رأي

عبد الله بوصوف: المواطنة و التعددية اللغوية و الثقافية

يكـاد يكــون الحديـث عن الـمواطنة و التعــدد الـثقافي و اللغــوي أو البْـلُـُـورالــيــزم و عـلاقـته بالمواطنة…. كالمشي فوق رمال متحركة او كالمشي في حقل ألغـام ، مما يفرض على كل متحدث او باحث و حتى المتلقي الكثير من الانتباه ، حيث يطرح عـدة إشكاليات سواء على مستوى التعريف الاصطلاحي أو على مستوى تعدد الفاعلين و في اكثر من مجال بين السياسي و الحقوقي و الفكري و الديني و القانوني …او على مستوى طريقة الاشتغال و التتبع و تقييم نتائج السياسات العمومية في هذا المجال….

وهـو ما يُبــرر الكم الهائل من الانتاجات الفكرية و الفلسفية و الأدبية و الفنية ، كما شكل موضوعا مثيـرا للتحقيقات الإعلامية و لتقارير المنظمات الحقوقية….
تراكمات فكرية عديدة و أسماء وازنة ارتبط اسمها بموضوع التعددية الثقافية و المواطنة ، وربْطها بالـتفكير الليبيرالي الحر و العـولمة مـرة ، و بمنسوب الديمقراطية مـرة أخرى ، أو بحصر زاويـة نقاشها في المفهوم الاصطلاحي للتنوع الثقافي باعتباره مـوضوع بحث في علوم السلوك الإنساني أو الانتـروبولوجيا أو علــم الاجتماع أو العلــوم القانونية أو العلوم الاقتصادية أو العلوم السياسية …
فهي علاقة بين الفرد ( المواطن) و الدولة (الوطن ) و هي العلاقة بين الفرد و المجتمع و هي علاقة الفرد ( المواطن ) ســواء كوحدة انتاج أو استهلاك داخل المجتمع وهي أيضا علاقة حقوق أقليات أو الاعتراف بحقوق الأقليات….
تـلك إشكاليات حـاول الإجابة عنها كل من الكندي ويــل كيميلكـا في كتابه ( المواطنة متعددة الثقافات ) و إيـريـس يُـونغ في كتابه( العدالة و سياسات الاختلاف ) و شارل تايلور في كتابه ( التعددية الثقافية و صراع الاعتراف) … و غيرهــم كجاك أطالي في كتابه ( من سيحكم العالم غدا ) و فرانسيس فوكوياما و كذا جوفاني سارتوري في كتابه ( التعددية الثقافية ) أو بيل هيرمان في موضوع الأقليات في المجتمعات العاصرة…

و اعتمادا على كل هـذه المنطلقات ، فان مــرد موضوع المواطنة و التعددية الثقافية و اللغوية هي كل حركات الهجرات التي عرفها العالــم خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين ، إما لــدواعي الحروب أو التغيرات المناخية أو البحث عن مكان آمن أو للارتقـاء الاجتماعي… خاصة الى بلدان أوروبا الغربية و شمال أمريكا…
وهــو الواقع الذي أفــرز عن خريطة اجتماعية جديدة بهرمية سكانية جديدة و بثقافات و لغات و عادات و ديانات و اعراف جديدة في المجتمعات المعاصرة…وهو ما أفــرز ظاهرة مُجتمعية جديدة أي الأقليات و ما تلا ذلك من حركات إنسانية و حقوقية للدفاع عن حقوق الاقليات ، فبيل هيـرمان مثلا قـسم الأقليات الى شعوب أصلية كالهنود الحمر و أقليات قومية كالباسك في اسبانيا و الغال في بريطانيا و أخيرا المهاجرين…
و كنتيجة لـذلك بـدأنـا نُـناقش إشكاليات الهُويات و الاندماج ، و هل يجب الانصهار التام في الثقافة الجديدة و التخلي عن الهويات الاصلية …و اعتماد سياسات عمومية لظاهرة الضواحي و الغيتوهات و السماح بوجود فضاءات عمومية للعبادة و غيره …كإجابات سيـاسية عن كل هــذه الإشكاليات…

و كغيرها من ظواهر السلوك الإنساني فان إشكالية المواطنة و التعددية الثقافية و اللغوية، قد عرفت نقاشا سياسيا حادا حسب الزوايا المتعددة الخاصة بكل أيديولوجية فكرية و بكل توجه سياسي حزبي بين الأحزاب الليبرالية و الأحزاب اليمينية و اليمينية المتطرفة ، مما جعلها منها ورقة انتخابية بامتياز، بين اعتبارها تهديـدا للثقافة و السيادة الوطنية و بالتالي اعتماد السياسة الحمائية و رفض الآخـر و بين اعتبارها قيمة مضافة و مصدر غنى و بالتالي يجب تشجيع الانفتاح على الهويات الاخرى و ترسيخ قيــم العيش المشترك…
و من جهة أخرى، ينصح العديد من الـدارسين و المهتمين بموضوع التنوع الثقافي وهو كأحد نتـائج الهجـرة ، بضرورة استحضار الفضاءات العمومية لفهم ظاهرة التنوع الثقافي بشكل أوضح ، و نعني بذلك فضاءات عمومية كالمدارس و الجامعات و المسارح و السجون أيضا….
ففي فصل دراسي بإحدى الـدول الأوروبية مثلا ، يجد المُـعلـم نفسه أمام أطفال من جنسيات مختلفة و من ديانات مختلفة و يتكلمون أكثر من لغــة… و كـل هـذا يُـؤثـر و بلا شك في طريقة لباسهم و كذلك في اختياراتهم في المطبخ المدرسي… و نفس الأمــر – يُضيف الباحثون – نلاحظه في الحافلـة او بالقطــار…حيث ركـاب من كل الجنسيات و لُغــات مُتعددة و ديانـات متعـددة و لبـاس مُتعـدد…

إننا نعتقـد الى حد الايمان ، أن التنوع الثقافي و اللغوي داخل المجتمعات المعاصرة ، هو في حد ذاته قيمة مضافة لها ، فهي من جهة تمنـح الـفرد ( المواطن ) و المجتمع ( الوطن ) الـقُـدرة و الفرصة على المعرفة و التواصل مع العـالـم… كما يُساهــم – التنوع الثقافي – في إغناء الفضاءات بأكثر من وجهة نظر و بأكثر من فكرة في موضوع واحـد ، وهو ما يُساهــم في فهم أعمق و بالتالي في ابتكـار إجابات سياسية أحسن من جهة ثانيــة…على اعتبار ان هجـرة الأشخاص هي أيضا هجرة أفكار و معتقدات و ثقافـات و لغــات و نُـظم…..
و لأن التعدد الثقافي و اللغوي كظاهرة مجتمعية عرفت تدخل الفاعل السياسي بخلفيات أيديولوجية متعددة باعتماده على سياسات انـدماج عمومية مُـتعددة أدت الى نتائج متفاوتـة ، فـقـد دفــع المستشارة انجيلا ميركل سنة 2010 الى التعبير عن عــدم رضاها عن تدبير سياسات التعدد الثقافي و التي لـم تحقق هدف الاندماج خاصة للجالية التركية و العربية داخل المجتمع الألماني المتنوع الثقافات ، و قــد سار في نفس اتجاهها كل من البريطاني دافيد كامرون و الفرنسي ساركوزي سنة 2011 حيث لاحظوا ان المجتمعات الأوروبية أصبحت مجتمعات فسيفسائية و غير متجانسة و هناك انعزال الأقليات في الضواحي و غير ذلك مما جعلنا امام سؤال جديد يتعلق بفشل أو جدية التعدد الثقافي كجواب عن التنوع الثقافي في دول الاستقبال….

ففي ظل كل هــذه التجاذبات الفكرية و القراءات و القراءات النقديــة ، فإننا نقف على وجود عــدة قواسم مشتركة منها ضرورة إهمال الفوارق بين الهويات المتنوعة داخل المجتمع الــواحد ، و ان المجتمعات المتعددة الـثـقافات تنتفي فيهــا تـراتبيــة أو أفضلية ، بـل هناك اعتراف متبادل بين الهويات و انه لا يُــوجد أفضل من أو أقـل من و انما يُـوجــد مختلف…

كـل هــذا يقودنا الى فكــرة مفهـوم ” المواطنة ” الــذي يقــوم على أساس اعتراف قانوني و سياسي و ثقافي و اجتماعي للتعايش بين مواطنين متنوعي الثقافات و اللغات و الديانات و الأعراف..
فـالمواطنة أو الانتماء المشترك الى قيـم مشتركة للوطن الواحد تحفظ حقوق المواطنين و تضمن تنوعهم اللغوي و الديني و الثقافي داخل دولـة موحدة تحتكـر تنظيم المجتمع و تحتكر سلطة التشريع و سلطة العقاب و سلطــة التنظيم… خارج كل أعراف العشيرة و الطائفـة ، أي مواطنة في إطار دولــة الحق و القانون…اي ان المواطنة هي التي تُـحدد الهوية الوطنية الموحدة داخل مجتمع متعدد الثقافات و اللغات…
و في معنى آخـر ، فإن المواطنة داخل مجتمع متعدد الثقافــات ، هي اتـفاق سياسي يُـقلل من صراعات الهويات و ينهيها بصفة هادئة، وهو ما يخلق ” مجتمع سياسي جديـد ” غير مؤسس على مقومات هــوياتية لمجموعات داخل المجتمع الواحد ، على اعتبار تواجد فروقـات قــوية بين الهوية و المواطنة ، فالمواطنة الموحدة هي الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها ادماج افراد المجتمع و الثقافات الغير الاصلية داخل الاتفاق السياسي أي المواطنة ، و بالتالي إعطاء تلك الأقليات طابع تمثيل سياسي قوي ، لأنها – المواطنة – مُؤسسة على فرضية الحفاظ على حق الاختلاف ، لنصل الى نفس النتيجة أي ان المواطنة هي الوسيلة الفعالة في حل كل مشاكل صراعات الهوية داخل المجتمعات متعددة الثقافــات…

ومن جهة أخرى ، فإننا نُـشيد بجُـرأة المشرع المغربي و بحُسْن قــراءته لإشكالية المواطنة و التعدد الثقافي و اللغــوي بالمغرب ، وذلك من خلال تأكيده على شرح مفهوم المواطنة و الهوية الوطنية سواء في تصدير دستور 2011 بقــولــه:
” إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.
‎المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية…”

أو من خلال الفصل الأول من دستور 2011 ، حيث التأكيد على ان الوحدة الوطنية متعددة الروافد ، أو الفصل الثالث منه الذي يضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية ، أو الفصل السادس منه حيث رسم خطوط الاتفاق السياسي و الاحتكام الى محددات دولة الحق و القانون و التي تضمن الحرية و المساواة و المشاركة لكل المواطنات و المواطنين ذاتيين او اعتباريين…
بمعنى اخر فان المواطنة هي القاسم المشترك و الانتماء المشترك لكل المواطنين داخل المجتمعات المعاصرة بعيدا عن أي نزعة طائفية او عرقية او لغوية… حيث المواطنة هي الاتفاق السياسي و الاجتماعي و الثقافي و حيث الوطن هو السقف الآمـن للعيش المشترك….