تحليل

تحولات المؤسسة الأمنية في 20 سنة من الإصلاح

إحسان الحافظي*

في الذكرى الـ20 لعيد العرش فرصة لتقييم الكثير من المبادرات وتثمين الإنجازات وترصيدها، خاصة حينما يتعلق الأمر بمجالات استراتيجية تهم أمن الوطن والمواطن. فخلال هذه العشرينية من تولي الملك محمد السادس العرش جوبهت الكثير من التحديات الأمنية بفضل تطوير استراتيجية قادرة على التمكين الأمني للجهاز وتعزيز نجاعته قابلته فعالية في الأداء. ولعله من باب التذكير فقط، القول بالسمعة الدولية التي وسمت الأجهزة الأمنية بفضل تعاونها الدولي ونشاطها الداخلي المكثف في سبيل تحصين البلاد ضد ظواهر إجرامية تهز بلدانا كثيرة في الحوار المغاربي والأوروبي.

خلال 20 سنة شهد مجال الأمن بدوره تطورا ملحوظا وإنجازات كبرى جعلت المؤسسة الأمنية تفخر بكونها رائدة عالميا في مكافحة الجريمة المنظمة عبر مختلف أشكال التعاون الأمني الذي أبانت عنه الأجهزة الأمنية إقليميا وقاريا. وقد اتسمت السياسات الأمنية للدولة بدورها بتحولات كبيرة بصمت أداءها ونجاعتها في هذه المرحلة من تاريخ المغرب.

في المرحلة برمتها يمكن أن نضع أربعة عناوين كبرى تسم التطور الذي عرفته المؤسسة الأمنية. وتهم: إعادة بناء المفاهيم العامة حول ممارسة السلطة (أولا). وتعزيز التعاون الأمني الدولي (ثانيا). وإصلاح المنظومة التشريعية والمؤسساتية لقطاع الأمن (ثالثا)، وأخيرا اعتماد مقاربة وقائية واستباقية للتعاطي مع الجريمة العابرة للحدود وخاصة الإرهاب.

أولا؛ إعادة بناء مفهوم السلطة: لقد حرص الملك منذ توليه العرش على تطوير المفاهيم المرتبطة بممارسة السلطة. وقبل ذلك حمل الممارسة إشارات دالة على رغبة أعلى سلطة في البلاد لإعطاء نَفَس جديد للتصور العام حول ممارسة السلطة في العهد الجديد. وقد منح خطاب الدار البيضاء لسنة 1999 مدلولا جديدا رجال السلطة من خلال دعم سياسة القرب وطرح المفهوم الجديد للسلطة. كما واكب هذا التصور المفاهيمي الجديد إدراج ثقافة حقوق الإنسان في معاهد التكوين الشرطي وتجويد سلوكيات رجال الأمن في العلاقة مع المواطن. وترصيد الجانب الحقوقي في كل ما يتعلق بسلوكيات المكلفين بإنفاذ القانون. هذا التحول في فهم السلطة سيتوجه نحو “الدسترة” بإقرار مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كقاعدة دستورية عامة وملزمة لكل الموظفين.. فكانت هذه التشريعات مدخلا لممارسات سليمة قوامها الشرعية والمشروعية.

ثانيا؛ تعزيز التعاون الأمني: في ظل تنامي الأخطار والتهديدات الأمنية الجماعية، نجح المغرب في فرض نفسه كواحد من المؤسسات الأمنية الموثوق بها وذات المصداقية في توفير المعلومة الأمنية وتحليل المعطيات وتتبع ورصد المشتبه بهم سواء داخل الوطن أو في الخارج. فأصبح المغرب قوة أمنية يُعتمد عليها، وأبان عن نجاعة وسرعة وفاعلية في التعاطي مع المخاطر في كل حوادث الإرهاب التي شهدتها أوربا (فرنسا، إسبانيا، بلجيكا…) أو حتى شرق آسيا (هجمات سيريلانكا). وقد اتخذ التعاون الأمني شكلا ثنائيا عن طريق فتح مكاتب “ضباط الاتصال” في كل من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الامريكية ولدى الاتحاد الأفريقي. كما سلك المغرب التعاون متعدد الأطراف من خلال التنسيق الأمني مع منظمات الأنتربول والافريبول وغيرها من المؤسسات الأمنية الدولية متعددة الأطراف. ولاحقا سوف يتخذ التعاون الأمني طابعا أمميا من خلال رئاسة مشتركة لولاية ثالثة للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب ويشتغل بتعاون وثيق مع العديد من المنظمات الدولية والإقليمية، بما في ذلك الأمم المتحدة.

ثالثا؛ تعزيز الإصلاحات: باشر المغرب خلال هذه المرحلة من تاريخه سلسلة إصلاحات قانونية تصلب قوام العمل الأمني، وقد نحت جل الإصلاحات نحو تعزيز ضمانات حقوق الإنسان واحترام الحريات وتجويد الثقافة الحقوقية وترصيد التراكم المنجز. وشملت هذه التطورات مراجعات للقانون الجنائي بما يعزز مراقبة العمل الشرطي من خلال التوثيق السمعي البصري لجلسات الاستنطاق ومراجعة اجراءات الحراسة النظرية وغيرها من الإصلاحات التي همت المساطر. كما استقر العمل على تكريسه سلطة التقرير عن العمليات الأمنية تختص بها هياكل وطنية منها المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي أنجز عديد التقارير في موضوع التدبير الأمني لحركات الاحتجاج العمومي. وقد شكلت توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة عملا كبيرا دفع نحو تكريس الشرعية والمسؤولية التضامنية للحكومة عن أعمال قطاع الأمن، بينما عزز دستور 2011 الرقابة السياسية والبرلمانية على قطاع الأمن توجبها وتشريعا وتنظيما.

رابعا؛ مقاربة أمنية وقائية: يظل الحرب على الإرهاب واحدا من التحديات الأمنية التي واكبت عمل الأمن منذ الأحداث الإرهابية لـ16 ماي 2003 بالدار البيضاء. ورغم الصدمة التي أثارتها هكذا عمليات بحكم أنهل استهدفت في عمقها الاستثناء المغربي، فإن التغييرات التي طرأت على المؤسسات الأمنية وتعيين كفاءة أمنية مشهود لها بالنزاهة والوطنية على رأس مديرية مراقبة التراب الوطني، مكنت من تطويق سريع للظاهرة الإرهابية والحد من تأثيراتها، واعتماد مقاربة استباقية وقائية تقوم على تفكيك الخلايا الإرهابية قبل انتقالها إلى مرحلة التنفيذ. وقد ساهمت هذه الإستراتيجية في تحييد الكثير من المشاريع الإرهابية في مراحل متقدمة من الإنجاز وفق مقاربة قانونية قضائية تزاوج بين العمل الاستخباراتي الدقيق والعدالة وتطوير الترسانة القانونية حتى تواكب تطور الطاهرة الإرهابية وتطوق مجالات اشتغالها في غسيل الأموال وتجنيد المقاتلين وبناء شبكات عنقودية نشِطة.باحث في الشؤون الأمنية .

* باحث في الشؤون الأمنية