فن وإعلام

وجهة نظر نقدية: سوق عكاظ الرقمي

صالح هشام*

أسجل دخولي، وأنا عازم على الإبحار في مجاهيل هذا العالم الأزرق، الذي ترقص أعمدته على شاشة حاسوبي، ولا تستقر على حال٠ وقتها، تحملني ذاكرتي المجنونة إلى  الماضي، إلى صحراء العرب، إلى سوق عكاظ٠ أهيم على وجهي متسكعا بين خيامه، فأجدها تعج بكبار المبدعين العرب في مجالات إبداعية مختلفة ، شعراء ونقاد كبار سجلوا حضورهم بدم القلب والروح في عالم الأدب والشعر٠    

     أغفو لحظة ، ثم أعود أتصفح أعمدة حاسوبي، فأجده أشبه بسوق عكاظ الزمن الماضي، منصوبة فيه الخيام، منعقدة  فيه المجالس، ولكن، كل  من يدخل  خيمة من خيامه، تلصق على ظهره لافتة تحمل لقبا، بخط عربي جميل مضغوط، لكنها لا تخلو من أخطاء٠ فهذا فارس القصة، وذاك ملك ملوك النقد، هذا عندليب الشعراء وذاك رائد الكلمة، فأتساءل: هذه ألقاب جديدة، ربما لا توجد إلا في خيام عالمنا الأزرق، لأني تجولت في سوق عكاظ، فوجدت خيامه  تخلو تماما من هذه الألقاب، وحتى إذا وجدت، فإنها تكون ألقابا لحالات اجتماعية لصيقة بحياة الشاعر، ولا علاقة لها بإشعاعه في عالم الفكر والإبداع، فهذا الملك الضليل، وذاك شاعر الصعاليك، هذا جميل بثينة، وذاك عروة عفراء، لكني لم أجد أحدا تربع على عرش مملكة الشعر، أو اعتلى صهوة فرس النقد أو غيره من أجناس الأدب في ذلك العصر، الذي استحقوا فيه فعلا هذه الألقاب والأسماء، لأنهم ترفعوا عنها، فهذا حكيم الشعراء بقدره وقدراته الإبداعية في فلسفة الشعر والحكمة، كان رهين المحبسين لا ملكا لمملكة الشعر٠ فتساءلت : هل أصبحت هذه الألقاب المجانية أرقاما على صدريات شعراء، أو نقاد، أومبدعين مفترضين؟ أم أنها مجرد خواتم خطبة لا بد من حملها؟

     رأيت عالمنا الأزرق يعج بهذه الأسماء والألقاب، التي لم أجدها ولو في خيمة من خيام سوق عكاظ وجلساته الأدبية، فأقسمت برأس أمي وشرف أبي، أن ألج هذه الخيام في عالمنا الأزرق، فربما أجد فيها ما لم أجده في سوق عكاظ العرب، فقد يوجد في البر ما لا يوجد في البحر٠ قررت أن أقتحم عالم اللغة، وأبحر في مجاهيل المعرفة، علني أبحر في هذا العالم دون أن أحتاج إلى مراكب أو مجاديف، علني أجد ما يبرر هذه الألقاب التي لم أجدها في سوق عكاظ، فأبصم بالعشرة لحامليها، أنهم فعلا يستحقون أن يكون ملوك شعر وفرسان نقد، ورواد لغة٠ لكن بمجرد اقتحام فضاء لغة عالمي الأزرق وفي حدود ما تسمح به قدراتي المعرفية، فوجئت بالجملة العربية تستغيث، وتطلب النجدة، لأنها كانت تذبح من الوريد إلى الوريد بسكاكين ينقصها الصقل والشحذ٠ ولكن بمن تستغيث؟ أتستغيث بي- أنا القاريء البسيط – فأنا لا أحمل على ظهري ألقابا، ولم أتوج بتيجان مملكة الشعر، فما أنا ملك شعر، ولا رائد قصة، ولا فارس لغة، ولا مبدعا كبيرا٠

     أرق لحال لغتي المقهورة في زمن الإقصاء والقهر، فأحاول أن  أتدخل، فربما أرمم ما انهد من نحوها وتركيبها حسب قدراتي المعرفية، فتنهال علي  الشتائم من كل الجهات في هذا العالم الأزرق الغريب غربة لغتي بين أهلها وذويها٠   فمن أين أتتني هذه الشجاعة الوهمية ؟ كيف تجرأت بالنقد والانتقاد على عظماء عظموا أنفسهم، وتبادلوا بينهم العظمة، وكأنهم يتبادلون باقات الزهور أو أطباق الحلويات في أعياد الميلاد٠ كيف لي أن أخدش كبرياء هؤلاء الذين شرفتهم خيام سوق عكاظ العصر بهذه الألقاب التي يختارونها حسب الذوق والمزاج، وتفصل  على المقاس، فيمارسون اغتصاب اللغة باسم الإبداع، كلنا نغتصب اللغة، لكن نغتصبها جهلا بقواعدها، ولكن بدون تزكية أو مباركة من خيمة من خيام سوق عكاظ عرب العصر٠

      فالويل لكل غريب اقتحم خيمة من خيامهم، وتتجرأ على تغييرمنكر أو نهى عن جريمة ترتكب في حق هذه اللغة الغريبة، لأنه  سيكون مثار سخرية بينهم، فهو القزم الذي يتطاول على أسياده من فرسان وملوك ورواد، لذا يفتى بالإجماع في حقه بإقصائه وتهميشه وحرمانه من ولوج خيام سوق عكاظ المزيف٠

     في سوق عكاظ هذا، تراودني أفكار تصب النار على زيتي، فأؤلائك العظماء الذين يستحقون أن يختم منهم على الجبين بخاتم هذه  الألقاب، ترفعوا عنها  تخلصوا منها تواضعا، فاستغنوا عنها واكتفوا بأسمائهم العادية (فلان بن فلان بن فرتلان )، وفي أحسن الأحوال، يلقب نفسه معلما، أو شاعرا، أو ناقدا، دون امتطاء صهوة فرس النقد، أو يعتلي عرش مملكة الشعر، فيترك تلك الألقاب الرنانة والأسماء لمن يدعيها دون أن يستحقها، يتركها لعشاق البريق والشهرة المزيفة، ليعيثوا في اللغة فسادا٠

   فماذا سأفعل يا ترى؟  لقد أصبحت جزء لا يتجزأ من هذا العالم  الأزرق بما له من إيجابيات وما عليه من سلبيات، فأنا ملزم بالتسوق من سوق عكاظ العصر: من شعره وأدبه ونقده وإبداعه بصفة عامة، رغم أني أدرك حق الإدراك الفوارق الشاسعة بين عكاظهم وعكاظنا، بين عصرهم وعصرنا المحكوم بالتكنولوجيا والمعلوميات٠ والفرق بين وواضح، فهم يلبسون العمامة ويحترمون اللغة كاحترامهم أنفسهم، ونحن نلبس البدلة وربطة العنق ولا نحترم لغتنا، هم يتميزون بالصدق في ألقابهم وأسمائهم،  ونحن نمارس التزوير وانتحال الشخصيات وتزييف الواقع، ونحن نعلم أن هذه التسميات والألقاب  أصبحت توزع مجانا محاباة أو نفاقا، وليس حسب حياة أدبية عريضة يحياها منتحل اللقب، أو حسب إشعاعه الإبداعي،  هم كانوا أكثر صدقا مع أنفسهم، ونحن نمارس الكذب على أنفسنا وعلى الآخرين، ونجري لاهثين وراء سراب أسماء مزيفة٠ فما أقسى أن تكون على وعي بأنك تكذب على نفسك! هو الضمير سيصحو في يوم من الأيام، وسيحرقك كحمم البركان الخامد إلى آخر عظمة٠ هم كانوا يتحكمون في مغاليق اللغة فتطاوعهم، يدفعونها فتتدافع أمامهم سلسة عذبة كالماء الزلال، عندما يتسرب بين الأصابع٠ نحن نمارس عليها العنف، فتتمرد علينا، وتهرب منا الحروف، فنلحن كالأعاجم، تخلق لنا الفوضى، وتخرج عن طوعنا نطقا وكتابة، نضرب الأخماس بالأسداس، فيختلط علينا الحابل بالنابل٠ هم كانوا حكماء وفلاسفة لغة ورواة، كانوا بحارا من الدرر والجواهر، فاستحقوا ألقابهم عن جدارة، لكنهم ترفعوا عنها لأنها كانت في نظرهم من الصغائر٠ استحقوا لقب الشاعر لأنهم كانوا شعراء، ولأنهم قالوا الشعر، فجعلوه يخرج عن حدود الزمان والمكان،  ثم ينحى منحى إلى العالمية، أما نحن فماذا فعلنا حتى نستحق إلصاق هذه الألقاب بظهورنا، وكأنها شارات تعريف، أوأوسمة مزورة توسم بها صدور جنود جبناء؟ ماذا فعلنا حتى نستحق هذه الألقاب؟ والله، إنك تستطيع أن تقبض على الجمر، ولا تستطيع القبض على لقب وشح به صدرك قراؤك٠

       أدخل – في بعض الأحيان- صفحة قاص،  أو شاعر، أو ناقد، تطفلا، وحبا في المعرفة، فأجد منشورات خجولة، لا تفلت - أبدا- من التمرد اللغوي، وهناك من لا تجد في جعبته شيئا يذكر٠ فاللقب عنوان العطاء والترفع عن الدنايا والصغائر، اللقب بحر بلا شطآن، نهر بلا ضفاف، ربع بلا تخوم، هذا هو اللقب، ماعدا ذلك فإنه مجرد اغتصاب ألقاب، وانتحال شخصيات، وربما سيحاسبنا أبناؤنا في يوم من الأيام، لأننا كذبنا عليهم وبعناهم الوهم، وتظاهرنا بالعظمة، ونحن لا نساوي حبة بصل٠ والله أهون علي حمل الجمر في يدي من لقب يطلقه علي قرائي لأني أخاف أن أخذلهم، وتظهر حقيقتي غير التي خلقوها في أذهانهم .

-*ناقد