رأي

مصطفى قطبي: المطلوب وزراء بعقول تصنع لا أجسام تلمع..

بما أننا في المغرب إزاء تغيير حكومي مرتقب فقد يكون مفيداً أن ننظر إليه من عدة زوايا لتحليل كيفية الاختيار والمعاني التي يعكسها ذلك. فهناك مدرستان فيما يتعلق بإجراء تغييرات كلية أو جزئية في أي حكومة: الأولى تقول إنه لم يعد يوجد كثيرون يرحبون بالانخراط في العمل العام بخاصة بعد أن أصبحت 'الميديا' بكل أشكالها سوطاً يجلد المسؤول صباح مساء بحق أو بغير حق، ويترتب على وجهة النظر هذه أن يدور الاختيار في دائرة ضيقة من شخصيات هي الأكثر ظهوراً وإن لم تكن بالضرورة الأكفأ أو الأفضل.
المدرسة الثانية تقول عادة إن المغرب أرض ولادة وإن 'اللي كيقلّب كيصيب' ورغم أن هذا القول صحيح على الأقل من الناحية النظرية، فإنه من المفارقات الغريبة أنك إذا سألت واحداً من أتباع هذا المنهج عمن يرشحونه لتولي حقائب وزارية فإنه نادراً ما ينجح في ذكر عدة أسماء تصلح للمهمة، وسرعان ما يعود إلى ترديد الأسماء الذائعة التي يعرفها المغاربة وليس لديهم تأكيد بأنها هي الأحسن أو الأفضل.
وعليه فإننا ومن باب الأمانة الوطنية أولا، والأخلاقية والمهنية ثانياً، أن نذكّر السيد العثماني رئيس الحكومة، المسئول عن اختيار الوزراء الجدد في التعديل المرتقب، أن يتقي الله ويخافه عند اختيار هؤلاء الوزراء، وأن يحرص كل الحرص على اختيار الأنسب منهم والأحق والأجدر والأنسب للمكان المناسب، لأنه سيحاسب على ذلك عندما يقف أمام الله عز وجل، وسيحاسب أمام التاريخ والأجيال القادمة عن ذلك الاختيار.
الكفاءات والسياسات، جناحان يحتاجهما كل وطن يريد أن يحلق إلى سماء الرخاء والأمن والاستقرار بمواطنيه، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يحلق بأحدهما مهما بلغت درجة قوته دون الآخر، كما لا يمكن كذلك أن يتمكن من الطيران بشكل صحيح ومتزن إذا كان أحدهما ضعيفاً أو يعتصره الوهن، فالمسألة مسألة اتزان ودقة، وتكامل وتجانس، لا يمكن أن يتحقق بالاعتداء أو الاعتلاء أو تغافل أو تهميش أو ضعف طرف على حساب آخر.
لهذا، لابد من وجود قاعدة معلومات دقيقة عن أهم الخبراء في المغرب في المجالات المختلفة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية واختلاف تكويناتهم وإنه لصحيح من الناحية النظرية أنه لا يزال يوجد لدى الدولة قاعدة معلومات ما يهم الخبراء لكن في اعتقادي أن هذه القاعدة تعرضت للإهمال والتشوهات والتحيزات وجوانب النقص المختلفة ما أفقدها الكثير من قيمتها. ومن سوء الحظ فإنه حدث بالتوازي مع ذلك عزوف تدريجي للكثير من الخبراء البارزين عن العمل العام وانصرافهم إلى شؤونهم الخاصة أو العمل في صمت في دائرة ضيقة أو حتى الهجرة خارج المغرب.
أيضاً فإن على الذين يقولون صادقين أن المغرب أرض ولادة، أن يشكلوا هم الآخرون قاعدة بيانات دقيقة عن الشخصيات ذات الخبرة التي تصلح لتصدر المشهد العام وتولي الوظائف الوزارية الكبرى. الأصل أن وجود حياة حزبية قوية هو الذي يفرز مثل هذه الشخصيات ويدفع بها لتكون على شاشة الرأي العام ليقدر كفاءتها ويزن جديتها ونزاهتها وبالتالي يتحمس أو لا يتحمس للدفع بها إلى المقاعد الوزارية أو غير الوزارية.
فلابد أن نعترف ونؤكد أنّ أسس إدارة المستقبل لأي وزارة، بل أهمها على الإطلاق ـ من وجهة نظرنا ـ هو اختيار الكفاءات المناسبة في مختلف مجالات وفروع العمل الحكومي، ووضعها في المكان المناسب والسليم لتحقيق الأهداف والطموحات الوطنية التنموية والنهضوية المأمولة، فوجود الوزير المناسب من حيث امتلاكه لسيرة ذاتية مليئة بالإنجازات الشخصية والوطنية والمؤهلات الأكاديمية والأخلاقية، بداية من القدرة على الإبداع والتخطيط الاستراتيجي والنظرة المستقبلية والاستشرافية والثقافة العامة، والمؤهلات الوطنية كالولاء للوطن ومحبته والإخلاص له، والمؤهلات المهنية والعلمية كالشهادة التخصصية والخبرة الأكاديمية والعملية، هي معايير رئيسية لا يجب التهاون بها أو إهمالها لتأثيرها سلباً أو إيجاباً على جودة العمل الوطني أو السياسات الوطنية، وبالتالي مستقبل الوطن واستقراره وأمنه وتقدمه.
وبمعنى آخر، إنّ وجود وزراء أو مسؤولين كبار من أبناء المغرب غير مناسبين في وزارات ومؤسسات وطنية، بسبب عدم امتلاكهم لسيرة ذاتية مناسبة تؤهلهم وتدعم ترشيحهم لتلك المناصب ذات الطبيعة التخطيطية بشقيها الاستراتيجي أو التكتيكي أو حتى الإدارية منها باختلاف أهميتها ومستوياتها وقطاعاتها وتوجهاتها، أو بسبب وضعهم في أماكن لا تتناسب وقدراتهم أو مؤهلاتهم... هي جريمة وطنية لا تغتفر، وتدمير ذاتي لمستقبل المغرب، وسبب من أسباب تخلفه وضعف تنميته، وجزء لا يتجزأ من امتدادات الفساد الإداري والاقتصادي، وضياع وهدر غير مقبول لثروات المغرب ومقدراته 'لا قدر الله'، وعقبة في طريق تقدمه.
وبكل تأكيد لا نتحدث هنا عن أي كفاءات وطنية أو أي سياسات حكومية، بل الحديث عن كفاءات وطنية مؤهلة وجديرة بالثقة الوطنية، لأنها تملك أولا الضمير الوطني الحي والحر، وثانياً الفكر الوطني المستنير، وأخيراً الإمكانيات والإنجازات الشخصية، القادرة على التعاطي مع المرحلة الوطنية والتاريخية بكل تحولاتها ومتغيراتها الحضارية والإنسانية والتنموية، وفي مختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، وسياسات حكومية تحمل بين طياتها رؤية ثاقبة للحاضر القائم والمستقبل القادم، لأنها في الأصل وليدة تلك الكفاءات الوطنية التي استحقت أن تكون في الزمان والمكان المناسبين، فإذا وجدت الكفاءات المناسبة وجدت معها السياسات المناسبة، والعكس صحيح.
ولهذا فلابد أن تُعتمد استراتيجية وضع الوزير المناسب في الوزارة المناسبة للوصول إلى الهدف المنشود بأسرع وقت وأقل مجهود وبجودة عالية، فلا يجوز على سبيل المثال لا الحصر اختيار وزير من الأفراد لديه دبلوم علمي تخصصي مهما بلغ مستواه الأكاديمي في الزراعة أو التجارة لإدارة مؤسسة رياضية أو تربوية، أو دبلوم تربوي لإدارة مؤسسة زراعية، أو دبلوم في التربة أو البيطرة أو علم الحيوان أو النبات لإدارة مؤسسة تدير خدمة اجتماعية مدنية أو عسكرية أو موارد بشرية لا شأن لها من قريب أو بعيد بذلك التخصص الذي يملكه ذلك الوزير، كما لا يمكن القبول لا من حيث المنطق ولا العقل ولا الحكمة ولا الولاء الوطني بوضع شخصية وزارية لمجرد انتماء قبلي أو ولاء شخصي أو كمكافأة أو منحة، فالمغرب وثرواته ومقدراته ومستقبله فوق كل الاعتبارات والاستثناءات القبلية السياسية أو الولاءات الشخصية.
بوصلة حكومة العثماني الثانية والمرتقبة، في نظرنا يجب ضبطها على أنغام مطالب الرأي العام، والمواطن المغربي يأمل أن تكون بداية جديدة للحكومة المرتقبة يريدها المواطن كما يريدها الملك محمد السادس، أن تعمل بدماء جديدة، أن تعمل بشفافية، وأن تعمل دون توقف كما يجب أن يكون سنداً لها في عملها الإصلاحي والتطوري، بخاصة أن لكل فئة اجتماعية مطالبها المحقة، العمال لهم مطالب، الفلاحون، الطلبة، الحرفيون، الجامعيون، المعلمون، المهندسون، الأطباء، الشباب وفرص العمل، الإعلاميون... وعلى الحكومة المرتقبة أن تمثل جميع هؤلاء وتعمل بكل جدية ونزاهة في تحقيق احتياجات المواطن والوطن، والابتعاد عن الروتين والفساد والاتكالية في العمل، وأن تنجز الخطط المقررة والمطلوبة وتبتعد عن المركزية، وتسهل الإجراءات، وتحاسب المقصرين والفاسدين وتكافئ المجدين والمبدعين، وتخلق فرص عمل للعاطلين عن العمل، وتعالج كل قضايا المجتمع...
إنها مهام كبيرة وواسعة، مهام وقضايا وواجبات وملفات تحتاج إلى زخم في العمل وسرعة في الانجاز لكن بشرط عدم التسرع في اتخاذ القرار.‏ فأمام حكومة العثماني الثانية تحديات اقتصادية صعبة لكن من قال إن التحديات الحكومية سهلة في أي مكان آخر في العالم؟