تحليل

حين تنحرف السياسة

إبراهيم أقنسوس

يكثر الحديث عن موت السياسة عندنا، والأمر في تقديري يحتاج إلى وقفة تبدو ضرورية؛ ذلك أن السياسة لا تموت ولا يمكن أن تموت، وإنما تنحرف وتتيه عن مسارها الطبيعي، وتنزلق إلى ما لا تحمد عقباه، حين ينعدم المنطق، وتضطرب الرؤية، وتتداخل الأخلاط. السياسة لا تموت لأنها رديفة الحياة، وقدر الإنسان، بها ومعها، يقضي كل لحظاته، مذ يعقل، إلى أن يغادر هذا العالم؛ ذلك أن له ضرورات بدهية، وله حاجيات طبيعية بها يحيى، وبفقدانها يموت أو يشقى أبد الدهر، ومن ثم تجده يطلبها باستمرار، ويلح في الطلب، وهذا هو عين السياسة؛ إذ كيف يحيى الإنسان مواطنا بلا شغل يضمن كرامته؟ وكيف يحيى بلا أكل وشرب يسد جوعته؟ وكيف يحيى بلا علاج لأسقامه؟ وكيف يستمر في هذه الدنيا بلا بيت ولا مسكن يؤويه؟ ومن ثم كان من الطبيعي جدا أن تجده يسأل باستمرار عن أثمان الأشياء، ويبحث بلا كلل عن حقيقة الخدمات المعروضة عليه، ويبدي التذمر من فحش الغلاء الذي يهدد وجوده، ولا يخفي سخطه من سوء المرافق وتردي الخدمات التي يلقاها..

والمطلوب في حالته هاته أن يجد من ينصت إليه، وينكب على مواجعه فيعالجها، ويوفر لها الحلول المطلوبة، هنا يكون للسياسة معناها، وتأخذ طريقها الطبيعي، وتتجلى في بعدها الإيجابي، وهذا ديدن البلاد التي تقدر مواطنيها وتحترم وجودهم.

أما حين تتحول السياسة إلى سخط وتذمر وغضب، من جهة المواطنين، يقابله، صمت وإهمال ولا مبالاة، من جهة من انتدبوا أنفسهم للقيام على خدمتهم، فهنا تنحرف السياسة، ويتغير مسارها، وتتحول إلى اتجاهات غير منضبطة، وإلى ردود فعل غير مأمونة العواقب. فلا وجود لإنسان لا يغضب حين يجوع فلا يأكل، أو يمرض فلا يجد علاجا، أو يجن عليه الليل، فلا يجد مأوى وسكنا. إن السياسة لا تموت، وإنما تنحرف، وتفقد منطقها، وتتحول إلى فوضى منذرة بخراب العمران. إن السياسة لا تموت، لأنها تعني السؤال الدائم عن الجدوى من الحياة، عن معنى العيش الكريم، عن معنى الانتماء إلى وطن، تريد أن تفخر بالانتساب إليه فإذا به يجافيك، ويبالغ في صدك، ويصر (كباره) على قتل ما تبقى فيك من فسحة للأمل.

السياسة لا تموت، بل تنحرف، ولانحرافها مؤشرات وتجليات، حين يتعب المواطن فيصمت كلية، خوفا أو يأسا، أو يغالي في الغضب، حين يزداد الغني غنى، والفقير فقرا، حين يأخذ البعض كل شيء، ولا يجد الآخرون أي شيء، حين ينتقل البعض على وجه السرعة للعلاج في كبريات المصحات، خارج الوطن، ويموت الآخرون على أبواب مستشفيات بئيسة، حين يتخذ البعض عشرات الكيلومترات مرتعا للنزهة، ولا يجد الآخرون غرفة تؤوي أجسادهم المنهكة، في آخر النهار. حين يحدث كل هذا، ثم يقابل ببرود عجيب، وبخطب ووعود وإنشاء، ومن طرف من يملكون القرار، وحق التصرف في مقدرات البلاد والعباد، هنا تنحرف السياسة، وتتحول إلى منطقة الخطر. وإن من المهام الرئيسة، لمن انتدبوا أنفسهم لسياسة أمور البلد والعباد، أن يحرصوا دوما على ضمان عدم انحراف السياسة، لأنهم، هم وحدهم، من يتحمل القسط الأكبر في هذا الانحراف.

لا تتحدثوا عن موت السياسة، ولا تبحثوا عن ذلك، ولا تنتظروه، بل فكروا مليا في انحرافها، وعواقب ذلك على البلاد والعباد.