تحليل

تدبير الماء في المغرب: تقييم المقاربات واستشراف المستقبل عبر استراتيجات ناجعة

لحسن حداد

الماء قطاع استراتيجي في بلادنا وهو مادة حيوية تكتسي أولوية قصوى في الحاضر والمستقبل.

نعم، خطى المغرب خطوات جبارة على مستوى تعبئة وتخزين المياه بفضل بعد النظر الذي كان للملك الحسن الثاني رحمه الله.

وبفضل توجيهات جلالة الملك محمد السادس، يجعل المغرب من الماء قضية ذات أولوية وطنية واستراتيجية.

ومع ذلك، فقد استهدفنا على مر العقود تعبئة المياه السطحية، دون التركيز لا على الاستغلال الرشيد لهذه الثروة، ولا تدبيرها تدبيرا جيدا، ولا الاقتصاد فيها ولا حتى إيجاد حكامة تُشرف على القطاع بشكل واضح وفعال.

النتيجة هي مفارقة كبيرة:حوالي 140 سد منتشرة في ربوع المملكة تُعبِّيء من 5 إلى 18 مليار متر مكعب في السنة (حسب حجم التساقطات المطرية) و في نفس الوقت ساكنة تعاني من النذرة والعطش والمعاناة في كثير من المناطق؛ في إقليم خريبكة هناك ستة سدود تلية بُنيت منذ سنوات لا تُستغل وغير مجهزة لضخ المياه نحو الساكنة. لقد كلفت هذه السدود عشرات الملايين من الدراهم بينما يعاني السكان في السماعلة وبني خيران وبني سمير وأولاد يوسف (بجعد) وأولاد لبحر لكبار والصغار من الخصاص والنذرة في الماء ابتداء من شهر يونيو (وحتى قبله في سنوات الجفاف العِجاف) ولا يبدأ تزويدهم بصهاريج الماء إلا في  منتصف يوليوز وبطريقة غير منتظمة في بعض الأحيان.

قِسْ على ذلك مناطق في ميسور وبوذنيب وبوعرفة والحوز والسراغنة والرحامنة وعبدة وحاحا وطاطا وسوس وكلميم وسيدي قاسم ومكناس وصفرو وحتى وزان والشاون وتاونات، والقائمة طويلة، وهي كلها تعيش العطش وتعاني من النذرة خصوصا في فصلي الصيف والخريف. 

تجاوزت بعض البوادي المغربية مرحلة الإرهاق المائي واقتربت من مرحلة الخصاص الحاد. ويعيش الفلاح في بوادي بجعد وبن جرير  ووادي زم وطنطان وتنغير وآسفي وشتوكة والصويرة وتيزنيت وتاوريرت وغيرها على وقع  معاناة يومية مع نذرة المياه.

هذا دون الحديث على المياه الجوفية والتي يتم استغلالها استغلالا بشعا في بعض المناطق. الفرشة المائية في سوس قريبة من الانقراض وفي مراكش وصلت درجات متقدمة من الانحدار نحو الأسفل. وفي مناطق مثل دكالة وعبدة والسراغنة والجهة الشرقية وزاكورة وغيرها، يستمر ضخ المياه من الفرشات بأساليب عشوائية ستكون سببا في انقراض هذه الثروة الباطنية  على المدى المتوسط وربما القصير.

أصبح النزاع  حول الماء واقعا يوميا في بعض المناطق.

لقد بدأت التغيرات المناخية تحط أوزارها على بعض الأرياف المغربية؛ بينما علَّمنا التاريخ الحديث أن القلاقل الاجتماعية التي أدت إلى توترات سياسية وتطورت إلى نزاعات أهلية في الصومال واليمن وسوريا وهايتي ومالي والنيجر أصلها تدهور بنيات إيكولوجية أسبابها التغيرات المناخية ونذرة المياه وغياب الرد الناجع من طرف حكومات هذه الدول.

سياسة المغرب استباقية في ميدان الماء ولكن يجب تجويدها وجعلها أكثر فعالية ونجاعة و محكومة بالتدبير الاستراتيجي والتتبع والرصد ومراكمة الخبرات والتجارب الناجحة. هناك إنجازات وهناك مكتسبات. هناك موارد بشرية كُفأة يجب الحفاظ عليها (رغم أن الكثير منها غادر الوزارة المكلفة بالماء منذ سنوات)، خصوصا وأن الحاجة للخبرة ستزداد في السنوات والعقود المقبلة.

وهناك إرادة ملكية تُحفِّزنا جميعا لتكثيف الجهود والوصول إلى المبتغى. ولكن يجب المرور إلى مقاربة تشاركية وأكثر تركيزا على مكامن الخلل واقتراح الحلول الآنية والمستقبلية وتتبع تنفيذها وتقييمها وإعطاء الوسائل اللازمة للمتدخلين. يجب المرور إلى السرعة القصوى إذا أردنا ألا نصل إلى الإرهاق الكلي فيما يخص هذه المادة الحيوية.

المسؤولية مشتركة بين الحكومة والجماعات والجهات والمستعملين والمجتمع المدني والساكنة. ولكن  الريادة يجب أن  تكون للحكومة.

نفقد تقريبا ما بين 70 و 180 مليون متر مكعب في السنة نتيجة توحل السدود (هناك اختلاف بين الخبراء في غياب وجود معطيات دقيقة حول كل سد سد وتطور التوحل فيه) ؛ ونفقد تقريبا من مائتين إلى ثلاث مائة مليون متر مكعب (ليست هناك إحصائيات دقيقة على هذا المستوى كذلك) نتيجة تقادم أو تآكل تجهيزات السقي والقنوات. هذا يعني أننا نفقد كل سنتين ما يعادل سد "مدز" بصفرو الذي ستصل طاقته 700 مليون متر مكعب وسيكلف 850 مليون درهم.

هناك تجارب دولية (الجزائر مثلا بشراكة مع فرنسا) تتمثل في إعادة استعمال وحل السدود في صنع مواد البناء يجب الأخد بها بسرعة. السدود المتوحلة هي قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة وحين، ويمكن أن تتسبب في فيضانات. بلغت نسبة توحل سد عبد الكريم الخطابي في الحسيمة تقريبا 100 % ومن الممكن إعادة استعماله إن تم تشجيع القطاع الخاص على استعمال الوحل لأغراض البناء وتمت إعادة صيانته حسب المواصفات المعمول بها في الميدان.

تُقَدَّر تكلفة التوحل والسقي الغير العقلاني واستعمال الفرشة المائية حوالي 600 مليون الدرهم سنويا. أما التكلفة البيئية (عدم تجدد بعض الفرشات، والتأثير على المنظومات الإيكولوجية على مستوى السافلة، وتغيير حياة الساكنة عند السد...) فهي ربما أكثر من ذلك بكثير.

من جانب آخر، حقق المخطط الأخضر للفلاحة إنجازات لا يمكن نكرانها ولكنه جاء غير مُرْفَق بدراسة دقيقة واستباقية ومتطورة للحاجيات من الماء. البطيخ الأحمر في زاكورة وضيعات النخيل الحديثة في بودنيب وزراعة البواكر في سوس والطماطم الصغيرة في الداخلة تطرح علينا أسئلة حول قدرة الفرشات المائية على تحمل النشاط الفلاحي المكثف في هذه المناطق. لا أدعو إلى التخلي عن هذه الزراعات ولكن علينا طرح الأسئلة المحرجة عن مدى استدامتها.

علينا تبني استراتيجية فعالة وناجعة  لتدبير ومحاربة التوحل في السدود، و الرفع من وتيرة سياسة إصلاح القنوات والتجهيزات، و الاستمرار في سياسة تشجيع السقي بالتنقيط، ووضع مقاربة ناجعة لمحاربة استعمال الفرشات المائية الغير المتجددة، ووضع مخطط طويل الأمد لتوعية المستعملين والمواطنين حول ضرورة اقتصاد الماء واستعماله استعمالا رشيدا ومستداما.

وهذا يقتضي وضع مؤشرات حقيقية للإنجاز. علينا التغلب على كل هذه المشاكل في غضون عشر سنوات إن أردنا أن نتجنب خطر الإرهاق المائي الذي يهدد المغرب.

هذا من ناحية اقتصاد الماء، من ناحية تعبئة الموارد المائية علينا أن نغير سياستنا فيما يخص بناء السدود. يجب أن تكون تجهيزات السقي والضخ والربط جزءا لا يتجزأ من مشروع بناء السد ويجب أن تكون جاهزة حال الانتهاء من البناء.

هناك سدود بنيت منذ سنوات، بل عقود، وكلفت ميزانيات ضخمة ولكنها لا تُستغل. هناك تجهيزات لتزويد جماعات في وزان والشاون وتاونات بالماء الصالح للشرب من سد الوحدة ولكن العملية متوقفة منذ 2012. وهذا أمر غير مقبول تماما.

نعم هناك إشكالية العقار فيما يتعلق ببناء السدود، خصوصا تعقيدات نزع الملكية ولكن، مقارنة مع التجارب الدولية في هذا المجال، فإن عملية بناء السدود تأخذ وقتا طويلا جدا في المغرب. نعم هناك أمور لا يمكن اختصارها ولكن هناك كذلك تجارب دولية قلصت بمقتضاها دول من مدة الإنجاز بشكل كبير. علينا الأخذ بهذه التجارب والإسراع في إنجاز 30 إلى 40 سد إضافي في غضون عشر سنوات من الآن.

لازالت حكامة القطاع دون مستوى الطموحات. المجلس الأعلى للماء والمناخ لم ينعقد منذ 18 سنة خلت. الآن وضعت الحكومة مرسوما خاصا بإعادة هيكلته، لهذا وجب المرور إلى مرحلة انعقاده بشكل منتظم وإعطاء سكرياتريته السلطة والموارد لتنفيذ توصياته وقراراته.

من جهة أخرى أعطى قانون 95/10 دورا متميزا لوكالات الأحواض المائية وأرادها أن تكون دركيا للماء في مناطق التدخل ولكنها تنقصها الإمكانيات وليست لها سلطة الردع ولا القدرة على التدخل لكي تقوم بدورها كاملا.

أضف إلى هذا أن المقاربة التشاركية التي قلنا بها منذ سنوات  لا زالت محتشمة وعديمة الجدوى في بعض الأحيان.

أما فيما يخص المكتب الوطني للماء والكهرباء فعلينا الحفاظ على توازناته المالية ليقوم بدوره في الاستثمار في توسيع شبكات الربط بالماء الصالح للشرب وفي التطهير السائل. لا يجب أن تكون السياسة الاجتماعية للحكومة في ميدان تسعيرة الماء على حساب توزانات المكتب الوطني للماء والكهرباء. يجب كذلك إعادة النظر في أثمنة الماء والرفع منها بالنسبة للشرائح الميسورة المسماة الأشطر العليا. ولا يجب أن نلقي بمسؤولية بناء محطات تحلية مياه البحر على المكتب. على الدولة تحمل بنائها على غرار السدود، عِلما أن تكلفة المتر  المكعب الواحد المحلى (من مياه البحر) سيكلف عشرة دراهم بينما يكلف المتر المكعب الواحد المعبأ عبر السدود 2,5 دراهم.

نُقِرُّ  بأن هذا قطاع معقد ومتشعب. ونقر بأن الماء يتطلب بعد النظر. ولكن علينا التحرك الآن وبسرعة. هناك مسائل آنية ومُلِحَّة: لايجب أن نترك ولو مواطنا واحدا في البوادي يعاني من نذرة الماء في الحاضر وفي المستقبل.

ويجب أن يكون لنا بعد النظر فيما يخص تعبئة المياه الغير التقليدية:  لا محيد عن تحلية مياه البحر لتزويد مدن ساحلية من أكادير حتى الداخلة ومدن أخرى في الشمال بالماء الصالح للشرب.

لقد قطعنا أشواطا لا بأس بها على مستوى إعادة استعمال المياه العادمة ولكن بناء محطات مكلفة غير كاف إن لم نضع التجهيزات الخاصة بنقل المياه بشكل موازٍ ودون انتظار. لقد تم بناء محطة بمليار درهم  في مراكش ولكن انتظرنا سنوات قبل ربط ملاعب الكولف والحدائق بها وهناك ملاعب للكولف لازالت تستعمل الماء الصالح للشرب للسقي.

الفرشات المائية مخزون استراتيجي. وعلى الحكومة تبَنِّي الصرامة مع من يستغلونها استغلالا بشعا فلاحيا كان أو سياحيا أو صناعيا أو غيره. يمكن إعادة ضخ المياه التي لا تتم تعبئتها عبر السدود لتطعيم الفرشات المائية. هناك استراتيجية في هذا الإطار وُضِعت منذ عشر سنوات لم يتم تفعيلها إلى حد الآن. التقنيات موجودة والتجارب الدولية الناجحة موثقة: يجب فقط توفر الإرادة السياسية ووضع مخطط ناجع للتدخل.

يجب أن نتخذ قرارا بأن الفرشات المائية موروث طبيعي للأجيال القادمة علينا المحافظة عليه بصرامة.

من جانب آخر، لم نبدأ بعد في تفعيل استرتيجية الاستغلال السياحي للسدود التلية. هناك مشروع لبناء سد تلي إيكولوجي سياحي يقي من الفيضانات ويزود ساكنة سيدي قاسم بالماء على واد رضم تم تقديمه في 2016 للكوب 22، لكنه لم ير النور بعد رغم أنه نموذجي في هذا الإطار.

الماء قضية حياة بالنسبة للمغرب. لهذا فإن أمر تدبيره تدبيرا أنجع يقتضي منا الوقوف عند الإنجازات، والحديث عن التحديات واقتراح  الحلول اسشترافا للمستقبل، مستقبل نتمناه زاهرا ينعم فيه كل المواطنين بخيرات بلدهم وموارده الطبيعية بشكل مستديم وعقلاني ودون تمييز أو تهميش.