رأي

محمّد محمّد الخطّابي: رِحْلَةٌ في عُمْقِ التَّارِيخ عَبْرَ قَارَبٍ اسْمُهُ اللُّغَة!

اللغة.. هذا الكائن الحيّ المتجدّد الذي يعيش فينا وبيننا، هذا السّحر الخارق الذي بواسطته نأمل، ونألم، ونسعد ونحزن، ونتفاهم، ونتواصل، ونتعايش، ومن خلاله نستجلي حقائقَ مثيرة عن الذات، والنّفس، والكون، والحياة. هذه الكلمات التي تستكين في مكان ما من بؤرة الشعور، تقبع هنالك في سلام وأمن حتى إذا شئنا جاءتنا منقادةً تنثال على القلب واللسان كالسّيل المتدفّق. هذه الرّوح التي تعيش في أعماقنا، وفي بطون الكتب، والأسفار، والتواريخ، والمنقوشات، والحَجر، والصّخر، والأعمدة، والأقبية، والبيوتات، والمعابد، والهياكل، والأطلال.

هذه الكلمات التي تتراوح، وتتعايش، في دعة وسكون، وتتشاجر وتتشاكس في اضطراب وتوتّر، هذه الدلالات، والرّموز، والأغوار التي تخفيها اللغة تحت جناحيها، ونتراشق نحن بها، ونتغامز ونتلامز، ونعرب ونعبّر ونفصح ونستبين، هذه القدرة الإلهيّة الهائلة التي أحصت، وعلّمت الأسماءَ كلّها وقدّمتها لنا جاهزة معدّة نختار منها وننتقي وندبّج كيفما شئنا وشاءت ألسنتنا. هذه الكلمات الهاربة التي نقتفي أثرَها، كما يقتفي رجالُ الشرطة آثارَ الفارّين من قبضة العدالة، نحاسبها، نعاقبها، نكبّلها، ونجعلها قيد كلامنا، وكتبنا، وأسفارنا، كيف تفرّ منّا وتتلوّن ألف لون؟ تتوالد، وتعطينا ما لا عددَ ولا حصرَ له من الذريّة والنسل، بعضه يحيا، ويعيش ويتطوّر، ويتكاثر، والبعض الآخر يضمر، ويموت، ويتلاشى ويُنسى شأنه.

نسمّيها بحراً، وأين للبحر من عمقها، وغورها، وأسرارها، وبعدها، وتشعّبها، وتعدّد المُسمّيات بها، وكثرة التعابير فيها، وكلّ ما ليس في حسبانك استبطانه، ومعرفته، والإلمام به. لكلّ لغة قانون يحكمها ويربطها، وينظّم مخارجَ النطق الصحيح، ومدارجَ التعبير السليم، والبناء المُحكم فيها.

وليس للكلمات رابط ولا ضابط، فهي تفلت أحياناً من قبضة هذا القانون الصّارم فتصبح كلمات شاذة أو شاردة، وأحياناً سوقية حوشية، فهي مطّاطة سيّالة طيّعة حرّة متمرّدة مهاجرة، تسافر من بلد إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، تتزيّا بزيّه وتتلوّن بلونه، وقد تعود إلينا ملفعة بمعطف إنجليزي، بعد أن غادرتنا متدثّرة بعباءة قحطانية، قد ترجع إلينا بقلنسوة إفرنجية، إسبانية كانت أم فرنسية أم إيطالية أم برتغالية... أو سواها، بعد أن برحت موطنها الأصلي والأصيل بعقال عدنانيّ بهيج!

ما شأنها؟ ما سرّها؟ هذه الضالّة الهاربة، أليس حريّاً بنا أن نحاكمها ونعاقبها لتخبرنا عن سبب هجرانها أصلها وفصلها، وجدّ أجدادها، وتكشف وتقرّ لنا بخباياها، وبأسرار وطلاسم ليست في الحسبان.

اللغة مفتاح الأسرار التاريخيّة

لم يكن في ظننا يوماً أنها ستغدو مفتاحاً ذهبياً لأبواب مُوصدة، ونوافذ مغلقة تطلّ منها على التاريخ وعلى ماضيه الغابر، أجل إنّها المفتاح السّحري الضائع الذي طالما بحثنا عنه، ولهثنا خلفه، ها هو الآن معنا وبيننا في هذا الكتاب الذي وقع بين يدي في الأيام الأخيرة، الذي يحمل عنوان "تاريخهم من لغتهم" وصاحب الفضل في اكتشاف هذا المفتاح هو الباحث العراقي المرحوم الأستاذ عبد الحقّ فاضل، هذا الاسم ليس غريباً عنك أيّها القارئ الكريم، لما له من شهرة وبُعْد صيت، إنه معروف بعطاءاته في مختلف مجالات الفكر، والأدب، واللغة والإبداع. من أشهر أعماله: (مجنونان) و(حائرون) و(طواغيت) و(ثورة الخيّام) و(4 نساء و3 ضفادع) و(ملحمة قلقامش) و(مغامرات لغوية) وسواها. وهذا الكتاب الأخير يسير في نفس نسق الكتاب الذي سنتعرّض له في هذه العجالة، وقد أثبت الباحث فيه – حسب اعتقاده- أنّ اللغة العربية هي أمّ اللغات الآرية لا السامية والحامية فقط، وأنّ أصحابَ هذه اللغة كانت لهم حضارة عريقة، كما استحدث المؤلف فيه كذلك عِلماً أسماه علم "الترسيس"، ويعني به ردّ الكلمة إلى رسمها الأوّل، وقد ترك هذا الكتاب صدىً واسعاً بين علماء اللغة والباحثين في المشرق والمغرب عند صدوره.

فماذا إذن نحن واجدون يا ترى في "تاريخهم من لغتهم"؟.. يبرّر المؤلف رحمه الله الواعز الذي دفعه لوضع هذا الكتاب، فيقول: "ما أكثر الأسرار والمجهولات- التاريخية والقبتاريخية التي اندثرت وضاعت، فخرجت عن متناول المنقّب الآثاري فعلاً، وهي ما تزال في متناول الباحث اللغوي وحده..! لأنّ الأقدمين من أبناء المعربة لم يسجّلوها في مسطورات لهم كتابية، ولا نقوش جدارية، ولا صور كهفية، ولا شقف فخارية، وإنما سجّلوها تسجيلا مفيداّ، عفويّاً، في لغتهم وانصرفوا، سجلّ اللغة، هذه المضبرة الهائلة تختبئ في زواياها المهملة المعتمة كنوز أيّ كنوز". (كان المؤلف قد اقترح استعمال "المِضبرة" بمعنى مخزن الأضابير أيّ الأرشيف).

ولا ريب، ولا جَرَمَ أنّ قارئ هذا الكتاب قد تأكّد بأنّ بين خفايا هذه اللغة تختبئ وتتوارى كنوز أيّ كنوز كشف لنا عنها النقاب هذا الباحث بأسلوب فريد يجمع بين الجدّة والطرافة، في آنٍ واحد حتى غدا أشبهَ بقصّة مبسّطة رائعة مسلسلة ما أن تنتهي من فصلٍ، حتى تنتقل إلى فصلٍ مُوالٍ لطرافة الموضوع، وأسلوب المعالجة الذي ينهجه الباحث، فيقصي عنك بالتالي ثقلَ الدّراسات اللغوية العقيمة، ويجعل من هذا العلم (فقه اللغة) فنّاً محبوباً وجميلاً.

اليمين واليسار.. وحقائق أخرى!

في بحث المولّف عن اليمين واليسار تقابلنا حقائق لغويةٌ وتاريخيةٌ مثيرةٌ وطريفة، إنه يخبرنا أنّ كلمة (اليمين) مشتقّة من اسم أرض اليمن، واسم الشّمال من اسم بلاد الشّام، ومن "اليَمَن" جاءنا اليُمن، والتيمّن، اليامن، الميمون، اليمين، أيمن الله، أيّم الله، هيم الله، أمّن (بالتشديد)، آمن، الإيمان، آمين، التي وردت في صيغتها العربية في اللغات الأوربية، هذه المعاني جميعاً جاءت من "اليمّ"، أيّ البحر أقصى ما تنتهي عنده رحلة الأعرابي الشتوية جنوباً، وكلمة اليمّ نفسها يرجع رسّها الأوّل إلى صوت هبوب الرّيح هكذا: هو ووو- هو- هواء- هباء- هباب- أباب- آب- آم – ماء- ماي- مي - يم- يمن- يمين! ومن غريب الصّدف أنّ كلمة (أَمَنْ) (بالتحريك) بلغة أهل الرّيف الأمازيغية بالمغرب تعني الماء، وهي قريبة في المعنى، والنطق ممّا سبق ذكره كما ترى!

ويخبرنا الكاتب أنّ صيغة الشّمال تنحدر من لفظة (شم) التي حاكى بها الأعرابيّ الأقدم صوتَ استنشاق الرّوائح تعبيراً بالشّين من صوت دخول الهواء من الأنف، وبالميم من انطباق الشفتين عند الشمّ، وتكون نشوء الكلمة إذن على هذه الوتيرة (كما يسوقها الكاتب): شم- شام - الشام - الشآم - الشامل - الشَّمال- الشِمال - (بكسر الشين)!.

ولا تعجب إذا تساءل الكاتب معك عن بعض الصّيغ الاسمية، سواء العربية أو الأجنبية، فأخبرك بأسرارها وتأثيلاتها، بل تأنَّ وتمعّن جيّداً وتتبّع خيطَ الحديث حتى تستبين لك الحقيقة ناصعة كبلج الصّباح - لا تعجب مثلاً إذا أخبرك أنّ لفظة (فونيكس) اللاّتينية إنْ هي إلاّ كلمة فينيقية وهي من بني كنعان، وهي العنقاء مع شيء من التحريف بعد أن أبدلت العين في أوّل الكلمة، وتلاحظ أنّ النّون والقاف ما زالا ظاهرين، وأمّا مسألة إبدال العين أو حذفها فيقول الكاتب: إنها أمر لا بدّ منه عند الأجانب حيث يتعذّر نطقها أو عدم وجودها عندهم، وأنّ أطلنطة من الأطلس، وأنّ كلمة أرز هي عربية وليست لاتينية ولا صينية!. وكذلك عشتار سيّدة الآلهة، وعظيمة الربّات، إلهة الحبّ، والخصب، والجمال عند البابليين وسواهم من الشعوب القديمة، ولا تعجب إذا فتح لك هذا الكتاب بابَ التأثيل على مصراعيه ليقول لك في اطمئنان إنّ مبعث هذه الكلمة ومصدرها هي الجزيرة العربية وليس العراق القديم كما كان يُظنّ ويُعتقد من قبل، وأنّ الأثل القديم لهذه الصّيغة وصيغ أخرى مشابهة لها وهي صيغة ثائية وهي الثور!.

كلّ هذه الحقائق وسواها يقدّمها لك هذا الكتاب بواسطة مفتاح الأسرار التاريخية المبهمة ويا له من مفتاح. والمؤلف لا يستعجل الحُكم بهذه البساطة التي أقدّمها لك الآن، بل يتحتّم عليك أن تتذرّع بصبر الباحث المدقّق المتتبّع حتى تسايره في بحثه وتنقيبه في ( أضابير) اللغة وتحرّيه لها لتصلا معاً في النهاية - أنت والمؤلف- إلى هذه النتائج الباهرة التي تذهلنا حقّاً وتقلب موازين الأمور لدينا. فالمؤلف يقدّم لك نتيجة بحثه بخصوص لفظة أو صيغة (عشتار) على سبيل المثال فيما يقارب الثلاثين صفحة من الحجم الكبير حتى ينتهي بك إلى النتائج التي انتهى إليها.

ولا تذهل إذا أنت ألفيتَ في هذا الكتاب بأنَ صيغ: عربي- آرامي- عبري- إنْ هي إلاّ صيغة واحدة، وأنّ صيغة عبري التي كنت تعتقد أنها من العبور (إشارة إلى عبور قوم موسى) ليست صحيحة، بل إنّها كلمة عربية أصيلة، ويقول المؤلف مستدلاً على صحّة نظريته: "ويوحنا ذهب اسمه في الأرض فصار يدعى يحيى، يوهان، وأوهانيس، وإيفان، وجوهان، وجون، وخوان، وجوفاني، في مدى نحو ألفي عام، فلا غرابة أن يشتقّ آرامي من أعرابي، أو أرمي من عربي، وعبري من عربي، وعبراني من عرباني، في مدى ألوف لا نعرف عددَها من الأعوام. وبتواضعٍ شديد يخبرك المؤلف مستدركاً إذا لم تكن قد اقتنعت واستسغت هذه النظرية قائلاً: "يا صديقي القارئ لعلك لم تقتنع بعد بصحّة هذه النظرية فلا بأس عليك، حسبنا ما عرض لنا في أطواء الحديث من هذه الشؤون اللغوية العجيبة".

صيغة "عربيّ" كمثال

وفي باب أثل كلمة "العربي"، التي حار فيها الباحثون والمستشرقون، يسوق الكاتب العديدَ من الكلمات ذات علاقة وطيدة بمادة (عربي)، فإذا هي من الوفرة ما لا يمكن حصرُه في كتاب مستقلّ، ولن أبخل على القارئ الكريم ببعض الأمثلة لما جاء في هذا الكتاب القيّم: بَرَق: لمع، وتلألأ، برّقتَ الشيء (بالتشديد) وتاء المخاطب: زيّنته، برقت المرأة برقاً، وبرقت تبريقاً وأبرقت إبراقاً، تزيّنت، ومن هنا جاء التبرّج الذي كان يعني في القديم إظهار المرأة زينتها ومَحاسنها للأجانب، وصارت الكلمة تعني حديثاً المبالغة في الزّينة، ثم صار قولهم (برج) شيء ظهر وارتفع، أي برز، ومن هذه المادة صاغوا البرزة (كالهمزة) المرأة بارزة المحاسن، والخيل (العراب) السالمة من الهجنة، وأعرب فرس صهل، فعرفتَ عتقه بصهيله فهو معرب، والعروب: المرأة الحسناء ومنها الآية: (عربا أترابا)، والعُرُب (كالكتُب) الضاحكات الغنجات وقيل العواشق، وعَرِبَ فلان (كفرح) نشط، والعرْب (بتسكين الرّاء وفتحها) النشاط إلخ. ومن طريف ما يذكره المؤلّف في هذا الباب أنّ (الكَبْل) يظهر في الفرنسية والإسبانية والإنجليزية، Cable بنفس معنى الحَبْل أوّلاً، ثم السلك المعدن، ثم صار يعني البرقية منذ كانت البرقيات تُرْسَل بالأسلاك، وفي العراق يسموّنها (القابلو) تعريباً وجمعُه (القابلوات) ولو سمّوه الكبل وجمْعه الكبول لجمعوا بين العروبة والتعريب، ومنه كبّله تكبيلاً أي أوثق يديْه بحبلٍ أو بكبلٍ أو ما أشبه!.

حقائق تاريخيّة كشفتها لنا اللغة

ويؤكّد المؤلف أنّ اللغة العربية حافلة بالألفاظ الثمينة ذات الدّلالات المختلفة التي تدعونا دعوة ملحّة إلى استنطاقها لتبوح لنا بأسرارها وتعطينا نفائسَها، وقد توصّل المؤلف بمجهوده الشخصي بواسطة بعض الألفاظ إلى حقائق مثيرة، منها: أنّ سكان الجزيرة العربية كانوا أقدمَ الفلكيين بين شعوب الأرض، وأقدمَ معرفة بالفلك وحركات النجوم حتى من أبناء الرافدين وأبناء النيل. كما تبيّن للمؤلف عن طريق اللغة أنّ هؤلاء السكان نقلوا عبادة الشمس إلى مصر منذ قديم العهود- بل أغرب من هذا – أنّ اللغة باحت لنا بسرّها المكنون عن حقيقة ما يسمّونه قارة أطلنطة التي غمرها البحر، والتي اختلفت فيها الظنون، بل عيّنت لنا اللغة موضعَها وهو المحيط الأطلسي كما كان يُعتقد، ويقدّم لنا هذا الكتاب الكثيرَ من المفاجآت اللغوية الطريفة، إذ هو يجيب من تلقاء نفسه عن العديد من الأسئلة المحيّرة التي طالما شغلتنا في مجال اللغة أو التاريخ. ويذهب المؤلف إلى القول إنّ "الإرث" كان يعني الأرض أوّل الأمر، مستدلاًّ بكونه لا يزال يعني في اللغة الإنجليزية الأرض، وممّا يؤكّد ذلك هو أنّ غالبية ما كان يرثه المرءُ عن أجداده في القديم كان هو الأرض باعتبارها أولى وأهمّ الممتلكات قبل الأخلاق! أو المال! أو العمائر!... إلخ. ERTH (إِرْثْ).

بين عيشة.. وعشتاروت

وقبل أن نجزي الشكرَ لصاحب هذا الكتاب لا بدّ من إبداء الملاحظات التالية:

*لفظة (إِثْرِي) الشلحية أو الأمازيغية في لغة (منطقة أهل الرّيف بشمال المغرب) التي تعني النّجم جاء جمعها في الكتاب إثرات (بالتاء) وصوابه إثران (بالنون)، وهو ربما يكون خطأً مطبعيّاً بيّناً.

*جاء في الكتاب تحت عنوان (عيشة قنديشة) ما يلي: أن "م. خوليو الأستاذ بجامعة مدريد كان قد ألقى في مدينة تطوان (شمال المغرب) محاضرة بسط فيها مدى تأثير الحضارة البابلية في الشمال الإفريقي، وذكر أنّ "عيشة قنديشة" (سيّدة المستنقعات) كانت امرأة جميلة تغوي المارّين المنفردين كلما استوحدتهم، وارتأى هذا الباحث أنها من مخلّفات آلهة الحبّ الفينيقية عشتاروت". وبالنسبة إلى الأنثربولوجي الفنلندي وستر مارك يتعلق الأمر بمعتقدات تعبّدية قديمة، ويربط بين هذه الجنّية المهابة و(عشتار) إلهة الحبّ القديمة لدى شعوب البحر الأبيض المتوسط من القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين. وحسب بعض الروايات، فـ"عيشة قنديشة" شخصية حقيقية، وهي امرأة تنحدر من الأندلس، من عائلة موريسكيّة نبيلة طردت عائلتها من هناك، عاشت في القرن الخامس عشر وأسماها البرتغاليون "عيشة كونديشة"، أي الأميرة عيشة (الكونتيسا contessa). وبالنسبة إلى الكاتب، فإنّ اسم (عيشة) تحوير آخر لواحدة من الصّيغ الكثيرة التي مرّت بنا. يقصد تحويرا لاسم عشتار. وتجدر الإشارة أن ما أورده المؤلف بشأن "عيشة قنديشة" كأسطورة في حدّ ذاتها صحيح (وإن تعدّدت رواياتها) أمّا كون اسم عيشة هو تحوير عشتار أو عشتاروت فأستبعد ذلك لسببٍ بسيط هو أنّ هذا الاسم (عيشة) إن هو إلاّ تصغير (من باب التلطيف) محرّف لاسم عربي أصيل هو "عائشة" وأصل تصغيره: عويشة، ثمّ حُذفت الواو، وكسرت العين للتخفيف، وهناك صيغ أخرى كثيرة ومشهورة في العامية المغربية لهذا الاسم منها: عائشة، عايشة، عيشة، عشوش، عشوشة، عيّوش.

" الرّاء" على الطريقة الباريسية!

ونقرأ في هذا الكتاب أنّ " الظواهر اللغوية كثيراً ما تنصرف إلى قوم آخرين ثم تزول من أصحابها الأوّلين، وقد تبقى عند الأوّلين"، ويضرب للقارئ مثلاً لذلك بظاهرة أهل الموصل اللغوية الذين ينطقون (الرّاء) غيناً، ويقول: وهي من أبرز خصائص اللهجة الموصلية التي يتندّر بها البغداديّون، مورداً الكثير من الأمثلة، أسوق منها ما يلي: مثل قولهم في البصرة البصغرة، وغُمّان في رُمّان، وجغّة في جرّة، وغاس في رأس...إلخ ويذكرنا هذا بظواهر لغوية أخرى من هذا القبيل موجودة في بعض أهالي المدن المغربية أمثال: تطوان، فاس، الشاون... إلخ. ويروي المؤلف أنّ أصل ذلك راجع إلى بعض المليحات من إماء وحرائر يعجزن عن نطق الرّاء، ولا سيّما بعض الأعجميات منهنّ فيلثغن فيها، (ومعروف أنّ الإمام واصل بن عطاء كان ألثغَ الرّاء، فكان يتحاشى ذكرها في خطبه التي قد تدوم ساعات)!. ولما كان كل ما يفعل الحبيب حبيباً، فقد استحب عشّاق الجمال ذلك في تلك المليحات أو الحرائر، فصارت طالبات التأنّق والتجميل والتملّح يقلدنهنّ، فانتشرت اللثغة حتى عمّت بمرور الأجيال أهلَ بغداد كالذي حصل لأهل باريس مثلاً، ثم انتقلت هذه العدوى من بغداد إلى الموصل فاندرست اللثغة في موطنها، وظلّت الموصل مبتلاة أو متنعّمة بها!

وأشير في هذا المقام إلى أنّ أستاذي الدكتور رمضان عبد التوّاب، مدرّس فقه اللغة بجامعة عين شمس، كان قد أورد في كتابه "لحن العامّة" رأياً لمستشرق ألماني يُدعى بيشت رسل مفاده أنّ أصل هذه اللثغة هي أجنبية في الغالب ثمّ تعوّد عليها القوم فانتقلت فيهم من جيل إلى جيل، لذا فأنت لا تجدها سوى في الحواضر حيث الرّخاوة والطراوة ولا يمكن أن تجد نظيراً لها في البوادي. وقد ذكر هذا المستشرق بعضَ المدن التي توجد فيها هذه الظاهرة اللغوية، ومن عَجَبٍ أنه ساق بعض المدن التي سبق ذكرها آنفاً.

*جاء في هذا الكتاب ما معناه: الأبلق حللته اللغات الأوربية إلى لونين مختلطين فجعلتهما مستقلين، فبعض هذه اللغات كالإنجليزية أطلقته على الأسود (بْلَاكْ)، في حين أطلقته لغات أوربية أخرى مثل الإسبانية، والفرنسية،Blanco ،.Blanc Black والبرتغالية، والإيطالية على الأبيض).

الدّارجة المغربية.. والفُصحى!

كان الأستاذ عبد الحق فاضل من المُعجبين بالدارجة المغربية على أساس أنها تعدّ (في نظره وفي نظر العلاّمة عبد العزيز بنعبد الله رحمهما الله) من أقرب اللهجات إلى الفصحى، لذا هو كثير الاستشهاد بها في كتابه، كأن يقول لك مثلاً: "من معنى النهوض قالوا أناء ينوء، بمعنى نهض أوّل الأمر، ثم بمعنى نهض، بمشقّة كمثل قولهم ناء بحمله، وقد قالوا ناض ينوض بمعنى نهض آنفاً. لكن (هذا الفعل الذي انقرض في الفصحى ما زال موجوداً في الدارجة المغربية بنفس معناه). ومن الألفاظ الأخرى التي ساقها الباحث: يرعف (والمغاربة فيما أعلم هم الوحيدون الذين يقولون في لغتهم الدارجة (يرعف) بمعناها الفصيح أيّ يسيل أنفه دماً ).- ربيع: (والمغاربة يسمّون الحشيش والأعشاب الخضراء ربيع) بنفس المعنى العربي القديم. – البشرة: وما زالت تعني كلمة الأبلق أبيض البشرة، أي الأشقر بالدارجة المغربية.. إلخ.

*ومن الألفاظ الشلحيّة أو الأمازيغيّة (لغة أهل الرّيف بالمغرب وبعض مناطق بلدان الشمال الإفريقي) التي استشهد بها المؤلف، قوله: - أَمَنْ: (بالتحريك) بمعنى الماء، يقول: وفي المعاجم القديمة: يَمَنْ بمعنى الماء. وحيثما كان الماء كان الأمان، – إثري: بمعنى النجم وتُجمع بإثران، يقول كان أثلها أثيرة (من اسم عشتار البابلية) أو الثريّا. - تزيري: بمعنى القمر (يقول: أثله السّاهور أو السّاهرة أو الزائرة أو نحوها آتيا، أو لعلّها من أثيرة). يقول عنترة بن شداد فارس بني عبس متباهياً: (إنّي وإن كنتُ في عدد العبيد فهمّتي فوق الثريّا والسّماكِ الأعزلِ) – آرِيشْ: بمعنى الشّعر، ويتفق هذا مع المعنى القديم للكلمة التي كانت تعني الرّأس أوّل الأمر ثم عموم الشّعر. وما زال الرّيش في الفارسية يعني الشّعر كذلك، – ومن أغرب ما مرّ بي في هذا الكتاب لفظة طريفة يستعملها الأشقاء التونسيّون في عامّيتهم بكثرة، وهي (بَرْشَا) بمعنى كثير، ولمّا حِرْتُ في معناها أجابني الكتابُ بالصّدفة قائلاً: "وأرض برشاء كثيرة العُشب مختلفة ألوانه".

نبوءة شاعر النيل

وإذا كان المؤلف قد أرسى في كتابه "مغامرات لغوية" (نظرية الترسيس) في العربية التي نقلها المستشرق الفرنسي جاك بيرك إلى الفرنسية باسم Racinisme، بما قدمه من نماذج أثلية رائعة، وخاضه من مغامرات لغوية مثيرة، فإنه في كتابه "تاريخهم من لغتهم" يفتح باباً جديداً في عالم (فقه اللغة) و(التاريخ) ذلك أنّه أوجد لنا وسيلة أخرى للتعرّف على بعض الظواهر اللغوية الغريبة، وكذلك جعلنا نتعرّف على عالم جريء باقتحامه ميداناً كان ولا يزال يعدّ من باب المباحث الميتافيزيقية نظرا ً لكونه يبحث فيما وراء حدود المعلوم، ولكنّ عذرنا أنه يقدّم لنا في الختام أشياء مفيدة، وحقائق شيّقة، ويستحثّ هممنا نحو المزيد من الفضول العلمي، والبحث اللغوي، والتحرّي الدقيق حتى نقف على حقيقة هذا الإرث المشترك الذي نسمّيه: اللغة العربية. وليأذن لي صاحب هذا البحث الشيّق أن أستعيرَ منه العبارة البليغة التي ختم بها كتابَه الماتع فأقول معه: ليت المرحوم حافظ إبراهيم كان يدري أيّة نبوءةٍ إعجازيةٍ قذف بها في مسمع الدّهر يوم حكى لنا أنّ اللغة العربية قالت عن نفسها: أنا البحر في أحشائه الدرّ كامنٌ.. فهل سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي؟!

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم –بوغوطا- كولومبيا.