رأي

محمد بودويك: واجبهتاهُ..

كأني بها تصرخ مولولةً نادبة، محلولة الشعر، متطايرة الغدائر، تستغيث بكل قواها وقد وهنت، وعقيرتها وقد بحت وانكسرت، بمن سينقذها من الغازي اللئيم، والذئب الزنيم الذي غزاها، وجرجرها، ومرغ كرامتها في التراب، وداس كبرياءها بجزمته الخرافية، ومزق عنفوانها وتاريخها ومجدها التليد، وحسنها الذي لا يدانيه حسن. وكأني بها امرأة التاريخ أو الأسطورة زمن المعتصم، التي شقت قميصها، وأعولت رافعة صوتها ودمعها من ذل وقهر، وقلة حيلة، بعد أن لطمها جندي من جنود الروم: واغوثاه.. وامعتصماه. فلم تجد من منقذ مهرول، وباسل مسرع وذي غيرة لا تضاهى، سوى المقدام المبادر الذي حزم أمره ولبى النداء، وتفاعل مع النواح والبكاء، إنه: ( جبهة الدفاع عن اللغة العربية ).

لقد استنفرت " الجبهة " قضها وقضيضها، وأحضرت كل ما من شأنه أن يفك أسرها، ويحررها من الجائر الظالم المتمثل في الآخر الغازي، المدجج والمعتز بلغته، والباخس المنتقص من لغة الجبهة، أقصد لغتنا، ومن أهلها والناطقين بها، والمشمرين عن سواعدهم من أجل فك غمتها وافتكاكها، وإعادة العز إليها، ونجمة السعد إلى سمائها وقد كانت تومض طيلة قرون في الليالي الداجيات، والأحوال الحالكات، والظروف المدلهمات.

إنها اللغة العربية التي أصبحت مدار سجالات عقيمة، وعنتريات خاوية وطائشة، ومزايدات سياسوية فجة وانتهازية، وطاووسية إيديولوجية فارغة، وقوملوجية طنانة. كما أصبحت موضوع تجاذبات وتنابذات أقرب إلى الانفلات والعقم، أبعد ما يكون عن التفكير المنهجي، والمعرفة العلمية المطلوبة، والحقيقة المرغوبة. ما يعني خلط المنافحين عن وضعها وحالها ووضعيتها الراهنة، بين الوجودي المصيري، والسياسوي المخدوم، والأريحية الكاذبة. كانها كانت بالأمس القريب، في أبهى حلة، وأعز مكانة، وأرفع شان داخل المؤسسات التربوية التعليمية في كل أطوار التعلمات والتمدرسات. وكانها لم تكن مهمشة ومبعدة عن الانشغال العام على مستوى أصحاب القرار، وعلى مستوى المجتمع والقاع. يستوي في ذلك التلاميذ والآباء والأمهات، وموظفو القطاعات الإنتاجية والخدماتية المختلفة. فالكل نظر إليها وما يزال، نظرة تبخيسية، معدا إياها لغة لا تسمن صاحبها، ولا تغنيه من جوع وإملاق، ولا توصله إلى هدف أجدى، ومركز اجتماعي أبهى.

وتاتي الآن المسماة: ( جبهة الدفاع عن اللغة العربية )، مصممة على إسقاط القانون المؤطر المصوت عليه الذي يسمح بتدريس العلوم الرياضية والفيزيائية والطبيعية بغيرها، أي بمنافسها اللغوي والثقافي والحضاري والوجودي: اللغة الفرنسية، واللغة الإنجليزية فيما بعد. يأتي من يزعم أنها في خطر ما لم يعد لها ما كان بالأمس بين يديها: أي تدريس تلك العلوم بها، وإلا ضاع أبناؤنا وبناتنا، وتاهوا واغتربوا، وفقدوا الشخصية الوطنية، والهوية الثقافية، والخصوصية الحضارية التي هي ناتج من نتاج اللغة واللسان، ومحصلة من محصلاته.

فهل صحيح أن تجريدها من الحق في تدريس العلوم، سيفت في عضدها أكثر، ويوهنها، ويأتي على البقية الباقية من عنفوانها وقوتها وتاريخها وحضورها، هنا والآن؟. وهل شهدت العربية إعلاء، وتسنمت ذروة وسؤددا عندما درسنا بها العلوم المختلفة طيلة عقود.. منذ الشروع في تعريب هذه المواد؟. ألم تكن مخلوطة وممزوجة بالعامية ديداكتيكيا في الفصول الدراسية، والأقسام والأطوار والمستويات التعليمية المتفاوتة، وبالفرنسية في كثير من الأحيان والأحوال والمقامات؟.

هل " صنعنا " وبنينا علماء في الرياضيات والطب والهندسة، والفيزياء والكيمياء، باللغة العربية القحة، والفصاحة المضرية المحض؟ متى وأين؟.

أليس الذين يصلون ويتألقون، ويصبحون نوابغ في العلوم، إنما هم ثمار ونواتج اللغات الحية الكونية التي تدار بها دواليب المعرفة والعلم والتكنولوجيا، والرقمنة، أقصد الإنجليزية والفرنسية إلى حد ما؟.

ثم أليس الذين أفاقوا واستفاقوا متأخرين، وسارعوا إلى تشكيل " جبهة "، وإطلاق النفير، هم أبواق إيديولوجية، وأوداج قوموية، و" كونتربصات " سياسوية، ما لم نستثن البعض منهم الذين نودي عليهم لدخول " النادي " فحشروا حشرا فيه، ليمنحوا النادي المتنادي، بريقا، وسطوعا ، وصدقية نسبية؟. أما الباقي، فنحن أعلم أنهم آخر من يفلح في تمرير كذبه، وانتفاخ أوداجه، ومزاعمه في الدفاع المفترى عليه. إذ أن فلذات أكبادهم، وأحفادهم وحفيداتهم يجهلون، إن لم يسخروا، لغة المتنبي، ويضحكون على العربية، والتربية الدينية، لأنهم، منذ المنطلق، رضعوا اللغتين الأُخْرَيَيْن. وهاهم تخرجوا ويحتلون المواقع والمناصب التي على البال، والسلسلة المنحدرة، الذرية الزرقاء تتابع دراساتها العليا في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والرياضيات، والرقميات، في كبرى الجامعات وراء البحار، وبلغة شكسبير، ولغة موليير، لا بلغة امريء القيس، ولا بلغة أدونيس، ولا طه حسين.

لكن، لا خوف ـ أيتها الجبهة الغيورة ـ على مصير لغة الضاد من تدريس العلوم المختلفة بغيرها من اللغات. فليس في ذلك مقتل للعربية، ولا طمس للهوية بأي حال، ولا فيه ما يجهز على ما فيها من نبض وروح وومض وإرادة بقاء واستمرار.

الأحرى أن نلتفت إلى ما تعانيه من اضطهاد وتهميش في عقر دارها من ذويها إن وطنيا أو في باقي العالم العربي، بعدم اعتمادها في الإدارة والمجالس، والمنتديات المسؤولة، والحوارات اللوجستيكية، والديبلوماسية، والسياسة الاقتصادية التي تدار في صالونات وأبهاء مخملية موصدة، ومحكمة الإغلاق.

الأحرى أن نرد لها الاعتبار الواجب في المناهج والبرامج، والمقررات الدراسية بإيلائها الاهتمام المعرفي والديداكتيكي والمنهجي المطلوب، وتجويدها، و" كشط " الزوائد والحراشف اليابسة عنها، وتزييت جسدها، وتلميع موضوعاتها، وضخ الحياة في شرايينها وأوتانها بربطها بعجلة الواقع الدوارة والمتحركة، عجلة الواقع الفعلي، والحياة المعيشة. وبتجويد مضامينها ومحتوياتها عبر الانتقاء والتنخيل والاصطفاء، والانتخاب. وحمل أصحاب القرار على صون وجودها باحترامها وتقديرها وأجرأتها. والأمهات والآباء والتلاميذ والطلبة، على تقديرها وتقدير أساتذتها ومعلميها، ومبدعيها، ومفكريها وفنانيها وفلاسفتها، وعلمائها المتنورين.

الخوف ـ أخيرا ـ كل الخوف منا نحن ـ الأدعياء ـ الذين يملؤون الجنبات والساحات والمحافل والتجمعات، نقعا وغبارا، ومُكاءً وتصدية، وزعيقا، وصخبا وضجيجا مدويا فارغا.

الخوف من ازدواجيتنا ومكرنا ونفاقنا، وخبثنا، وإظهار ما لانؤمن به في أعماقنا، ونسعى، بكل دهاء وغباء، إلى تكريسه، والتطبيل والتزمير له..؟.