قضايا

استقالة المثقف

عبد الصمد بنشريف

إن أي مشروع تنموي وطني عادل و إصلاحي وديمقراطي و تصالحي  لن يكتب له النجاح، ما لم يعتمد ويتكئ إلى رأي عام مهيكل، وواع بمصالحه وحقوقه، وأحزاب قوية ومنظمة واثقة من نفسها ولا تسكنها الاوهام والأساطير والخرافات السياسية. وذات قيادات ناضجة  وواقعية ومسؤولة وغير وصولية تمتلك رؤية واضحة ومشاريع مقنعة ونخبا فاعلة ومنتجة وتستند إلى قواعد حقيقية وليست افتراضية. ولا تتخصص في بيع الوعود المدغدغة للعواطف. ونقابات وازنة ومؤثرة وذات مصداقية  تشتغل وفق استراتجية وأهداف محددة ولا تمتهن الانشقاق وتسويق الاستقرار الاجتماعي المغشوش  ومواطنين فاعلين وإيجابيين متمردين على الكسل والرشوة والفساد والاتكال والتسول والمذلة ، فهؤلاء هم من سيصوت لصالح المشاريع التي تهم حاضرهم ومستقبلهم ، أو سيصوتون ضدها ليزدادوا بؤسا وفقرا وتهميشا ومعاناة .
وفي السياق نفسه، تطرح جدلية المثقف والتغيير، حيث أصبح الحديث جارياً، ومتداولاً على نطاق واسع، عن استقالة المثقف، وانسحابه من المجال العمومي، وإعلانه قطيعة مع الأحداث والوقائع، من خلال انخراطه في عزلة اختيارية.خاصة في ظل تفكك مؤسسات الوساطة الثقافية وانهيارها بالكامل كما حدث لا تحاد كتاب المغرب الذي أصيب بنكبة غير مسبوقة في تاريخه.
كما مثقفون كثيرون بخيبة أمل كبيرة، وبإحباط شديد، لاعتباراتٍ كثيرة ومتداخلة، أبرزها التحولات الجذرية التي مسّت وظيفة المثقف وصورته في المجتمعات العربية، ومنها المجتمع المغربي، بحيث لم يعد يتمتع بالقيمة الاعتبارية نفسها، وبالرمزية التي كانت له في العقود الماضية، ولم يعد مصدر إزعاج أو استفزاز للدولة، عندما كانت الأخيرة تهاب المثقف، وتحسب له ألف حساب، وكانت تعتبره خطراً عليها، عندما كان  يرمز إلى الثورة والتغيير والتجديد، وحتى تلك المكانة التي كان يحتلها في البنيات الحزبية لم تعد قائمة، فبدل أن ترتفع أسهم المثقف في بورصة السياسة، نجد أنها هوت إلى أدنى درجة، فيما يشبه عقوبة من السياسي تجاه المثقف، أما الدولة، بمكوناتها ودواليبها ووظائفها، فقد خططت، منذ سنوات، لاحتواء المثقف وتدجينه وإغرائه، في مسعى حثيثٍ إلى تحييد فاعليته، وطمس إشعاعه، فتحقق لها هدف قتل المثقف، من دون أن تدرك أنها، بفعلها ذاك، ارتكبت خطأً جسيماً، كونها استأصلت من المجتمع أدوات التفكير العقلاني، والإنتاج الرمزي، وحوّلته، تبعاً لسلوكها المتوجس، إلى صحراء، لا ماء فيها ولا كلأ.
مع ذلك، هناك مثقفون وقفوا في وجه العاصفة، واعتنقوا خيار المقاومة، وعلى الرغم من تشوهات طالت المجتمع، وتحولات شملت كل الأنماط والسلوك والقيم، وعلى الرغم من احتقار شرائح واسعة من المجتمع الثقافة والمثقفين والعقل، وعلى الرغم من التهميش الذي تمارسه وسائل الإعلام ، وعدم انشغال عدد من مسؤوليها بالشأن الثقافي، فإن هذا الصنف من المثقفين يحرص على المشاركة في النقاش العمومي، والالتزام بمصاحبة ما يحدث في المجتمع ومواكبته.
من هنا يأتي سؤال، لماذا يكتب الكتاب ولمن يكتبون، إذا كان مجتمعهم هجين التركيب والتكوين ويرفضهم؟ هل في وسع الفكر أن يغيّر شيئاً في الواقع؟ وهل يوجد استعداد لدى صانعي القرار للإنصات إلى ما يقترحه المفكرون والمثقفون، وما يقوله المحللون، والاهتمام بما تنشره الصحافة من أخبار وتقارير وتحقيقات.
ومِن دون مزايدة، لم تتأسس بعد في مجتمعاتنا ودولنا ثقافة وسلوك تقدير وتثمين ما يكتبه المفكرون والكتاب والمحللون، وما يطرحونه من اقتراحات وحلول وأفكار ، وكأن مجهودات هؤلاء لا تعدو أن تكون هراءً، أو صيحات في وديان تسكنها الغربان وليس الإنسان.