رأي

سعيد بوخليط: هيّا نلعب.. نعبث.. فلننجب طفلا!

"قبل أن أتزوج كانت لدي ست نظريات في تربية الأطفال، أما الآن فعندي ستة أطفال، وليس لدي نظريات حولهم"، جان جاك روسو.

أحدس قبل الإدلاء بدلوي ردة فعل غوغائيي العقيدة وحراس تجمعات الوهم، الذين يكتفون دائما على سبيل الاستعجال بقراءة الرسالة من عنوانها فقط، ثم يشرعون في إطلاق العنان المجاني لألسنتهم، كي تقذف بكل شيء، مع أنها مجملا لا تقول أي شيء.

أشهر الردود المحتملة، الموغلة استكانة وعتاقة:

-"يا هذا! الزيادة في الخلق نعمة، والرزق منساب أثيريا، حتى يوم القيامة".

أما الثاني، وقد توهم أنه أكثر إفحاما من الأول، بحيث ينحو منحى مدنيا، منحازا إلى حرية الأفراد كي يفعلوا بأنفسهم ما يشاؤون:

- "يا هذا ! وما شأنك أنت !تلك مسألة خاصة تتعلق أولا وأخيرا باختيارات الشخص التي تبقى محض ذاتية وحرة بشكل خالص…".

من جهتي، أنا متفق تمام الاتفاق مع التصور الأخير، ولا خلاف في هذا الإطار؛ فلكل واحد الحق كي يصنع بمصيره ما بدا له مناسبا.

طيب، لكن مسألة الإنجاب العبثية، الفائضة تماما عن الحاجة، مع غياب منظومة سوسيو-تربوية تتكفل بأبسط الحاجيات الضرورية، مثلما نعاينها في مجتمعنا، بحيث لم تعد الحياة تستحق الحياة، فانتقلت من الدائرة الحميمة لأصحابها إلى الكلياني العمومي المنفتح على جميع الاحتمالات.

إن طفلا، يلقى به هكذا مجانا، وسط متاهة هذا العالم المنحدر بكل اللغات إلى الهاوية، فقط على سبيل: التسلية بالنوع، المكبوتات، العقد المرضية، الأخطاء، اللاأدرية، الأعراف الحمقاء، التقاليد الخرقاء، البيولوجيا الميكانيكية، ثقافة المواضعات الواهية، الأنانية، العمى، المزاجية، وهمية الاعتراف الاجتماعي، التطلع إلى الاسترزاق، إلخ... يعني مختلف ذلك، وغيره من فخاخ وألغام سياقات العشوائية والارتجال، لن يشكل في نهاية المطاف سوى ضرب مع سبق الإصرار والترصد لرمزية الحياة الحقة، وضرورة أن تكون الأخيرة متعة وخلقا وإبداعا وتأسيسا وانبعاثا جديدا وانبجاسا خصبا، مورقا، مزهرا .

الطفل، مشروع حياتي كبير. إنه أفق إنسان تستلزمه المقومات الوجودية الأساسية حتى يتحقق فعلا كإنسان. وإلا صار ببساطة غير الإنسان، يعني وقع خطأ في المسار النوعي بخصوص البذرة والاعتناء والتهذيب والازهرار والتقويم ثم التقديم النهائي. مما يحوله إلى مجرد صورة باهتة، بل مشوّهة عن الإنسان، بالتالي جحيما على هذا الإنسان نفسه، وتقويضا لنموذجه الأصيل.

إن طفلا ينجب خطأ، دون رؤيا أنطولوجية ورؤية مباشرة ورغبة وعشق وشغف وقصدية ورحابة مجال خاص وعام، لن يشكل في نهاية المطاف سوى مجازفة ثقيلة جدا، بكل دلالات الكلمة، ويغدو فقط تكريسا للفشل.

هذا ما ألاحظه بكيفية لا تخطئها الأعين لدى ولادات أغلب أفراد مجتمعنا، ولعل ما يضاعف ويوطد جحيمية ما يحدث، انتفاء المشروع المجتمعي المتكامل، الجدير حقا بأن يتقبل هذا الكائن الجديد بحب ووعي وفلسفة، واحتضانه ورعايته وتربيته وتوجيهه وتحفيزه، ثم استثماره في كليته، بحيث نشعر حقا بأن الإنسان ظل وسيبقى، أمد الدهر، الثروة الأممية الأولى.

شخصيا، لا أفهم في غالب الأوقات لماذا علينا المبادرة على نحو تلقائي بغير داع يذكر نحو إشعال مزيد من الحروب الدونكيشوطية مع طواحين الهواء، وافتعال معارك صغيرة تلج بنا حتما غاية متاهات سيزيفية تستنزفنا جملة وتفصيلا بجنون أمام طواحين الهواء ولا أمل كي ننتشل أنفسنا من كماشتها؟

صحيح، أننا لا نختار بالمطلق وطننا ولا انتماءنا ولا سلالتنا ولا أسرتنا ولا أجدادنا ولا آباءنا ولا سلالة أسرنا ولا إخوتنا ولا شكلنا ولا سحنة جلدنا ولا اسمنا ولا تاريخ ولادتنا ولا وطأة جزء كبير من حكايات ماضينا...، لكن بوسع المرء، وقد استوفى حقا درجة كافية من التمثل الإنساني الناضج تؤهله كي يدرك صفة إنسان، ويقطع مع درجة القصور الذاتي وفكر القطيع وترسُّخ الاستلاب، أن يقف ثم يغير المجرى صوب ما يريده وفق تطلع لا لبس فيه، مسؤولا عن اختياراته بكيفية حرة، ربما عاش بقية حياته منسجما مع ذاته قبل الآخر. أما استمراره في استنساخ أبله، لنفس مبررات المنظومة اللاعقلانية، تحت تسميات مختلفة بعيدة عن جوهر الحقيقة، مع عدم توقفه عن إظهار ضجره وامتعاضه حيال مختلف ذلك، لحظات البوح المنزوية، المتوارية، فأظنه حالة تقتضي جلسات إكلينيكية سريرية طويلة، قصد تشخيصه علاجيا.