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها من الوقائع والأحداث، في زمن عجزتْ فيه المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العربية والمغربية، ولسنين طويلة، عن خَلْقِ أحداث مفرحة تستحقها الأوطان .. !

شخصيا، لستُ من عشاق ومتتبعي كرة القدم وإنجازاتها، لكني أحترم في نفس الوقت هذه اللعبة الجميلة والمذهلة التي تدخل الكثير من البهجة والسرور على نفوس من يعشقونها حدّ الهَوَس أحيانا، وتجعلهم يجدون في إنجازاتها وإبداعاتها واحترافية فِرَقِها ومهارات لاعبيها الذين أصبحوا بمثابة " أساطير معاصرة " ( " ميسي " و " رولاندينو " على سبيل المثال لا الحصر )، الكثير من المتعة والتنفيس عن ضغوطات واقع سياسي واقتصادي واجتماعي جِدّ مأزوم، وصَلَ في الكثير من المجتمعات العربية إلى درجة الاختناق .. !

أضِفْ إلى ذلك أن هذه " الجَّلْدَة " العجيبة كانت سببا في العديد من المآسي بالنسبة للعديد من الناس: بسببها نشأتِ الكثير من الأحقاد والصراعات محليا وقُطْريا ودوليا، تحولتْ فيما بعد إلى حروب صامتة وسرية، مات الكثيرون بسببها وتَفَرّق شمْلُ الكثير من الأُسَر والعائلات .. حَدَثَتِ الكثير من الأعطاب والكوارث بسبب الكرة .. تم إلغاء أو تأجيل مواعيد كثيرة لأنشطة ثقافية وفكرية في الوطن العربي بسبب الكرة، وتم إعادة توقيتها حسب مواعيد بث مقابلات مهمة للكرة .. حتى أنه يُحكَى أن بعض أئمة المساجد " البارصاويين " و " الرياليين " أقاموا صلوات المغرب والعِشاء بالجمع حتى يتيحوا للمُصَلّين فرصة متابعة مباريات حاسمة  ومصيرية لفُرُقِهم المفضلة " برشلونة " و " ريال مدريد " التي  أصبحـتْ ملاعبها الإسبانية بمثابة " قِبْلةٍ " جديدة لـ " دين " جديد أو " أفيون " اسمه كرة القدم .. والمجد لـ " رونالدو " ورفيقه " ميسي " طَوْطَمُ " العالَم الجديد، ولفريق " برشلونة " المُحِبُّ لإسرائيل والمدافع عن " قضيته العادلة " .. ! إذ يكون من اللازم على كل لاعب قادم إلى الفريق البرشلوني أن يَزُور إسرائيل أولا، لأن الطريق إلى هذا الفريق تمر بالضرورة عبر إسرائيل .. وبفضل الكرة تغيرتْ أيضا الكثير من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للكثير من الناس والشعوب على هذه الأرض .. وربما هي ما يمكن أن يقال عنها بحق: " رُبَّ ضَارّةٍ نافِعَة " .. !

وإذ أسمح لنفسي، في سياق الهزيمة الأخيرة لمنتخبنا الوطني وظروفها وأسبابها وملابساتها وتداعياتها المختلفة على الكثير من النفوس، بأن أقول للمغاربة مرة أخرى: " لا تعولوا كثيرا على كرة القدم ! "، وأضع هذا الاقتراح أو هذه " الموعظة " الكروية في آذانهم وعنوانا أو عتبة ممكنة أيضا لهذا المقال المُقتضَب، على هامش ما شهِدَتْه وتَشْهَده في الآونة الأخيرة الكثير من مباريات منتخبنا الوطني وأنديتنا الرياضية المغربية مثل " الرجاء " و " الوداد "، أو حتى الفُرُق والأندية الرياضية الأجنبية المعروفة مثل " البارصا " و " الريال " وغيرها .. فذلك ليس تبخيسا أو تنقيصا من قيمة هذه اللعبة الجميلة ذات الشعبية الواسعة والكبيرة، بل من أجل مُناوِشة ممكنة أيضا لبعض الانعكاسات التي قد تتركها إنجازات هذه اللعبة على نفوس المغاربة، وعائداتها الرمزية ( إن كانت لها من عائدات بالنسبة للمغاربة ؟ )، وخصوصا في تداعياتها النفسية الخطيرة على نفوسهم وأحلامهم " الكبيرة " والمُجهَضة، في حالة لم تستمر هاته الإنجازات وتترسخ مستقبلا بما يكفي من الشروط والموضوعية، خصوصا حين يرفع فريقنا الوطني أو الفريق الكروي المفضل لدينا، من سَقْف وأفق انتظارنا، ونُصاب بعدها، في حال هزيمته، بالإحباط وخيبة الأمل، و " تلك هي المعضلة أو المشكلة "، على حد تعبير الشاعر المسرحي العملاق " شكسبير " في أحد حوارات مسرحيته الشهيرة " الملِك لير " .. !

قَطْعا، لا نستكثر هنا وهناك، سواء بالنسبة لفريقنا الوطني في كرة القدم أو بالنسبة لأنديتنا المغربية، مَهْمَا كان حجمها وترتيبها، ما يمكن أن تحققه من انتصارات قد تشبه المعجزة في بعض الأحيان، على أساس أن العديد من انتصارات المغرب الكروية القليلة أو أغلبها تكاد تكون بمحض الصدفة، ( وهذا رأيي المتواضع ويخصني وحدي لا غير )، إذ ليس من الضروري أن يتقاسمه معي الآخرون، ولا أحد، بنفس المناسبة، من حقه أو بإمكانه مصادرة حق المغاربة ( كل المغاربة ) في الفرح بإنجازات كُرَتهم الوطنية، وفي السخط أو التذمر أيضا من النتائج الصادمة وغير المُرْضية بتاتا لأداء فريقهم الوطني في استحقاقات وتظاهرات كروية على قدر كبير من الأهمية، لكن الكثير من المناسبات الكروية والكثير من النتائج المتحققة في هذا الإطار، تستدعي أيضا التفكير في بعض سياقات هذا الإنجاز الكُروي، سواء في الانتصار أو الهزيمة / لا فرق !، وفي أشكال تصريف هذا الفرح بالانتصار أو السخط من الهزيمة وتداولهما وتلقّيهما على المستويين الشعبي والرسمي على حد سواء، من حيث طريق تدبير الانتصار ( إن حصل ؟ ) ومواصلة استثماره نحو الأفضل، أو التوقف عند أسباب الهزيمة والمساءلة النقدية الدقيقة والصريحة لأداء فريقنا الوطني وخطط واختيارات مدربيه وتِقْنيّيه والقائمين على تسيير " الجامعة الملكية لكرة القدم " وتدبير شئون الرياضة في البلد بشكل عام .. !

 وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه ويدركه كذلك، وبالكثير من الوعي والموضوعية والعقلانية، الكثير من عشاق كرة القدم المغربية، حتى يؤسسوا عشقهم ودعمهم للمنتوج الكروي المغربي على الأداء الجيد والاحترافي فقط لفِرَقِهم ولاعبيهم، وليس على العاطفة أو على إعجاب  أو " عشق أعمى "، يكون مبنيا فقط على مسألة الانتماء أو الحس الوطني وحده، خارج " هاشتاغ: كلنا مع رونار بالقامِجّة البِيضة "، المنتشر أخيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، وتدوينات بعض المغاربة وبعض نجوم الفن على نفس المواقع، وكذلك خارج تغريدات السيدة " لطيفة رأفت " على " الإنستغرام "، على سبيل المثال لا الحصر، حين تقول: " فخورون بكم سواء ربَحْتو أو خْسَرتو ! " .. ما هذا المنطق يا سيدتي ؟ لقد خسرنا المباراة والرهان والحلم أمام فريق " البينين " الذي لا يتوفر على نفس الإمكانات المادية واللوجستية والميزانيات الضخمة المرصودة للمنتخب المغربي .. وبفريق كروي وطني مغربي أغلب لاعبيه متجنسون ومتواجدون على مدار الموسم الكروي خارج المغرب، فريق تطغى عليه الفردانية والمبادرات الفردية وغير متجانس تماما .. فريق كروي مغربي لا يلعب كمجموعة، بل كأفراد وعناصر شاردة في الميدان .. وهذا كان الخطأ القاتل وعطب منتخبنا الوطني ( غياب حس المجموعة والأداء الجماعي ).. حقيقة مرة مع كامل الأسف، وتلك كانت أيضا قوة وسبب انتصار فريق " البينين " .. ! لعلنا نستخلص من ذلك ومن هذه الهزيمة الكثير من الدروس والموْعِظات ونواجه ما حصل بالكثير من النقد من أجل تصحيح الرؤية والاختيار والأداء ؟ إذ بدون نقد حقيقي وصريح وتقييم موضوعي وعقلاني، لا تتطور التجارب والممارسات والإبداعات والإنجازات، مهما كانت طبيعتها ومجالاتها .. !    

من هنا، يكون أيضا على المغرب ( كل المغرب )، بكل مؤسساته وأوساطه الرسمية وغير الرسمية أن يعمل على جعل بعض الإنجازات التي تَهَبُها الرياضة الوطنية للمغاربة من حين لآخر أكثر مما تفعله السياسة ( سواء في الانتصار أو الهزيمة )، بمثابة فرص مهمة لإعادة تقيم المنتوج والخيارات والاختيارات، أي بما يجعل الهزائم مقبولة ومبررة على الأقل، والانتصارات دائمة وقائمة على نوع من الاحترافية والواقعية والوعي المصاحب لتصريف الفرح والكثير من المقدمات كذلك، ينبغي البحث عن مكامن الخلل في حال الهزيمة، وعقلنة ومأسسة الفرح بالانتصار ات الرياضية كذلك، ومن ثَمَّ استثمار الهزيمة أو النصر كنتائج وعوامل قادرة على تطوير وتحفيز إبداعية وإنجازات المغاربة في كل المجالات، خارج مسألة الاستثمار العفوي والعاطفي لمثل هاته النتائج، وخصوصا حين تَحْصُل بعض انتصاراتنا بمجرد الصدفة فقط .. !

 وبما أن الانتصارات الحقيقية في كرة القدم هي نتائج لمقدمات وإنجازات موضوعية وواقعية ( مثل واقعية واحترافية الكرة الأوروبية واللاتينية )، يمكنني التأكيد على أن الكرة صناعة، والفرح صناعة، والانتصار صناعة كذلك، ولكوني لا أومن بالمعجزات التي قد تصنعها في بلدي وفي سائر الوطن العربي كرة منفوخة بالهواء، أقول بأن نقد الممارسات وأشكال التسيير والتدبير  من أجل تجويدها هي ما يصنع الانتصارات الحقيقية والمعجزات، بما في ذلك الرهان على مَغربة الأطر والمؤطرين، المسييرين والمدربين والتقنيين لمنتخبنا الوطني، ليس في مجال كرة القدم فقط، بل في الصناعة، والرياضة، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والثقافة، والفن، والفكر،  وجل مجالات الحياة اليومية للمواطن المغربي بشكل عام .. !

إذَّاك يكون على نفس الفرح الذي ما زال المغاربة يطمحون إليه في الكرة وغير الكرة، ونفس الحشد الذي يزلزل المقاهي هاتفا للكرة، ويخرج للاحتفال بإنجازات الكرة، ويسخط لهزائمها، أن يَهُبَّ بنفس الكثافة ونفس الحماسة لمتابعة وحضور الأنشطة الثقافية والفنية والفكرية التي أصبحتْ في بلادنا العربية بضاعة كاسدة .. على نفس الحشد الكروي كذلك أن يهتف، بالكثير من الوعي والتعقل والتحضر، لمحاربة الفساد والمفسدين على امتداد خريطة الوطن العربي، ولبناء وطن تسوده الحرية والعدالة والمساواة والحياة الكريمة .. عدا ذلك، سأظل أردد كمغربي وككل عربي مع الشاعرة " لينا الطيبي "، مخاطِبا وطني المُشتهى أو المَحلُوم به: " أحبكَ ولا أحب كرة القدم " .. !