تحليل

عيد العرش .. نهضة ملك وشعب...

مصطفى قطبي

تحتفل بلادنا بعيد العرش المجيد. ومع بزوغ شمس 30 يوليوز تحل الذكرى العشرين لتربع عاهل البلاد، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، على عرش أسلافه المنعمين. ومع احتفال المغرب بذكرى عيد العرش المجيد، ووسط ظرف بالغ الدقة والتعقيد يعيشه المحيطين الإقليمي والدولي، لا يملك المرء سوى الانصياع لحقائق التاريخ والواقع التي تقر للتجربة التنموية المغربية فرادتها وتميزها، ونجاحها في الوصول بسلاسة ويسر إلى مرفأ آمن من السلام والاستقرار والديمقراطية والانجازات، محفوف بقدر كبير من الإعجاب والتقدير العالميين المشهودين في دوائر السياسة والإعلام الدوليين، وذلك بفضل القدرات الاستثنائية للقيادة الحكيمة لصاحب الجلالة محمد السادس والتي مكنت السفينة المغربية من العبور في بحر متلاطم الأمواج بحنكة وثقة واقتدار، وتفوقت على نفسها في قدرتها الفريدة على مجابهة صعوبات الماضي وتحديات الحاضر وامتلاك الرؤية الثاقبة لقراءة طالع المستقبل.
ولأن المستقبل ينطلق دائما من معطيات الماضي والحاضر حيث يشكلان معا الأساس السليم لبنية التطور المغربي فإن ملامح هذا المستقبل تبدو واعدة وزاهرة على كافة الأصعدة انطلاقاً من مدخلات التنمية وأساسها السليم الذي يدفعها دائما إلى التطور والازدهار، ولذلك يأتي الاحتفال بالذكرى العشرين لتربع عاهل البلاد، على عرش أسلافه المنعمين، هذا العام بخصوصية مختلفة عما سبق لعدة اعتبارات:
أولها: أنه رغم الإنجازات التي تحققت على مدار السنوات الماضية على كافة المستويات فإن الطموح والأهداف المغربية لا تنتهي ولا تتوقف عند حد معين وتحتاج إلى تكاتف كافة جهود الدولة والمجتمع من أجل بلوغ الغايات النهائية في تحقيق التنمية الشاملة وازدهار المغرب وتبوؤه مكانه اللائق به على الخريطة الإقليمية والعالمية.
ثانيها: أنه يمثل محطة مهمة لتقييم ما تم من إنجازات وإزالة أي عقبات قد تعيق مسيرة التنمية المغربية وفقاً لمخرجات التنمية وعملية التغذية المعادة التي قد تتطلب تغيرات وتعديلات في الوسائل أو السياسات وفي إطار المنهج العلمي التخطيطي الذي تنتهجه الدولة.
ثالثها: أنه أيضاً محطة لاستشراف ملامح المستقبل وتحديد وترتيب الأولويات وفقاً للمتغيرات الجديدة على أرض الواقع واختراق آفاق جديدة في العمل التنموي من خلال طرح تصورات جديدة للمستقبل بما يصب في الاتجاه الأساسي لتحقيق التنمية الشاملة، ولذلك فإن الحديث عن الإنجازات المغربية على كافة المستويات ليست كلاماً مرسلا بقدر ما تعبر عنها الأرقام والحقائق على الأرض وعلى كافة المستويات.
فالتوازن القويم هو أساس نجاح التوجهات الملكية المغربية وتماسكها في مواجهة التحديات والتغيرات التي جرت وستجري في عالم اليوم من تقلبات عصفت بأمم وشعوب كثيرة أخذت المنهج الأحادي الشمولي، ونبذت القيم، فكان مصيرها متحف التاريخ. فمنهجية التوازن بين التفاعل مع العصر والحفاظ على القيم والثوابت والإرث التاريخي جعلت النهوض المغربي يمشي في تدرج محسوب وسير مرسوم بلا منغصات أو انحدارات تقوض ما تم إنجازه واستلهامه من التقدم والتحضر ليضاف إلى هذا البناء المتماسك الوطني، ولذلك فإن النهضة المغربية لم تعرف الثنائيات المتناقضة كما وجدت بعض الأمم كالتناقض بين الأصالة والمعاصرة... بين القديم والحديث... بين الثابت والمتغير... بين التراث والعصر، هذا الالتئام عزز هذه النهضة، وأعطاها مداها واتساعها وقوى بنيانها لتكون أكثر استيعاباً لمنجزات الحضارة وفي نفس الوقت أقدر استلهاماً لقيم التراث.
والذي يؤكد على النظرة الثاقبة التي توليها القيادة الملكية الحكيمة، على أهمية التفاعل مع العصر مع الحفاظ على الإرث التاريخي الذي يعد الرصيد الإيجابي الذي نعتز به لكونه الاستمداد المعنوي لحركة النهضة ومعطياتها الحديثة، ولذلك نرى الاهتمام الذي يوليه الملك محمد السادس لهذا الأمر نظرة عميقة للإنسان المغربي وواقعه، مع ضرورة الانفتاح على هذا العصر وحضارته ورقيه المادي. حيث حرص جلالة الملك منذ توليه الحكم أن يكون المغرب نابعاً من صميم الواقع المغربي ومنفتحاً على حضارة هذا العالم الذي نكون جزءا لا يتجزأ منه. وقد حرص محمد السادس أن يبتديء من الأساس وهو الشعب المغربي.
إن الفارق قد لا تتضح خطوطه وحدوده إلا بعقد مقارنة موضوعية ومنطقية وعقلانية، فحين تعود الذاكرة إلى جزء يسير من الماضي فقط، وتقارنه بالحاضر، فإن معالم الصورة تتبدى في أوضح أجزائها وأدق تفاصيلها، من ملامح كانت معتمة إلى ملامح ساطعة تعبر مكوناتها عن لمسات إبداع وحذق من أيدٍ مبدعة وحاذقة، مُبْرزة دولة المؤسسات المستقرة. وبمشاركة المواطن المغربي مشاركة حقيقية في صنع القرار من خلال انتخابات حرة نزيهة تتيح له اختيار من يمثلونه... ودون أي تحفظات، وبمشاركة فاعلة للمرأة المغربية، ليتضافر هذا الحق مع حق التعليم والصحة والإنجاب والعمل وسائر حقوقها الأخرى.
وإذا كانت مسيرة التنمية قد أعادت للمغرب وجهه المشرق وتاريخه الحضاري ودوره الرائد في محيطه الإقليمي والعربي والدولي، فإن هذا الإنجاز ما كان أن يتحقق لولا السياسة الحكيمة والمستنيرة التي يقودها جلالة الملك محمد السادس والالتفاف الشعبي حول قيادته لبناء مغرب حر كريم أبيّ يتفاعل مع العصر ويتجاوب معه، وفي نفس الوقت يحفظ قيمها وتراثها ويستخلص منه العبر والتجارب النيرة.
والتوازن الذي حققته التنمية المغربية في عهد الملك محمد السادس كان أكثر اتساقاً مع الذات، وأقوى ارتباطاً مع الواقع، لأن هذه المعادلة العقلانية المتوازنة جمعت بين الثوابت والمتغيرات. فالثوابت إطار والمتغيرات حركة داخلة، وهذا يعني وحدة الأصل وتعدد الصور، فمثلاً الكون في صورته العامة وإطاره الواسع ثابت لكنه ـ بقدرته سبحانه ـ دائب الحركة بين ليل ونهار، شمس وقمر، صيف وشتاء وهكذا.
فعندما انطلقت مسيرة التنمية في المغرب بقيادة جلالته رسمت الملامح الأساسية لهذا التحرك نحو المستقبل بظلال الحاضر، ووازنت بين ما يجب أخذه وبين ما يجب تركه، بين الأخذ بتكنولوجيا العصر والعناية برصيد التراث، والتفاعل مع الحضارات الإنسانية وفق المصالح المشتركة وبين الاستمساك بالخصوصية والهوية الذاتية. فالحضارات لا تقوم إلا إذا توفرت لها المقومات الأساسية وعلى رأسها حب العمل بين الأمة الواحدة.
هذه النظرة المعطاءة المتوازنة التي راعتها التوجهات الملكية في انطلاقتها إلى الإنجاز الكبير بين الحاضر وتحدياته الحضارية والماضي الزاهر بتراثه وقيم المجتمع وعاداته وتقاليده العريقة، كلها كانت السند الأقوى في هذا العطاء والإنجاز الذي عم أرجاء المغرب، وكان بحق إنجازاً باهراً شهد له كل المتابعين لسير التنمية الحضارية بالمغرب.
فالذي تحقق من منجزات كان شاهداً على التوجه السليم للسياسات التنموية في البلاد بفضل التوجه نحو التقدم الحضاري والسير لبناء دولة عصرية تحظى باحترام الدول المجاورة. ويلعب المغرب اليوم دوراً حيوياً في الشؤون الإقليمية والدولية، ويمتزج عمرانه العصري بجماله الطبيعي ويكمله، كما استعاد المواطنون كرامتهم ودماثتهم وأريحيتهم التي جبلوا عليها من خلال انتقالهم إلى بيئة العالم المتحضر والجمع بين نكهة الشرق والغرب، وقد تم بنجاح توفير الدوافع لمشاركة المواطنين من كل الأعمار في كل جوانب الحياة في البلاد.
ونحن اليوم نخلد ذكرى عيد العرش المجيد، فكل مغربي مدعو إلى الحفاظ على مكتسبات هذا الوطن ومنجزاته، والمساهمة في إعلاء بنائه، وأن يترجم طموحات قائد مسيرة النهضة التنموية المباركة، ويواكب كل دقائق هذه المسيرة في حاضرها ومستقبلها، ويتحلى بالصبر والمثابرة، والجد والاجتهاد، فلا يوجد طريق للمستقبل مفروشاً بالورود، مع عدم الالتفات إلى المخذلين والمعوِّقين والكارهين والحاسدين والحاقدين.